شهادات من شعراء ومثقفين ومفكّرين وسياسيين في بسام حجار
رحيله خسارة كبيرة!
سمير فرنجية (نائب)
هي خسارة إنسان عرف كيف يحترم الآخرين، لأنه كان يحترم نفسه، ويبحث بهدوء عن علاقات إنسانية محررة من تراتبية فظة وأفكار جاهزة ترسم حدوداً صارمة بين الناس. لذلك كان بسام متواضعاً تواضع القادر باستمرار على مراجعة الذات، والباحث عن حقيقة قيد التبلور الدائم. رحمه الله!
يكتب ببطء ويموت بسرعة!
هاني فحص (علاّمة)
بسام حجار
يكتب ببطء شديد ويموت بسرعة.
هل هي مفارقة إبداعية؟
وهو… بسام… حفنة مفارقات. عابس.. عبوس.. متجهم.. غارق في أوراقه.. عالق في نافذة من نوافذ “المستقبل”.. حزين! لماذا؟ علام؟ عنده حق.. هو على حق، كل شيء يدعو الى الحزن.. وتقترب منه على حذر. تهاجمه، تمازحه، يفتح لك نافذة قلبه، وأنت تعرف عقله.. يبتسم يضحك، يفرح حتى كأن العبوس اسم آخر، مجاز أقرب الى الحقيقة من الحقيقة.. اسم آخر للفرح.. للبهجة، للسرور، للإنشراح، للبسط، الانبساط.. ثم انه معتصم بصمته الى أن تجبره على البوح.. فيقول كلاماً بليغاً أبلغ من الكلام، قريباً من بلاغته من بلاغة صمته… هكذا البلغاء.. الذين يبلغون بالكلام عمق المعنى… معنى المعنى.. يقل كلامهم.. لأنهم يرون الى أبعد وأعمق.
“كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” يقول النفري.. ويفعل بسام حجار..
حجار.. صلب بسام حجار، لا يلين أمام تهديد أو ابتزاز.. ولكن يلين بالكلام الجميل.. حجار من عنايته بالحجارة.. من قلمه الذي يهذب به الحجارة فتصبح بيوتاً وشرفات على الإبداع والغد..
مات بسام حجار.. مات وكأنه قصيدة قد اكتملت لتوها… قصيدة فاجأتنا بفصاحتها.. وبلاغة الوجع الذي يطال القلب والعقل والحبر والنوافذ..
أغلقت اليوم نافذة
أغلقها السرطان.
سأغلق عيني لأرى بسام حجار.. ينام قلق العين لا قريرها على وطن يحتاج الى مبدعيه دون غيرهم. سأغلق عيني على بسام انتظاراً لبسام آخر وحجار آخر.
مات الجميل المتواري خلف عينيه
محمد علي شمس الدين: (شاعر)
مات الجميل المتواري خلف عينيه، مات بسّام حجار. كان أروع من يمثل الشاعر العميق مع أقل ما يمكن من النتوء، البعيد ولو من خلال تلويحة الرمش.
كان بسام حجار يكاد يمر كومض في ليل الشعر. يكفي ان يشير الى ناحية حتى يطلق سهم الكلمات اليها وكان بسام حجار دائماً شعره أكثر من كلماته وينطوي على ما أشارت إليه الصوفية حين قال قائلهم في قصيدة بشير الحافي: “دنيا لا يملكها من يملكها/أغنى من فيها سادتها الفقراء”.
كان بسام نجماً هوى ظلّه على الارض لكن بريقه ما زال في كلماته.
شيء سقط منّي
عصام العبدالله (شاعر)
كنا ابتهجنا عندما علمنا أن بسام حجار قد انتهى من الأمراض الخطيرة. وابتهجنا نحن وبسام لأن الموت عجز عنه وأنه تغلب عليه. وكأننا نحن أيضاً تغلبنا على الموت. فوجئنا منذ فترة قليلة بأن بسام عاد يعاني. ولم نكن نصدق أنها ستكون الخاتمة. كنت أشك بأن بسام الطيب المجتهد والموهوب قد يفارقنا بهذه السهولة. اليوم نزل الخبر عليّ كأقسى ما تكون الأخبار. أحس أن شيئاً سقط مني، وأن وجهاً ألفناه وقرأناه، قد لوح بالحركة الأخيرة، في الشغف الأخير، وانزاح ولا أعرف الى أين. ولا يعرف هو الى أين. ساستحضره سريعاً. أعيد قراءته. وسأتذكره. وسأقول للأصدقاء المشتركين بأننا اقتربنا من هاوية كنا نظنها بعيدة.
الكبير والمتواضع
الكسندر نجار (روائي)
صعقني خبر وفاة بسام حجار، الصديق والشاعر الكبير الذي تعاونت معه في أكثر من مناسبة. فقد ترجم أول كتاب صدر لي بالعربية عن دار النهار بعنوان “دروب الهجرة”، ثم كتابين آخرين هما “جبران خليل جبران” و”مدرسة الحرب”. كان يتمتع بسام حجار ببراعة وسرعة في الترجمة لم أر لهما مثيلاً من قبل. أذكر اللقاءات التي كنا نعقدها لمناقشة بعض العبارات أو المصطلحات، وكيف كان يجد دائماً الحلول لأصعب المشكلات المطروحة. سأفتقد حتماً هذا الأديب الكبير والمتواضع الذي كان يفضّل العيش في الظل بعيداً عن الأضواء ويتحمّل آلامه بصمت وصبر. عزائي الوحيد هو أنه سيبقى دائماً الى جانبي في كل مرة أقرأ فيها قصيدة أو ترجمة له. ذهب بسام الحجار باركاً ولكن قدر الكبار، كجبران، أن يمضوا باكراً تاركين لنا سيمفونيات خالدة وإن غير مكتملة.
من القلة التي تحترم الحبر
زاهي وهبي (شاعر)
أكثر ما كان يلفتني في بسام حجّار المثابرة والكدح الثقافي والانكفاء عن الصخب والضجيج اللذين يحيطان عادة بالكتاب والشعراء.
لم أعرفه شخصياً لكنني عرفته كاتباً وشاعراً مخلصاً لنصّه ولتجربته وعلى الرغم من كوني أنتمي الى الذائقة الشعرية التي قد تنأى قليلاً عن النموذج الذي تقدمه قصيدة بسام حجار وأقرانه إلاّ أنني لا أملك سوى احترام هذه التجربة وتقديرها والحزن العميق على فقدان شاعر وزميل ينتمي الى القلة التي تحترم الحبر وتتعامل معه بوصفه مفتاحاً من مفاتيح المعرفة أو المفتاح الذي يستطيع فتح كل الأبواب الموصدة وسبر كل الأغوار. أنحني لروحه.
معاصر القلب والإحساس
هبة القواس (مغنية ومؤلفة موسيقية كلاسيكية)
شو ممكن ينحكى عن بسام حجار
عن الشعر الحداثي بهالحساسية العالية والست اللي حاملها دائماً
أنا غنيتلو، وبتفكر وأنت عم تغنيلو إنو اللي بحبها موجودة معو دائماً، ببيتو، بقصيدتو، بشخصيتو.
الفنون المعاصرة بالشعر والغناء والموسيقى كانت من أوائل الأهداف بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا، وعندنا بعد الحرب كان بسام من الأوائل اللي قلبهم كان وجعهم بعد الحرب على لبنان الثقافة والفنون.
بسام الحجار المعاصر، القلب، الحساس معادلة قائمة بحداثة الشعر.
بسام الحجار
كأنك بترافقو “سكيوردرات” بيتو، بكتبو، بقصائدو، بشخصيتو وأنت تغني له.
في امتداح الصمت
عماد موسى (كاتب وإعلامي)
التقيته مرّات قليلة، أبان الولادة الثانية “للملحق”.
رأيت في الرجل الهادئ المنعزل في سكوت صورة نمطية للمثقف: في يمينه قلم حبر ناشف في يساره سيكارة وعلى وجهه أمائر قرف.
قبل أن ألتقيه قرأته شاعراً وناقداً وقاصاً ومترجماً وسيد لغته.
وقبل أن يموت مات شاهراً يأسه في كتاب بارد كرخام الشواهد.
“لا أبالي بي/ إذا متّ أمس/ أو اليوم/ أو اليوم الذي يلي/ ولا أبالي بي/ إن بقيت حياً/ لأيام/ لأعوام أخرى/ فلم يبق لي ما أصنعه برجائي/ بالشهوات التي تبقّت/ لم يبق ما أصنعه بمتّسع اليوم/ كل يوم”.
هو اليوم خارج يومه، ولا يسعه سوى امتداح الصمت بالصمت.
وداعاً بسام..
شارل شهوان (شاعر)
كان خفيفاً ناعماً كأوهى الشجيرات واقتلعته أعتى العواصف
أليفاً حنوناً حتى إنه أحبه الموت هو بالذات
الحزن على صديق
الحزن على شاعر
الأحزان مضاعفة
الأسى سيكون كافياً
بيد أن سواد الحبر وحده سيفسّر
سيعبّر
وداعاً بسام
مرحى لوعة الفقدان
السماء كلها لكَ الآن
سأراك على الدوم بين السحب البيضاء
نقيّاً محلّقاً كروحك
وداعاً
النبضات
وداعاً
الألم
وداعاً
وجهكَ.
يكتب بعقله وقلبه
سونيا بيروتي (كاتبة واعلامية)
لم اعرفه سوى زميل في “المستقبل”
ومن لقاءات في المصعد أو بين الأروقة وفي مناسبات صباح الخير ومسائه.
لم اعرفه الا مما كتب ومن قراءتي لكتاباته، احببته،
غريب عن الافكار النمطية
السائدة في هذا البلد المنكوب
بالطائفية وفي هذه المرحلة الشاهدة على احد مراراتها الأشد فتكاً
صادق مرهف نقي
اسلوبه مرآة روحه وعقله
اسمه بسام لكنه ضنين بابتساماته، كأنما عليه حمل البلد المتخبط في تيهه
كأنه رمز لشباب نخرت طموحاتهم الحروب العبثية وشوهت حلمهم بحياة طبيعية في وطن طبيعي
اقرأ بسام حجار فلا اراه في مجموعة متعصبة منحرفة شاردة خارج عالم الانسانية.
هو في قلب الانسانية المختزنة تجارب الأجيال المختزلة نضجها.
بسام يكتب بعقله وقلبه هو من الجواهر النادرة في الوسط الاعلامي مثل الجوهرة سريع العطب
هاجمته حال البلد الشاذة
فمحت بهاءه وصباه
ارجعت الأحزانُ الغريبَ الى موطنه الأصيل الخالي من اسباب العذاب.
الرجل الذي أحب الكناري
غسان جواد (شاعر)
أول ما تبادر الى ذهني عندما سمعت خبر وفاة الشاعر بسام حجار، أن حكاية “الرجل الذي أحب الكناري” والشعر قد انتهت. نهاية مفجعة تضرب لكل مبدع مع الوقت موعداً. وهو يقول في أحد نصوصه: “ما سبق كان مجرد استطراد. فكرة طال شرحها”.
بسام حجار صاحب نبرة شديدة الخصوصية، فكل كلمة وكل جملة تأتي في مكانها اللائق في نصه. إنه شاعر العزلة والصوت الخافت والفقدان. شاعر الحنو على الأشياء والتفاصيل منذ مجموعته الأولى “مشاغل رجل هادئ جداً” عام 1982، الى مجموعته “تفسير الرخام” الموت موضوع أساسي في كتاباته. وها هو اليوم يذهب ليطابق ما كتبه في الشعر مع الموت وجهاً لوجه. بسام صاحب فضل على مجموعة كبيرة من الشعراء الذين أتوا بعده، حتى لو لم يعلنوا ذلك. إنه من كبار الشعراء اللبنانيين والعرب الذي صنع له تجربة أساسية في قصيدة النثر من غير اجتماعيات وسياسة شعرية. إنها كما يقول “مهن القسوة”، مهن الكتابة والإبداع التي تصيب صاحبها مقتلاً.
صاحب الشعر الطويل الأبيض
فيديل سبيتي (شاعر)
بعد زيارات عدة الى مكاتب ملحق “نوافذ” في صحيفة “المستقبل”، عرفت ان الرجل صاحب الشعر الطويل الابيض هو بسام حجار. لم أتفاجأ حينها، قبل خمس سنوات، وكأنني حين كنت أقرأ شعره كنت أتخيله كما رأيته، صامت وجاد ولا يقول من الكلام إلا ما يفيد بإجابة على تساؤل أو الإدلاء برأي مختصر وثاقب.
هكذا تخيلته حين كنت أقرأ شعره الذي صار في ما بعد واحد من متع القراءة الشعرية الخاصة. جمل شعرية قصيرة وثاقبة تقول الكثير بإختصار، فيها حزن مغلف بعاطفة القادم الى الحياة هانئاً ونظرات التشفي الى الحياة بتفاصيلها، هي كانت كذلك أو اردت ان أراها كذلك، وبسام لم يكن دائماً في المتناول كي نسأله، فقد سكن في صيدا وقصر حياته على المداومة في العمل وفي المنزل. كانت تلك خسارة أولى، أي افتقاده في حياتنا اليومية البيروتية التي كانت تدور في مجملها حول قراءات شعرية لشعراء من جيله أو من جيلنا أو من الجيل الذي سبقنا. كانت تلك خسارة أولى لم نجهد أنفسنا بأن نتلافاها، ربما. واليوم تصفعنا الخسارة الثانية التي ليس بإمكاننا ان نتلافاها. خسارة لا بد أنها تسببت الحزن على فقدان صديق وعزيز، ولكنها تثير الحزن على ما نخسره مما كان ليكتبه بسام حجار لو بقي حياً بيننا، في المقالات السياسية أو الأدبية، في الشعر أو ترجمة الشعر والرواية.
الحزن يفور في القلب على بسام الراحل وعلى بسام الذي كان يجب ان يبقى. لكن وللتعزية مخففة الألم والحزن ومحبطتهما، أقول لنفسي ان هذا الرحيل المفاجئ سيعيدنا الى القصائد نقرأها مجدداً، وعندها ستتضح مجدداً صورتا الموت والحياة في روح بسام حجار الشعرية التي تركها تهوم في مخيلاتنا.
دليلي الى الشعر الحديث
ناظم السيد (شاعر)
بعد سركون بولص، ها هو بسام حجار قد مات. واحد من افضل الشعراء عندي. لطالما ذكرت هذا الاعجاب صراحة ومفاخرة في الصحف. احببته منذ قرأت له كتابه الاول “مشاغل رجل هادئ جدا”، وقتها لم اكن اعرف من هو بسام ولا موقعه في قصيدة النثر اللبنانية والعربية. قرأته غفلا. مع ذلك اعجبني كثيرا كتابه. رأيت نفسي في هذا الكتاب” شاباً انطوائياً وهادئاً يخاف الموت كان هذا قبل ان اصبح عصبياً ونزقاً. لاحقاً قرأت لبسام كل ما نشر من كتب: “فقط لو يدك”، “مهن القسوة”، “لاروي كمن يخاف ان يرى”، “البوم العائلة”، “معجم الاشواق”، “تفسير الرخام” وغيرها. كتب تركت فيّ اثراً بالغاًً. اظن ان جزءا من شعري يقوم على انقاض هذه الكتب في داخلي. افترض ان بسام هو من هداني الى كنز العائلة الذي صار قيمة شعرية عندي، وهو من دلني الى غنائية رقيقة وحديثة، هو من اخذ بيدي الى نبرة خافتة، سردية، متأملة، وواهنة لفرط رقتها.
بسام حجار شاعري. لم التقِه الا مرة واحدة في حياتي. قلت له انني احب شعره. بلحيته التي باتت كثيفة، وعينيه الغائرتين، وابتسامته التي بدا كأنه يرفعها، وبخجله المعهود، قال: انا ايضا احب ما تكتب. لقد نسي ان يقول لي انه كان يحب صورته في نصي الشعري.
كم نكره موتك
علي مطر (شاعر)
الشاعر بحق، المترجم الأمين، النبيل والشفاف، المقل في الكلام، المكثر اتصالاً بالوجدان، المبتعد عن الأضواء، القريب من الجوهر، الذي كره موت الأحبة والأصدقاء، وحتى موت النمال. كم نكره موتك يا بسام. لكن الى اللقاء.
بسّام حجّار… كان الموت سرّه (الشعري) الحميم
حسين بن حمزة
كتب بسام حجّار (1955 ـــــ 2009) قصائد كثيرة عن الموت. خصَّهُ بقصائد كاملة، ولكن قصائد أخرى أيضاً لم تنجُ من ذكرٍ للموت. نحن، قرّاءه وأصدقاءه، كنّا نعرف أنّ الموت أحد مفردات معجمه. هو نفسه عدَّه ضمن القائمة القصيرة لمعجمه الشعري، وثبَّت ذلك في مقدمة كتابه «سوف تحيا من بعدي» الذي ضمّ ثلاثاً من مجموعاته الشعرية ومختارات من اثنتين أخريين.
ظننّا أن الإكثار من ذكر الموت قد يتحول إلى تميمةٍ أو تعويذة تردعه أو تؤجِّله عن بسام حجار الشخص. لم يقلِّب شاعر عربي حديث الموتَ على وجوهه ومعانيه واستعاراته الكثيرة كما فعل بسام حجار.
استفاض في ذلك إلى حدٍّ يسمح لنا بالقول إنه جاور الموت وعاش بصحبة موتاه الأعزاء، والده يوسف وأخته دلال خصوصاً، أكثر من مكوثه بين الأحياء.
ثمة مادة مأسوية كثيفة ومحبَّبة في شعر بسام حجّار كلّه. الحياة كانت دوماً قليلة ومتقشّفة وزاهدة… وبالكاد معيشة لفرط ما يرافقها من آلام الوجود ومشاقِّه. القلَّة هنا هي طموح شعري أيضاً. الشعر الجيد قليل دوماً.
كنا نقرأ قصائد بسام حجار ممتنّين للهدايا الشعرية التي يهبها لنا في كل ديوان جديد. كل إصدار كان حدثاً شعرياً بالنسبة إلى الشغوفين بالشعر المقطَّر والصافي والصامت. خافتة كانت نبرته. خافتة وحزينة. وحين أصدر مجموعته الأولى لم يجد لها عنواناً أفضل من «مشاغل رجل هادئ جداً» (1980). كان ذاك العنوان واحداً من عناوين ذات جرْسٍ مختلف، أطلَّ بها هو وعدد من شعراء منعطف أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات على المشهد الشعري العربي، كاشفين عن ممارسات وحساسيات ومذاقات نضرة وطازجة.
هو نفسه استثقل مرةً أن يرث، هو وأبناء جيله، «تاريخاً محمّلاً بالقضايا والصراخ والنبوة والتمرد والإحباط… وكان ميراثاً غاضباً، ولم يكن يوماً ميراثاً حزيناً». في الحزن والألم والعزلة والحياة الخفيضة.. وجد بسام جملته وطمأنينته الشعرية. اكتفى بمسامرة الألم والوحشة الشخصية، والاعتناء بالمواضع العزيزة التي أخلاها موتاه.
«لا أعرف إذا كان أبي قد أحبَّ الموت»، كتب في «مجرد تعب» (1993). ونحن لا نعرف إن كان ثمة جدوى أن نسأل الآن إن كان هو قد أحبّ الموت لكثرة ما صادقه وعاشر آثاره؟ هل نصدِّق أن الشاعر الذي ظلت حياته تحكُّ خَطْمَها بقبور الموتى، توقف عن التنفس (كان يحلو له أن يقول «مشقة التنفس») وتكوّم هناك بلا حراكٍ منتظراً «أن يغطّوا بالأبيض غيابه» كما كتب في قصيدة له.
الشاعر الذي حضر الموت (والغياب والفقدان) متفرقاً في دواوينه المتتالية، لم يكن بلا دلالةٍ أن يهجم بكثافة، محتلاً كل ديوانه الأخير «تفسير الرخام» (2006) الذي احتوى ثلاث قصائد فقط. لم يكتب بسام حجار مراثيَ تقليدية. إذْ كيف تمكن كتابة مراثٍ لموتى لم يكفّوا عن زيارة الشاعر والتجوال في غرف حياته وممراتها؟ كيف السبيل إلى إنجاز مرثية لموتٍ صار مقيماً لكثرة ما استُعيد واستُئنس به.
الموت هنا، كغيره من الموضوعات، ممارسة شعرية. كان الموت فنَّ بسام حجار الشخصي.
ولهذا كان يبرع في جعلنا نصدق أن الموتى كسروا إناءً أو مزهريةً أثناء تجوالهم في منزل حياته: «لا تجمع الكِسرة إلى الكِسرة/ لكي تقول بحبور القائل: هذا إناءٌ معافى/ أو/ هذه المزهرية التي حفظت روحي/ لن تبرأ من الكسور حطامها/ لن تبرأ من فتنة لمعانها البارد/ كسوراً متناثرة على البلاط/ مبعثرةً/ بين الخُطى الرقيقة/ لطيفٍ منزلي/ ربما كان أختاً أو أباً». هذا المقطع مستلٌّ من قصيدة «تفسير الرخام» التي جالس فيها الشاعر الموت داخل منزل يسمح له بأن يطلَّ على أعوام عمره التي تنقضي كحافلة مسرعة.
كانت القصيدة أشبه بمرثية ذاتية مسبقة لموت آتٍ: «لا أبالي بي/ إذا متُّ أمسِ/ أو اليوم/ أو اليوم الذي يلي/ ولا أبالي بي/ إن بقيت حياً/ لأيامٍ/ لأعوامٍ أخرى/ فلم يبقَ لي ما أصنعه برجائي/ بالشهوات التي تبقّت/ لم يبقَ ما أصنعه بمتَّسعِ اليوم/ كلّ يوم». في القصيدة نفسها، فكر الشاعر أنّ الحجر (الرخام/ القبر) هو موطنه ودارته البعيدة، وأن الحياة جعلته «متفرجاً على ميتاتٍ صغيرة».
بالمعنى الشعري، بسام حجار لم يمت. كل ما فعله أنه قفز إلى الضفة إلى الأخرى. الشاعر الذي واظبَ الموتى على زيارته، ذهب … ليردَّ الزيارة.
مئات السنوات الضوئية
زكريا محمد *
لا يصلح لبسام حجار أن نقول عنه «الشاعر الكبير». لا ينفع معه هذا الوصف أبداً. فهو من ذلك الطراز من الشعراء الذين وضعوا الشعر في مرتبة أعلى من الشاعر. معه، ومع أمثاله، صار الشاعر خادماً للشعر لا سيداً له. لذا فشعره هو «الكبير». بسام جعل الشعر هو النجم لا الشاعر. وكي لا ينافس الشاعر شعره، فقد اختار لنفسه مظهراً لا يوحي أبداً بمظهر شاعر أو شاعر كبير. مظهر هادئ وديع يختلف بشدة عن الصورة المألوفة للشاعر. لقد ترك لنجمه الشعري أن يتوهج. أما هو، فاختفى وراء الكواليس. وربما ظن أحد ما أن شعره أيضاً يضيء كنجم هادئ وديع. لكنّ هذا بسبب بعده وعمقه فقط. إنّه مثل نجم يبعد عنّا مئات السنوات الضوئية، فيبدو ضوؤه ناعماً هادئاً. أما حقيقته البعيدة، فمتفجرة وملتهبة إلى أقصى الحدود.لا أستطيع أن أكتب عن بسام كشخص. فقد التقيته مرات قليلة جداً. وكان هو مبتعداً، وكنت أنا أكثر ابتعاداً. بالكاد كلّمنا بعضنا بعضاً. بالكاد قلنا جملة أو جملتين، ثم مضى كل لطيّته.
الشكر لك يا بسام على أنك ذوّقتنا كلماتك. على أنّك ألقيت بضوئك على وجوهنا!
* شاعر فلسطيني
سوف تحيا من بعدنا
بيار أبي صعب
شاعر آخر ينسحب، بعدما أطال الوقوف على أطلال ذاته. بسّام حجّار شاعر خافت مقتضب وخفيف، هوائي في ذروة ألمه وامّحائه. «كانت تحدّق في المكان البعيد/ كأنّها تراني/ وكنت أعرف أنّي، هناك/ في المكان البعيد،/ حيث تراني». تخاله لبس طاقيّة الإخفاء من زمن بعيد. بلوريّاً شفيفاً يستعيد المشاهد الهاربة نفسها، والحيوات الضائعة، على المسرح نفسه، مع الأطياف نفسها، في الديكور الأليف المحصّن بالظلال. يساكن الخسارة والفقد والغياب، وحده صامتاً كنبيّ. في عزلة الغرف الداخليّة، مع الأدوات والأكسسوارات التي تنقلب وظائفها داخل معادلة شعريّة مكثّفة ومختزلة… إنها قطع من حياة ممكنة، داخل القصيدة تعيش تحوّلاتها السحريّة، وسط تشابك الأزمنة وتقاطع الحكايات والتداعيات. «أتبصر شرفةً مضاءة؟/ إنّها قلبي/ أيّها الغريب!». أوائل الثمانينيات، في مقهى «الإكسبرس»… كان بسّام يبدو للطالب الخجول الهائم على «رصيف بيروت» كأنّه حقّق كلّ شيء… يعمل في «النداء» ويكتب قصيدة النثر. ماذا يمكن أن يطلب المرء أكثر من ذلك؟ تحت سماء بيروت كانت الحياة جميلة وممكنة. بعدها بسنوات وانهيارات ومآتم، صار يكتب مقالات سياسيّة لا أقرأها… لكن تلك القصيدة بقيت على بهائها، صارت كلّ شيء. صار الشاعر يقيم فيها. «سألت الرجل الذي كنته قبل عام لمَ لا أراني بينهم». نحن نراه، أكثر من أي وقت. نبحث في شعره عن ذواتنا الهاربة، عن موتنا الحميم كاستراحة ممكنة. نستعيد عنوان الأنطولوجيا الشعريّة التي صدرت له في القاهرة قبل سنوات عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة»، لنقول للشاعر الذي مضى على رؤوس أصابعه في الرابعة والخمسين: «سوف تحيا من بعدنا»…
بين ظلال كثيرة
نجوان درويش
استيقظتَ قبيل الظهيرة. متأخراً ومتنكداً. من الشبّاك، عرفتَ أنّها أمطرت كثيراً بينما كنتَ نائماً. لا حيلة لك مع مزاجك الذي ضرب أثناء تنقّلك بين أنفاق وبيوت مهجورة في النوم.
رغم كل شيء بإمكانك أن تلمح قطعة من السماء وأشجاراً من الشبّاك.
ولكن هذا لا يكفي لتعالج مزاجاً ضُرب في مطلع اليوم.
«في المرّة الأولى، تقول، حسناً لم أفقد سوى روحي وهي متعبة. فلا بأس.
في المرّة الثانية تقول: تعب جسدي منّي وأبى أن يحملني أعواماً أخرى وغادرني.
وفي المرّة الثالثة لا تقول شيئاً. فما الذي بقي؟ لم يبق شيء ليغادرك، فلا تنتبه. تصبح ظلاً بين الظلال الكثيرة».
صاحب هذه «الظلال» هو بسّام حجّار… يعيش سكرات موته. أو لعلّه انتقل في هذه الساعة.
هذا ما كتبته لك صديقة من بيروت صباح اليوم. تقرأ «الإيميل» على عجل من دون أن تستيقظ تماماً ولا تركّز كثيراً… تتجاهل الفقرة الأخيرة بالذات. وتبدأ بقراءة ما تستطيع من جرائد اليوم من شاشة الكمبيوتر. يسوء مزاجك أكثر مما تسمّيه «وعياً مهزوماً» و«انحطاطاً»… إلخ
يصلك إيميل آخر، قاطعاً ومختصراً: «نجوان، بسام حجّار توفي اليوم، بليز بدنا منك قطعة زغيرة عنو، ناطرة جوابك».
تتأمّل اللغة المهنية الحاسمة لزميلتك، وتفكّر للحظة إن كان يحق لك أن تكتب شيئاً في هذا المقام. وتفكّر بـ«ناطرة جوابك». تفكّر أيضاً بطقس صفحات الوداع كلّما رحل شاعر أو صاحب أثر في «الحياة الثقافية». تخاف كثيراً من تحوّل المشاعر والأفكار إلى قوالب وأنماط.. تخاف الابتذال. التقدم إلى ساحة القول ليس عملاً، الأساس أن يكون لديك ما تقوله.
تتأمل هذا «الواجب» (صفحات الوداع) وتقول لنفسك: رغم ما فيه من برّانية فهو أفضل من أن يمرّ رحيل هؤلاء الأقرباء في صمت. صمت اللامبالاة تحديداً. هذه آخر بادرة احترام يمكننا أن نقدمها لمن تركوا أثراً في حياتنا، ولمن جمعتنا معهم مشاغل الكلمات والأفكار والصور. بادرة متأخرة ربما، وغير ضرورية لهم على الأرجح. «إنّهم ما عادوا في حاجة إلينا أولاء الذين بكّروا إلى الرّحيل»، كما يقتبس بسّام في أحد كتبه من ريلكه.
إنّ هذه التلويحات الوداعيّة ــــ على هيئة صفحات جرائد ــــ ضرورية لنا، لكي نرمّم فكرة الحياة أمام ذواتنا وأمام الحياة نفسها. ضرورية لتجاوز فكرة أنّ شاعراً غادر وأننا مرتبكون ونحن ننظر من بعيد إلى شُرفته المضاءة.
وقف على أطلال الذات… ومضى
نوال العلي
حمّلني الشاعر طاهر رياض أمانةً لم أصُنها، أن آخذ نسخةً من ديوانه إلى صديقه بسّام حجّار. كل يوم أفتح الدرج، أنظر إلى الكتاب، وأهجس بأن غداً سأحمله إليه. مرةً اتصلت ووعدته بإيصال الديوان ثم نكثت. كتب رياض إهداءً: «بسّام تظلّ الأقرب إلى القلب». والآن، سأعاقب نفسي بأن يبقى الكتاب معي ريثما أموت أو يعود بسّام.
ترك بسام حجّار أكثر المهن قسوةً؛ مهنة العيش وشغل التنقّل من يومٍ إلى الذي يليه فالذي يليه فالذي… كان الموت مكاناً شعرياً ومأرباً جعلت منه القصيدة عالماً مألوفاً. إذ استغرق حياة حجّار الشعرية بأكلمها «وما علمتُ قبل الآن أنّ/ يدي البلا ملمس/ هي يد الميّت الذي كنتُه/ وقلبي قربة من البكاء/ وجسمي فزّاعة طير/ ُصبّت في برّية موحشة/ حيث لا تنضج ثمار».
وإن كانت العرب تردد حديثها عن «عيون الشعر العربي» بقصد الإشارة في كثير من الأحيان إلى روائع الجاهلية، فإن بسّام حجّار هو شاعر قصيدة النثر الجاهليّ. ولشدّ ما يلامس قارئ شعر حجّار ذلك التناقض الجميل بأنّ مرجعيّة هذه الصنعة الغربيّة لديه هي شعر طرفة وابن الريب. ولا أدلّ على ذلك من مطوّلته المعنونة «حين تكون السماء ليلاً، حين يكون الليل سماء»، وهي واحدةٌ من عيون قصيدة النّثر العربيّة، وفيها يطلب حجّار الموت راثياً نفسه الممزّقة كشراعٍ طلع عليه النهار بعد ليل عاصف، فعله في ذلك كفعل الشعراء من قبل. إنّها قصيدة وقف فيها حجّار على الطلل يبكيه أيضاً، ليس طلل البيوت بل ما بقي من الذات.
يفتتح حجّار قصيدته بقوله «خذني الآنَ/ إذا كنت لا تأنف الرّكام/ ولا تمهلني عاماً آخر». يبدو الحديث لسامعه كأنه استكمال لحوارٍ جرى من قبل، يخاطب الشاعر الموت آمراً لا ملتمساً. إذ تشي روح قصيدته بأنّه والموت خليلان، وأنّ بوسعه أن يطلب منه بهذه اللهجة الخالية من الاستجداء؛ ألا يقول «الميّت الذي كنته»، فالموت فعلٌ حدث وانقضى، ولم يبق الآن سوى استكماله في صورته الأخيرة.
ويبلغ الشاعر ذروة التنكيل بذاته، كمن لحقت به لعنةٌ يقول «عيناي عمياوان لا تُبصران/ وإن أبصرتا/ صار النبات ملحاً/ أو صار كُلّ رقراق جماداً». أيّ ألم، وأيّ معنى، وأيّة لغة مُحكمة بعيدة عن الغموض والرموز التي أهرقها الشعراء بحجّة النثر!
«لم أعثر في حطامي على اليد/ الّتي كانت تدلُّ/ على الأنفاس الّتي كانت تحيي/ فما الّذي يحي الحُطام؟/ أحببت الوردة/ ولشدّة ما أحببتُ/ جفّت البتلاتُ». ها هو ذا حجّار يصف نفسه في صورة مركبة لمن تخلّت عنه الحياة ولا يجد في الشعر عزاءً: «الفمُ ما أعانه النّطق يوماً وما أعانه الصّمت». واليدُ التي دلّت وكتبت ولمست باتت تخصّ الميّت فلا ملمس لها، وفي سطرٍ آخر «اليد التي أيبست الوردة ويبست حزناً عليها».
القصيدة تحافظ على إيقاعها من دون تكرار أو فائض، كأنّها جنّاز كنسيّ منضبط، أو كربلائية ذاتية استخدم حجّار فيها كل مفردات القسوة ودلالاتها، ولم يترك لنفسه ثغرة. أنت مع قصيدته تفتقد الأمل وتشعر بضآلته أمام «قسوة أن أريد ما أحبّ/ وأن أفقد ما أحبّ/ وأن أجعل البقاء تمارين عادةٍ/ كالعيش/ أو التدخين/ وأودّ الشّفاء منها/ ولا شفاء».
«بلى»، يبدأ مقطعٌ آخر من القصيدة المنشورة في ديوانه «بضعة أشياء» (دار الجمل ـــــ 1997) في إشارة إلى أخذٍ وردٍ طويلين، يرفض الموت طلبه، وبسّام يُلحّ فيه بحزنٍ جزيل، فيتحدث عن بئرٍ عميقةٍ «أحبّ» أن يسقط فيها، وعن عتمتين «هي السّماء حين تكون ليلاً/ وهي الليل حين يكون سماءً/ ولا أدري/ بين العتمتين كيف أقمتُ/ أربعين عاماً وما انتبهتُ/ وما أيقظني أحدٌ/ إلّا الملاك».