رحيل صاحب الصمت العالي بسام حجار: الشاعر في صحبة الظلال
يقظان التقي
رحل أمس الزميل العزيز من قسم “نوافذ” الشاعر بسام حجار عن عمر يناهز الثالثة والخمسين عاماً بعد صراع مرير مع المرض الخبيث، وكان رحيله صمتاً مفجعاً مطبقاً وعنيفاً. قصفه الموت قبل اتمام مسيرته وألقه والتماعه وتجربته شاعراً وكاتباً وناقداً ومترجماً وفي كافة أحواله.
رحل بسام حجار هو الذي عاش بين هجرات الحروب وجولات العنف وهجرات السلم، هو الرافض للعنف والقتل والإلغاء وحروب الآلهة جميعاً وجنون الطوائف والمذاهب والتعصب.
لجأ أخيراً الى الموت، الى عالمه واعتزل بعزلة قاسية وفي غربة رافقته الى داخله طويلاً خارج الكرنفالات والأضواء، هو الذي كان بالكاد يؤمئ الى ذاته وبتجريدية عالية وداخل تجربته ومكانه ولغته وشخصيته وبيته وقصيدته.
رحل صاحب الصمت العالي وانت بالكاد تتنسمه من بعيد، تحت الصمت، وتحت الهمس.
إذ تراه مصادفة المصادفات الكبرى على هامش من الحضور الشفيف والرهيف والمتواري عن أي جلبة، الساخر النظرات، القاسي، لكن المرهف والجمالي.
رحل بسام حجار في لعبة ليست جديدة خلف الأضواء، في التواري والاختفاء تاركاً حضوراً خصباً مقيماً محرراً وكاتباً وشاعراً عُرف بالقدرة على استلهام اليومي على نحو تبدو معه التجربة الشعرية تعبيراً عن علاقات محددة ومباشرة بأناقة الكتابة الخاصة وبأجواء شبه سرية وبارتدادات شبه دائمة الى حرب مأسوية قلقة.
تقرأه لغة مركّبة موحية بذاتية، وبكيمائية لغوية مكثفة وبخصوصية جمالية في التعاطي مع اللغة.
رحل وهو لم يكمل مسيرته. قدم الى المكتبة اللبنانية العربية انتاجاً شعرياً بنكهة فردانية متعددة متمايزة وخاصة، كما قدم الى القراء أجمل الترجمات ممسكاً بمفاتيح لغوية بشيفرات محددة واسعة الرؤيا وباهرة تكتب وتبحث عن أشياء خاصة وكبيرة.
هو المثقف المتطلع بعمق الى الأشياء، شخصية بالغة الحساسية، مستبطنة لبعض من الغموض في استخدامات اللغة والصورة والرمز باستيحاءات حداثية ومعاصرة لم يدخل اليها كثيرون.
كان حضوره يرسم ملامح جرح والم وقلق هكذا من دون جلبة. آخر مرة رأيته في مصعد الجريدة كان كما الظل الواقف على قدميه بين الزمن واللازمن، والعمر الذي يضيء في خصلة “الشعر الأبيض أثراً وراء الوجه من ذلك الهواء الشاعري غير الشكلاني بالمطلق.
هي جدولة الشعر، كشجرة انسانية، كأن تبحث خلف الرحيل، خلف الفصول كالجوهر الذي يتمزج بذاتية وبفكر نادراً ما يتكلم. وقصيدته كتابة متداخلة في عمق القلق وفي عمق الحالة الشعرية المركبة الشعر ذلك العمل المكتوب بهواجس المادة الوجودية.
في الآونة الأخيرة انتقل ولم ينتقل بسام حجار الى الكتابة اليومية شبه السياسية، لا أدري اذا كان يلعب في الزمن الميت للشعر هو ابن تلك الجمالية الشعرية التي لم تسكتها الحرب لا عن الحرية ولا عن التمرد.
كانت كتاباته الساخرة والتهكمية بمثابة امتياز الصفحات بأدوات تعبيرية لغوية وكأنها لوحات نقدية عالية النبرة واسعة الرؤيا وساحرة. كتابات في ملحق “نوافذ” تشير الى عقم الدوامة اللبنانية الفوضوية حيث السلم الأهلي والتعددية والتنوع تسقط في مأساة الحرب مرة ثانية وثالثة وأكثر. كانت نثريات محملة بماويتها الكيانية وبالسخرية من قيم سياسية محملة بكل أدوات الترغيب والترهيب والأصابع العليا المرتفعة بوجه الحريات العامة محاولاً تفكيك الخطاب السياسي مؤشراً ليس الى ماضي الكلمة واللغة بل الى مستقبلها بوضوح وموضوعية وبحساسية مع عدم الارتهان الى رؤيا سياسية وحزبية ضيقة أو محددة.
برحيله نفتقد زميلاً عزيزاً، ونبحث خلفه في الرحيل عمن كان يعبر الى الجريدة يومياً والى عمله وقلمه ممسكاً بقلمه كما حضوره كالهواء ونتاجاته تقترح علينا أن نقرأها جيداً في اتساع افق القصيدة والسّيرة وعمق قرارها.
نفتقده يرحل خارج الفصول كالجوهر الذي يمتزج بغيابات تتكرر بعميق الحزن والأسى كأنما صار الغياب في هذا البلد هو نكهة صقيع يأتي ولا نعرف مكانه بالضبط..