مانوكانات الجزيرة
(إلى بسام حجار)
حسن داوود
في العام 1988 أقمنا في ليماسول هاربين من حرب بيروت وصعوبة العيش فيها. كانت تلك المرة الأولى التي أشاهد فيها بسام مقيماً ليس خارج بلده فقط، بل خارج بيته ايضاً. بعد عودته التي استمرت نحواً من سبعة أشهر، كتبت هذه القصة التي نشرت مهداة إليه.
أكثر ما نذكر من البلاد الغريبة التي أقمنا فيها: البرد.
مع اننا، حين غادرنا المدينة الساحلية الى غير رجعة، كنا هاربين من الحر الذي ظل يشتد عشرين يوماً متواصلة. وكنا احياناً نشعر بجسمينا مشتعلين حتى ونحن وسط المياه، فنخرج منها الى فيء الشجرات التي زرعوها بأبعاد متساوية، على طول الشاطئ.
كان يقول لي، بعد ان يتكوم مرتجفاً في سريره، “غطني.. غطني…” فأمسك البطانية الثقيلة من طرفيها وارميها فوقه، فيطلق صرخة مبالغة من كتلة الهواء التي تصفع وجهه. اقول له وأنا أقف قريباً من قدميه المغطاتين: قم نمشِ يا مروان، قم نتفرج على المانوكانات. فيهز جسمه المتكوم تحت الأغطية ليفهمني انه استغرق في النوم.
اما أكثر ما نذكر من الذي أقمنا معه في بيت واحد فقدماه العاريتان.
يقف على السجادة القصيرة حافياً فأراهما طويلتي الأظافر. هذه عادة لازمته في بيت عائلته، أفكر. فمشهد قدميه الحافيتين كان أكثر عاداته تذكيراً بأرضية بيته. وبتنقله بمشايته المكشوفة بين غرفه، وبنوع مسرّته فيه، تلك التي تظل مستغلقة حتى على أكثر الضيوف قرباً.
قلت له، بعد أيام قليلة، من وصولنا، كيف تجدني هنا يا مروان؟ أجاب بأنني مختلف قليلاً عن الشخص الذي كان يعرفه. “بماذا أنا مختلف؟” سألته، فهمهم وابعد عينيه عني. وهذه ايضاً من العادات التي تقوم بين رجلين يقيمان معاً. صاحب هذا الدكان ارمني، قال، ليخفي الحرج الذي سببه سؤالي. “أرمني أرمني؟” قلت، قاصداً الارمن الذي في بلدنا.
بقينا اياماً نسلك الطريق ذاتها الى البيت، لئلا نضيع، وحين اودعنا نقودنا في المصرف قلت، لأضحكه، ان الرجل خدعنا اذ اخذ منا نقودنا واعطانا أرواقاً بدلاً منها. شحك. خطرت بباله الصورة الشائعة لاهل القرى الذين يقصدون المدينة للمرة الأولى. كنا نضحك ونحن في البيت، رغم انني كنت احياناً ضحكاً في غير مناسبة. وهو كان يستجيب مستعيناً بتخيل اصدقاء آخرين موجودين معنا.
كان هذا يحدث في الأيام التي اعقبت وصولنا. كنا نعرف اننا نكمل سلوكاً بدأناه قبل مجيئنا، وانا كنت مثله أتخيل اشخاصاً معنا حين اطلق النكات. حتى انني، ربما، لم أفعل ذلك الا لأجعلهم قريبين كأنني اسميهم له واحداً واحداً.
اين السياح؟ سألته ونحن واقفان متظللين من المطر. أجاب: ان طلائعهم تكون عادة من العجائز الذين يأتون قبل حلول الصيف. انهم بروليتاريا السياح، قال” لكن ماذا يفعلون هنا قبل موسم البحر؟” سألته.
كانت المدينة شبه خالية حين جئنا. وكنت أقف على نافذة المطبخ الزجاجية المقفلة لأنظر الى المشاة على كورنيش البحر الطويل. لكن لا ارى منهم الا واحداً، او اثنين اتبعهما وهما يمشيان قاطعين اعمدة المصابيح الكهربائية التي أقاموها، هي ايضاً، على أبعاد متساوية.
“من اين يأتي البرد؟” يسألني من مكانه على الكنباية التي يجلس عليها متربعاً، فأنظر الى أطراف النافذة باحثاً عن فسوخ لا أجدها. يستطيع ان يستمر ساعات محدقاً في النقود المعدنية التي رتبها بعضها فوق بعض بحسب فئاتها. “كل ان كنت جائعاً” يقول لي، فأدرك، وانا مدير ظهري اليه، ان كلاً منا سيبدأ عيشه بحسب عاداته القديمة واننا سنصبح بعد هذا الوقت القليل مختلفين. إنني سآكل قبله وسينام بعدي. غطني يا مروان، غطني، صرت أقول له، كأنني أجعل افتراقنا أليفاً فلا يشعر بالوحشة بعد نومي.
حتى اننا بدأنا نختلف امام محل السندويشات في الوقت الفاصل بين دوامي العمل. اسأله ماذا سيأكل فيرد السؤال الي لكي اكون انا من بدأ بمخالفة ما اعتدنا على اكله كل يوم. ومرة، بينما كنت نائماً شاهد، وهو واقف على الشرفة، رجلاً وامرأة يتجامعان في مكتب بالطابق الرابع.
“لماذا لم توقظني؟”سألته قال انه رآهما امامه فجأة ولن يعرف ماذا يفعل. “صفهما يا مروان, كيف كانا؟” لم يعجبه ما رآه لان الرجل كان قبيحاً مشعراً، اعتقدت انه الف حكايته تأليفاً، رغم انني، في الأيام التالية، اخذت اقول له ان يصفهما مرات أخرى، لا لأستدرك ما فاتني، بل لأتأكد انه لم يحقق هذا الاختلاف بيننا في الأيام الأولى لمجيئنا.
على الطريق، ونحن عائدان من العمل، صار يقف طويلاً امام الواجهات المضاءة محدقاً في أجسام المانوكانات العارية. يقول، بعد ان يقضي وقتاً في تفحص احداهن، انهم يعرضونهن هكذا عاريات ليجلبوا مزيداً من السياح. غير انه يصير وحيداً أمامهن، بل ويتخذ وجهه سحنة الغضب. عند ذلك ارى ان لا سبيل لإعادته الى المشي الا بإضحاكه.
“سأشتري لك واحدة غداً” لا يضحك، بل يستدير عن الواجهة، وينزل قدمه عن الرصيف بحذر الكهول. ويخطو أمامي عابساً مقفل الوجه.
لا شيء اكثر اضجاراً من المدن المبنية على عجل.
صرنا لنتوهم انا بيتنا نعرف المدينة، نجرب طرقات أخرى في عودتنا الى البيت. نختار كل يوم طريقاً مقحمين خطواتنا في متاهات سهلة المسالك. نعرف اننا لن نضل، لكننا ندخل في الزقاق متوجسين كأننا سنلقى في منتصفه ما خبأته الطرقات والأزقة الأخرى. لكنها متشابهة كلها. نخرج منها خائبين لأنها اقل طولاً مما حسبنا. وفي مرات كنا نعبر زقاقاً ونظن اننا في سواه. “ألم نعبر من هنا قبل أيام” يسألني فأنظر الى المحلات المتشابهة المقفلة حولي، ولا أجيب.
هي متاهات كثيرة المخارج نسير فيها ولا نضل. كأننا، ونحن فيها، ننظر الى متفرعاتها المتقاطعة من منارة عالية. من شرفة بيتنا في الطابق السابع كنا نرى المدينة جميعها. كما نرى بيوتها متوقفة عند حدودها فنرسم خطاً يسوّرها بسهولة ان نخطّ ذلك على ورقة. انظر، هذا مبنى المكتبة الذي نشاهده من نافذة المطبخ، أقول له، فينظر اليّ غير مبال كأن لا شيء يثير فضوله في الأبنية البعيدة حين تشاهد من قرب.
تتعب أقدامنا من طول المسير، وكذلك تتعب أبصارنا. في المدن المقامة على رقع منبسطة، يستحب المسير المصحوب بتأمل الخطوات. “أنظر هذا مبنى متحفهم الوطني.. تعال نأت اليه غداً”. لكنه يستمر بالنظر الى حيث تسقط خطواته. قال لي، بعد ان وصلنا منهكين وجائعين الى البيت، انه لا يرى شيئاً اضافياً في الأبنية حين يراها من قرب.
لكنني، الآن، وبعد انقضاء سنة على رجوعنا، لا أراها الا ماشيين.
تسقط قدم من حافة الرصيف الى الشارع. تعلو قدم أخرى الى حافة الرصيف المقابل. نعابث حصاة صغيرة على بلاط الكورنيش فتسبقنا ثم نتبعها لندفعها الى امامنا من جديد. “سنبلغ اليوم شارع المقاهي” اقول فيما اغلق آخر ازرار سترتي استعداداً للمشي والبرد معاً. نمشي، سوياً، قبل ان تفرقنا المانوكانات المتوزعة في المحلات، والتي صرنا نعرفها واحدة واحدة. وعلى الطريق الخالية الطويلة تفرقنا سرعتانا. انظر اليه فأراه بعيداً ورائي بعداً يفسد علي استسلامي للسرعة التي شاءتها قدماي.
في المقهى اجد انه رأى في سبقي له تخلياً. يجلس صامتاً ثم يقول انه متعب ويريد ان يذهب قبلي الى البيت. اعرف انه يجازف بالقضاء على تقليد جلوسنا في المقهى الذي لم يصمد الا اياماً ثلاثة. في المدن المبنية على عجل سريعاً ما يغيّر المقيمون عاداتهم. “اشرب شيئاً ثم نقوم سوياً”. لكنه ينهض عن كرسيه لنعود من جديد الى المشي. متقاربين في الخطوات الأولى، ثم يباعدنا النفور الذي يظل ملازمنا حتى ننام.
لا أرانا الا على رصيف الطريق. في المشي الطويل يعرف الماشيان كيف يتجافيان من دون أن يكون الكلام سبب جفائهما. الخطوة الواسعة الأولى، التي معها نبدأ بترك مصاحبنا خلفنا، تحفر هوية يزيدها عمقاً بقاؤه في الخلف محافظاً على وتيرة سيره. وحين انظر ورائي ولا اجده أعرف انه ذهب في العداوة بعيداً اذ، لا بد، استقلّ سيارة ولم يقلني معه.
في البيت، حين أصل، أراه مرتدياً بيجامته ومشايته فأحدس انه غيّر ثيابه ليفهمني بأنه يرغب بازالة ذكرى نزهتنا معاً. وهذه ايضاً من العادات التي لا تدوم طويلاً. “غطني يا مروان” اقول له في اليوم التالي، فيغطيني، وينصرف الى الكنباية حيث يبدأ الاستمتاع بسهره وحيداً. كان عليّ ان اقبل ابتعاده الذي يجعله يوما
ً بعد يوم، رجلاً آخر يختلف عن ذلك الذي اعرفه. والآن، بعد سنة على رجوعنا ، استطيع ان استرجع سيرة تحوله تلك ملمحاً ملمحاً حتى انني استطيع ان اعيّن، في دقة متوهمة، المرحلة الوسطى تماماً بين هيئته القديمة وهيئته الجديدة. واكثر ما يقلقني فيه قدماه النحليتان اللتان لم تفلح الجوارب الصوفية في اخفاء المسافة التي تقيمانها بين معرفتي به وحيرتي امامه. كانتا مضمومتين مستوحدتين. تحت الجوارب، وغريبتين، الى الحد الذي يجعلني احجم عن اطلاق نكتة كنت أهمّ بها.
كذلك كانت نظرته ايضاً، وعيناه اللتان ما عادتا قادرتين على ايلاء الانتباه الى ما أقوله. صار اقل ثقلاً ووجوداً وقد ساعده على ذلك نحوله وقدرته على القيام من قعوده بجهد قليل.
في مرحلته الوسطى كان أقرب الى ان يكون طيفاً. وفي البحر، الذي كنا اول النازلين اليه، فاجأني باجادته العوم. جعل يبتسم لي من بعد لم اجرؤ على بلوغه وراح يلوح بيده كأنه يهددني بالذهاب الى ابعد. كان أكثر نحولاً مما توقعت. وحين خرجنا من الماء رأيت انه ينقل خطواته على الرمال بأسهل مما يقتضيه المشي.
بعد التحديق المتواصل في الواجهات تصير المانوكانات جميلة حقاً. كانوا يتركونها عارية في اماكنها المضاءة خلف الواح الزجاج العالية. وفي الأيام الأولى لوصولنا لم اتوقف عن التساؤل حول جعلهم اياها مكتملة القوام هكذا، ما دام انها لم تصنع الا لعرض الأثواب.
كانت على خلق كاملة. بل كان شق المؤخرة الذي ما كان له ان يظهر للزبائن المتجولين، اكثر كمالاً من شق مؤخرة حقيقي. لم يغفل الصانعون حتى عن الحلمتين في قمتي النهدين الصغيرين. مع الوقت، وبعد التحديق المتواصل في الواجهات تصير المانوكانات نساء حقيقيات، ولا تضفي عليهن الوانهن الصناعية الا شهوة عري تحقق لتوه، رغم انهن ما زلن على وقوفهن منذ أول الشتاء. كن نساء بألوان وطبائع شتى. ومروان، الذي لم يتوقف عن الانجذاب اليهن، صار يقف ملتصقاً باللوح الزجاجي مكوّراً كفه، جاعلاً اياه في حجم الثدي وفي استدارته.
كنّ، بوقوفهن المتواصل، متفرقات أو متجمعات يبدون المستيقظات الوحيدات في المدينة التي يخليها سكانها ابتداء من أول الغروب. يحيين الليل منتظرات لكن غير عارفات بأنفسهن واجسامهن.
ومن المنارة التي توهمتها كاشفة ازقة المدينة وانحاءها، رحنا نتقلب بين الواجهات فنقطع لها ازقة ونعتلي ارصفة، منوّرين بالضوء الساطع الذي يملأها. كانت اصابعهن الرقيقة الطويلة، في آخر اذرعهن، كأنها تشير الى شيء فيهن، رغم انها تذهب الى شيء بعيد عن اجسامهن. “قل لي يا مروان، هل هي اجمل من المرأة التي في الطابق الرابع؟”. يضحك، لكن قليلاً، ودون ان يرفع عينيه عن الواجهة.
مع انقضاء الوقت صار الوقوف امام الواجهات والتنقل بينها يفيضان عن تعمّد اطالة الطريق بين العمل والبيت. حتى اننا بتنا حين نخرج للتفرج عليها، نمضي ساكتين كاتمين الأمر من خجلنا. وعلى الطريق نجد اننا نمشي اليها مسرعين، فنتباطأ، لكن لخطوات نعود بعدها الى تسابقنا.
النظر الى الاجسام العارية كان يجعل كلاً منا اقرب الى ما يرى. ولا يوقف صمتنا ذهابنا الى البيت. بت اراه اضعف من ان يقوى على اهواء غامضة تعصف بجسمه، صار، وهو جالس صامتاً على الكنباية، كأنه مسلم نفسه الى العالم الداخلي لأعضائه. ولم يعد يقتصر افتراقنا على تناولنا الطعام منفردين وذهاب واحدنا الى سريره قبل وقت طويل من ذهاب الآخر. بل اننا بتنا مسلمين بأن لا شيء يجمعنا سوى اقامتنا معاً. معاً نجلس على كرسيين في الشرفة، ايام الدفء لكن يروح كل منا ينظر الى شيء مختلف. يديم هو النظر الى الكنيسة تحتنا ويرى فيها اشياء لا اتبيّنها. كما انه كان يردّد اسمها الشبيه باسم مدينة، دون ان اتمكن انا من حفظه. يقضي وقتاً طويلاً محدقاً بقبتها الفضية وانا اتساءل ماذا تراه يجد فيها. “انها اقدم كنيسة في المدينة” يجيب عندما اسأله عنها. وفي صباحات الأحد كان يقوم باكراً من سريره على اصوات اجراسها ويبدأ النظر الى اهل المدينة الوافدين اليها.
صباحات الآحاد كانت فرصته للتعرف على الناس الذين يخمن هيئاتهم تخميناً من وراء نوافذ بيوتهم المغلقة. تجعلهم ملابسهم الاليفة قريبين اليه فتصير المسافة التي تفصله عن عائلته قليلة. ذات صباح ايقظني من نومي ليقول لي انهم يقيمون احتفالاً في باحة الكنيسة. وحين رأيتهم لم اجد لغبطته سبباً كافياً اذ لم يضيفوا الى تجمعهم المعتاد الا طاولة بيضاء وضعوا عليها صحوناً من أكلهم. كانوا يتحلقون حول الطاولة وينفضون عنها ليعودوا اليها من جديد. “الى متى ينتظرون؟” سألته بعد انقضاء وقت طويل على انتظارهم لكنه لم يكن اكثر استعجالاً منهم.
وكانت حركة قليلة من احدهم كافية لجعله ينتظر ساعة اخرى، “انظر الأولاد” يقول لي، “انهم يلعبون بالكرة في باحة الكنيسة” أو يقول: “انظر لقد اضافوا طبقاً آخر الى المائدة”.
ليس مشهد العائلات ما كان يجذبه ما دام انه من المشاهد التي يُكتفى منها بالنظرة العابرة. وانا، الذي رأيت في اهتمامه مبالغة، اعتقدت انه لم يكن يقصد الا الى تطويع الوقت، وجعله مذعناً لعبثه فيه. ولم يكن يريد ذلك لنفسه وحدها. يقول لي، حين يرى انني تشاغلت عنهم بالنظر الى داخل البيت، “انظر لقد انضم الخوري اليهم” فانظر لأجد ان الخوري لم يضف شيئاً على المشهد، اذ ظل وقوفهم المنتظر الممل على حاله.
من دون سكان المدينة جميعهم، وحدنا من شرفة بيتنا في الطابق السابع، نستطيع ان نرى الكنيسة من الأعلى. الفنا القبة الفضية التي لم ترفع، حين أقيمت الكنيسة، الا ليشاهدها
البحارة وراكبوا السفن البعيدة عن الشاطىء. كما الفنا السلم الحديدي المرتفع عن قاعدة القبة حتى قمتها، ذلك الذي لم نر احداً يتسلقه البتة.
وباستثناء صباحات الآحاد، لم تكن الكنيسة الا بناء فخماً يفيض عن قدرة الخوري على احتوائه وبعث الحياة فيه. كان يقيم في غرفة بخلفية البناء. ولا يخرج منها الا ليزيد وحشة على المشهد الخالي. حتى العائلات، التي ينفق مروان اوقاتاً طويلة وهو يحدق فيها، لم تستطع ان تحيي من المكان، الا طرفاً من أطرافه. كانت تتجمع في الباحة مولية ظهورها الى الحجارة العالية الثخينة. قال مروان، الذي لم اعرف من أين يأتي بمعلوماته: انها بنيت منذ اربعمئة سنة. اما أنا فلم اجد اثراً فيها يدل على بشرها القديمين، كأنها انقطعت، منذ ان بنيت عن الناس الذين اقيمت لأجلهم. وهؤلاء، الذين يحثني مروان على ادامة النظر اليهم، ليسوا الا طلائع القاصدين الذين اتوا يفتتحونها خجلين متباطئين.
حتى انني فكرت ان طابقها العالي، الذي بين قاعتها وقبتها، لم يزل خالياً منذ ان اقيم. لا مهجوراً ولا متروكاً، بل خالياً هكذا بلا الفة ولا وحشة.
انها مكان خال نظيف ومرتب بما يبعد الأشباح التي تنتظر تكاثف الغبار حتى تقيم مسارحها. “انها تحتاج الى أشباح حتى تصير قديمة وجميلة”، اقول له، كأنني اصحح النعوت التي يطلقها عليها.
وحدنا كنا نراها من الأعلى، من سطحها وقبتها الفضية. وروان، من مكانه على الشرفة في الطابق السابع، كان، بالعناد الذي بات يتميز به، يوافق على تغيير النعوت التي يقولها متسرعاً. لكنه ينتظر العائلات حتى تعود في صباحات الآحاد ليستأنف، من جديد، بعث الحياة القديمة في الكنيسة. رأيت انه يسعى الى معرفة المدينة الميتة من اقرب امكنتها اليه. قال لي، في واحدة من نزهاتنا، ان الشجر يكبر هنا لكنه يظل في هيئة الشجر الصغير، وانه لا يطرح فيئاً على المستظلين به. كان يكمده ان يرى الشجرات متباعدة الأغصان قليلة الأوراق، ومن غير أشباح، مثلما كنت اجد الكنيسة.
لكنه استطاع، بعناده وصمته، ان يطري اجسام المانوكانات ويلينها. وها انه، بالعناد والصمت اياهما، يسعى الى تليين المدينة وتطريتها. وهو، في سعيه الى ذلك، كان يجانب النظر الى السياح الذين بدأت طلائعهم من العجائز تشاهد حول مبنى الكنيسة.
ولم يهتد الا متأخراً الى افواج السنونو التي تطوف مسرعة حول مبنى الكنيسة وباحتها. انتبه، فجأة، الى انها تملأ الفضاء حولنا. “انها تطلع اصواتاً ايضاً”. قال لي ليؤكد اننا ما زلنا في بداية اكتشافنا لوجودها. “لكن اين تبيت؟” سألني، على نحو ما يسأل المحايد الأيقن معرفة لأنه الأقل اكتراثاً.
لكنه لم يرها الا وهي تحوّم، مثل اسراب حمام صغير مسرع، تصل الى آخر فضاء الكنيسة فتتوقف، ثم تستدير لتبدأ دورة تالية. “أنها لا تحوم الى هنا”، قال “أنظر الى سماء المدينة كلها، هل ترى سنونوات سواها؟”.
يحب ان يرى المدينة خالية الا من الكنيسة. “انها قائمة منذ اربعمائة سنة”، يقول، ويتخيل الارض من حولها قفراً. وهذه السنونوات ما زالت وفية لفضائها القليل الذي الفته جداتها القديمات. تظل تحوم ولا تحط، كأنها مخلوقات سماوية ليس لها اغراض من الأرض. “لكن من اين تأكل، ومتى”؟ يسألني من دون ان يرفع نظره عنها لئلا تحط في غفلة منه. وهو، بعناده، لم ييأس من تكرار دورانها الذي لا يتميز فيه طير من طير. قال لي انها لا بد تبيت في الكنيسة، “تدخل الى طابقها الثاني من شق في واحدة من النوافذ الضيقة المتجاورة”.
اصر على رؤيتها تدخل في الشق الذي توهمه ليتاح له، معها، رؤية الكنيسة من داخلها. لكنه لم يتمكن من ذلك. ظل الطابق الثاني لا عصياً على الرؤية وحدها، بل عصياً على التخيّل ايضاً.
ظلت السنونوات تحوم دون توقف، ومثلها العائلات التي تأتي في صباحات الآحاد بثيابها غير الجديدة لكن المرتبة. قال انها تنام معلقة في الفضاء. توقف سرعاتها المتهورة بعد ان تتعب لكنها تظل فاردة اجنحتها، وربما تنقلب على ظهورها مثلما يفعل البشر حين ينامون.
“صباح طيب يا ابتاه”، قال مروان بالانكليزية للخوري الذي خرج كأنما ليشمّس حذاءه في الصحو. كان يحدق فيه مقلباّ قدميه لضوء الشمس حين رأيناه ونحن خارجان من البناية. تلك فرصة مؤاتية لمروان اذ لن يرتبك امام الخوري الساهي وهو يحييه كأنه يأخذه في غفلة. لكن لا شيء اقل اكتراثاً من الطريقة التي اجاب بها الخوري على التحية. “صباح طيب”، قال، لكن دون ان ينظر الى محبيه، ودون ان يوقف استرساله في النظر الى حذائه.
طلائع السياح من العجائز ازدادت اعدادها مع ازدياد ضوء الشمس في النهارات. والمانوكانات، التي كانت عارية في الشتاء، وقت كنا وحدنا في المدينة، بدأت تكسى اقمشة حريرية وصوفية سترات وفساتين من الجلد غير متقنة الصنع. بدت مختلفة بعضها عن بعض، على نحو ما تختلف النسوة في الطرقات، ولم يعد من السهل جمع اجسامها كما تجمع النظرة أجسام الحريم الكثيرة في شهوة واحدة. حتى انهم اخذوا يلبسونها ثياباً غير لائقة بها فتبدو فقيرة قليلة الزينة بما لا يتفق مع الرقة التي تنضح من أجسامها العارية.
ولم يكتف اصحاب المحلات بتقريب المانوكانات الى اجسامهم بل انهم، ليقضوا على نزوتينا اللتين طالتا قضاء تاماً، جعلوا من بعض الواجهات مصانع بائسة لإعادة خلق الأجسام. رأينا ذلك اولاً في واجهة واحدة. وليس مشهد الأذرع المفكوكة والأجسام المتراكبة في غير نظام ما اجفلنا وأخافنا، بل اثر الحياة الباقي في الوجوه. كانت العيون المتسعة تنظر النظرات اليقظة اياها دون ان يبين فيها اي تعبير عن ادراكها لما المّ بالأجسام تحتها. بل ظلت الشفاه على ابتسامها والشعور على تهدلها وتسريحها. رأينا الرؤوس مشرئبة رشيقة بما يقتضيه الوقوف بينما الأجسام تحتها محطمة. قلت لمروان كأن أحداً رمى قنبلة على الواجهة، قبل ان نخطو الى واجهة المحل الثاني ونبدأ التحديث، بفضول غير مبرر، في المصنوعات اليدوية الصينية، ثم في الأدوات والألبسة الرياضية، في المحل الذي يليه.
ولم يستطع مروان ان يتوصل الى معرفة الناس رغم تحديقه الطويل فيهم. كان يظن انه، بدوام النظر اليهم، سيتمكن من عزلهم افراداًً عن الحلقات التي تجمعهم، ويتعرف اليهم وجهاً وجهاً كما يتضح معنى الحروف بعد التمعن في نصها. لكنهم ظلوا يقفلون نوافذهم حتى في الأيام التي يصحو فيها الطقس ويصفو. “تستطيع ان تراهم في السوق”، قلت له. لكنه كان يكرههم هناك ويرى ان اللغات التي تخالط حكيهم تجعلهم جميعاً مثل كناسي المطارات. “انهم قبيحون وراء اللحم وبين الخضار”، قال” “وما ادراك انهم ليسوا هكذا في مطابخهم؟” اجبته، محاولاً ازالة وهمه عن اجتماعهم اليفين قليلين في البيوت.
في المتحف الصغير الذي خصصوه لعرض ازياء وأدوات من تاريخهم القريب كان يسبقني الى الحجرات كأنه يبحث عن شيء عيّنه قبل دخوله. لم تعجبه الأسرة القديمة العالية التي غطوها بملاءات وأغطية مطرزة. وفي الحجرة المخصصة لأدواتهم الزراعية قال لي انهم لم يستطيعوا العثور الا على أخشاب محفورة. كانوا مثلما نحن في تاريخنا القريب. لكن قفاطينهم التي البسوها لدمى شمعية بدت، رغم شبهها بما نعرفه من ازيائنا القديمة، اكثر وحشة من جميع ما شاهدناه في المدينة. قال لي انها لم تنج من الموت الذي ادرك اصحابها. ولم نتمكن من ان نبعد ذلك من رأسينا على نحو ما يفعل من تطبعوا بطبائع السياح الذين لا يرون من امتعة الماضي الا صنعتها. “انها غريبة وموحشة”، قال، لأنهم ادخلوا في نسيجها هذه الخيوط القوية الألوان التي لا نشاهدها في قفاطين جدودنا.
في الطريق الخالية الموصلة الى البيت قال لي انها ليست موحشة فقط بل ولئيمة ايضا. رفعت الألوان صدور الرجال الشمعيين الى الأعلى. ومروان رأي فيها غرابة اشد وطأة مما لو كانت الثياب مختلفة كلها عما نعرفه في بلادنا. “انها تدل على ان هؤلاء الناس الشبيهة اشكالهم بأشكالنا يبيّتون لنا شيئاً”، وهو يحدق في اسفل البناية من الشرفة التي خرج اليها فور دخولنا الى البيت. “لكن لماذا لم نخرج؟” سألتي وهو مغتبط بالبرودة الخفيفة، وبمشهد الغروب الذي افرغ المدينة من كل حركة.
في المدن الغريبة لا يتوقف المقيمون عن اتباع سلوك ايام وصولهم الأولى. يعيشون، وان طالت مدد اقاماتهم، كأنهم يطيعون لوحات ارشاد تدلهم على الطرق التي يجدر بهم سلوكها. امام اشارات المرور الكهربائية هم الاكثر امتثالاً اذ لا يعبرون الا بعد ان تؤذن اشارة المشاة ايذاناً تاماً. وفي الحوانيت التي تبيع التبغ والصحف يكتفون بأقل الكلام يقولونه للبائع موجزاً واضحاً. حتى عبارات من نوع “عمت صباحاً”، او “من فضلك” يقولونها كأنهم اخذوها من دليل المدينة. انها حياة سهلة لا يحتاج من يحياها الى ان يلم بتقنيات كثيرة. كنا، بالقليل الذي نعرفه، لكن الحاسم، نجد اننا ننجز معاملتنا في المصرف القريب وفي وقت اقل من الذي ينفقه اهل المدينة انفسهم. “عمت صباحاً”، نقول للموظف الواقف خلف الحاجز الخشبي الطويل، فيبتسم. “نريد ان نضع في الحساب الذي هذا رقمه هذا المبلغ من المال، من فضلك”. ثم، “شكراً”، نقول وهو يعطينا، مبتسماً ايضا، الورقة التي قيّد فيها حسابنا. نعيش كأننا نطيع لوحات ارشاد او كأننا نقرأ في دليل المدينة المبسط. “مساء الخير”، نقول لناطور البناية، فيقف لنا راداً التحية. “هل نعطيه اكرامية”؟ يسألني مروان، فأجيبه بأنني لا اعرف. نقول له “مساء الخير” مرة ثانية، حين نمر من امامه خارجين بعد عشر دقائق، فيقوم واقفاً، كما فعل حين دخولنا. “سيغادر بعد قليل”، اقول لمروان، اذ اننا الساكنان الوحيدان في البناية التي لا تعمل مكاتبها الا في النهار.
ننتقل مكشوفين في المدينة الساحلية فلا يتوجس بنا رجل المنارة العالية الذي توهمنا وجوده فوقنا. ولا تفعل الأيام فعلها اذ لم يوصلنا المشي الذي استغرق شهوراً الى ما كنا نبحث عنه. نخرج من امام ناطور البناية الى الكورنيش القريب مطيعين اقدامنا التي تنعطف يساراً من تلقائها. لا اقول لمروان نذهب الى الكورنيش، ولا يقول هو لي، بل نذهب في اتجاهه، هكذا، لأنهم اعدوه للمشي. وأحياناً، كان مروان بجانب خط الكورنيش المستقيم الممتد امامنا فيعتلي حاجزه العريض الفاصل بينه وبين الشاطئ، ويبدأ يكلمني وهو يعلوني متراً. لكنه لا يظل على علوه الى آخر الطريق، فينزل، حين يصير الرجلان الماشيان باتجاهنا قريبين، ويتخذ وجهه امامهما السحنة التي لا تستدعي الفضول او النظر.
“لقد طلبت منه علبة التبغ كأنك تشتمه”، قلت لمروان بعد خروجه من الدكان الذي بين بيتنا وعملنا. ولم يكن دخولي معه ضرورياً لأتبين ذلك، فحتى لو انتظرته خارجاً لعرفت من خروجه المسرع ووجهه المتجهم انه خلّف عداوة عند الرجل الذي نشتري منه كل يوم. بات يفيق هكذا، متجهماً مقفل الوجه. وعلى الطريق ما زلنا يسبق واحدنا الآخر. والآن، بعد انقضاء سنة على رجوعنا، ارى انه لم يسبقني مرة، رغم انهماكه بسرعته التي لا تمكنه من تجاوزي.
ما جرى بينه وبين بائع التبغ لم يكن عداوته الوحيدة. فهو، بعد المعارك الخاسرة التي خاضها مع الشوارع والكنيسة وسنونواتها والبشر المتجمعين في باحاتها آيام الآحاد، صار كأنه يتقصد ايذاء اهل المدينة. فعل الشيء نفسه مع بائع النبيذ العجوز غير البعيد دكانه من بيتنا. لكن هذا كان متهيئاً للمنازلة ومستعداً لها. “في المرة الثانية اشتر من عند غيري”، قال لمروان وهو يبتعد عن القنينتين اللتين وضعهما في كيس، كأنه يعلن بأنها المرة الأخيرة التي يسمح لنا فيها بدخول دكانه.
تحولوا الى المواجهة دفعة واحدة. قبل ذلك، لم يكن يكشف لهم عن كراهيته الا قبل لحظة من خروجه، كأنه يترك لهم اكرامية كريهة قبل ادارته ظهره. ظن ربما، من سكوتهم في البداية، ان اظهاره لكراهيته يزيد من قوته التي رأى انه محتاج اليها في تلك الفترة من اقامتنا. وحين كنت اراه خارجاً من احد الدكاكين، منهياً واحدة من عداواته العابرة، اتعجب من سيماء انتصار تتبدى في فسحة من وجهه المتجهم المقفل. يهبط الدرجة الوحيدة من الدكان الى الشارع، متصلب الجسم، كأنه خرج ظافراً من اشتباك استخدمت فيه الأيدي والأجسام.
حتى اللحظة التي قرر البائعون فيها مبادلته الكره بالكره، كان مروان يرمي كلماته المعادية كأنه يمارس طريقة غريبة في معرفة المدينة والتمكن منها. ظن ان الاشهر التي قضاها في الجزيرة مكنته من ان يصير قوياً هكذا. وهو، طوال تلك الفترة من اقامتنا، كان يتصرف كما لو انه يقوي واصلين جدداً توهمهم بيننا. وأمام هؤلاء، المتوهمين، كان يتباهى بعداوته التي اعرف انها لن تبلغ حد النزال. فالبائعون، الذين علمتهم مدينتهم البحرية كلمات متفرقة من كل لغة، لم يغفلوا عن الحذر من الذين يتقنون لغاتهم اتقاناً تاماً. والكلمات القليلة التي كانت تكفينا لنعيش، كانت تكفي ايضاً لأن نبدأ بها حرباً.
مع تقدم الصيف اصابتنا عدوى السياح الذين ملأوا المدينة. صرنا ننزل، مثلهم، الى البحر ونضيع بينهم على الشاطئ الطويل الخالي من الجلبة. كانوا، رغم احتشادهم الذي نشاهده من شرفتنا، يبدون، ونحن بينهم، كأنهم استطاعوا تدبر انزوائهم الذي يعيّنون حدوده بالمظلات الزاهية. وقد ساعدتهم على الصمت الشمس الساطعة التي اسلموا لها اجسامهم. كانوا ينامون في فيئها ساعات ولا يفيقون الا ليشربوا ماء من القناني البلاستيكية التي وضعوها قريباً من رؤوسهم.
وفي المطعم، بعد الغداء، نقوم عن الطاولة دون ان يخيبنا السرور القليل الذي حصلناه من الطعام. “انهم يوزعون ترحيبهم على زبائن كثيرين”، قال مروان الذي بات يعرف كم سنترك اكرامية للنادل. “كم دفعنا؟، اسأله على بعد خطوات من المطعم لأعطيه النصف امام السياح المترددين امام ابواب المطاعم. “انهم مثل مرضى ناقهين”، قال مروان الذي لم يعجبه ابتسامهم، ولا السهولة التي يرتدون فيها لكل وقت من اليوم زيه. “ان لهم طبائع الجيوش ونظامها”، قال من دون ان يتوقع ان اسأله كيف هم جيوش ومرضى ناقهون في الوقت ذاته.
الا اننا اصبنا بعدواهم. لا لأننا بتنا نقضي الأوقات مخدرين قليلي التطلب، بل لأننا بتنا نشعر بتشابه الأيام مع اقتراب نهاية اقامتنا. نسير بينهم ضائعين على الشاطئ لظننا ان كل مكان نختاره لجلوسنا سيظل منفلتاً ومكشوفاً ونبدو فيه كأننا نعترض طريقاً. “ان لهم اجساماً اثقل من اجسامنا… نحن الذين عشنا في المدينة ثلاثة فصول كاملة”.
قلت له لأنهم اكثر خبرة منا بتقنيات العيش القليلة. “انظر كيف انهم اشتروا مظلات وحصراً من فور وصولهم. يكفي ان ينصبوها كلما نزلوا الى الشاطئ حتى يفصلوا ملكهم عن ملك سواهم”.
ونحن لم نفعل مثلهم لأننا تأخرنا. حتى أننا كنا ننتظر خروجهم من الماء لننزل فيه، “قم لنسبح”، اقول له، “لقد خرجوا”.
يكون الماء حولنا عكراً لكثرة ما خوّضوا فيه حتى أننا لم نجازف بفتح عيوننا تحته لئلا تمتلئ بالرمل. وكان مروان ينفصل عني امتاراً كأنما ليتمكن من مراقبة نفسه وهو في الماء. يغوص فيه، ثم يطفو، وأثناء ذلك لا يكف عن تحويل جسمه ورأسه بين الاتجاهات كأن التزامه وضعاً واحداً سيجعله مراقباً منهم.
ـ تعال نتصافح تحت الماء، اقول له ممازحاً، فيبتسم لي ويستدير عني الى جهة اخرى. يحب ان يسبح بمفرده، او ان يسبح لنفسه. وكنت اعرف انه يخالط الضجر بالمتعة، اذ لا يهبط في الماء مسرعاً الا ليستبق الضجر الذي سيداهمه وهو تارك نصفه فوقه.
ـ كيف سنتذكر جلوسنا في المطعم بعد خمس سنوات، سألني.
وفي الماء كان ينفصل عني امتاراً كأنما لينصرف الى إطعام ذاكرته على رغمها، ليضع فيها صوراً له من اجل ان يشاهدها، منفرداً، بعد مغادرتنا المدينة.