عاش شحيحاً وكتب بخفوت لكن ما تركه كان كثيفا في الرأس والمكتبة: بسام حجار منح قصيدة النثر مشروعية جديدة ورحل
ناظم السيد
بيروت ـ ‘القدس العربي’ توفي أمس الشاعر اللبناني بسام حجار عن عمر 54 سنة أمضاها في الشعر والترجمة والصحافة، وذلك بعد إصابته قبل أشهر بمرض السرطان. وكان أجرى عملية جراحية لاستئصال الورم، لكن المرض امتد إلى الكبد، مما تسبب في وفاته. وقد دفن الشاعر في مقبرة صيدا حيث عاش معظم حياته.
نشر بسام حجار منذ 1979 عدداً من الكتب الشعرية التي شكلت محطات أساسية في قصيدة النثر اللبنانية، ولا سيما بين الجيل الثاني من شعراء هذه القصيدة. من ‘مشاغل رجل هادئ جداً’ (1979) إلى ‘تفسير الرخام’ (2006)، كان بسام حجار يعطي قصيدة النثر العربية مشروعية قلما أعطاها شاعر أسوة بشعراء راحلين أمثال محمد الماغوط وسركون بولص. بلغة أصيلة، خافتة، بسيطة، عميقة، حميمة، غنائية، كتب بسام حجار نصاً شعرياً ذا بنية واضحة. صنع من أشياء بسيطة وقليلة عالماً واسعاً. من الحب والعائلة والموت، من حب الزوجة وموت الأب والأخت، كان بسام يؤلف كوكبه الشعري. كتب بمفردات قليلة، بقاموس لم يتخط هذا المحيط الضيق، قصائد فتحت آفاقاً في التعبير والجمالية. لم يعنَ كثيراً بالتأويلات، لم يهتم للإنشاءات اللغوية، لم يعقلن نصه، لم يسع إلى بهرجة زائفة وألاعيب حداثوية، بل انصب اهتمامه على كتابة نص بسيط وشفيف، ذي بنية نفسية وجمالية سردية، متأثراً بما ترجمه من عشرات الروايات إلى العربية.
نشر حجار في الشعر كتباً لم تلبث أن غدت محل إجماع الشعراء والقرّاء من بينها: ‘لأروي كمن يخاف أن يرى’، ‘مهن القسوة’، ‘فقط لو يدك’، ‘مجرد تعب’، ‘بضعة أشياء’، ‘معجم الأشواق’، ‘ألبوم العائلة’ وغيرها. كما نشر كتاباً عن تجربته في الترجمة بعنوان ‘مديح الخيانة’. ترجمة طاولت عشرات الكتب والأسماء، أبرزها: ياسوناري كواباتا، بورخيس، سالنجر، بيتر هاندكه، الطاهر بن جلون، بوهوميل هرابال، يوكو أوغاوا، جان أشينوز، كارلوس ليسكانو، أمبرتو أيكو، آغوتا كريستوف، إميلي نوثومب، إيتالو كالفينو، جيزوالدو بوفالينو، كريستا وولف، جان بودريار، مارتن هايدغر وأسماء أخرى كثيرة.
عمل بسام حجار في عدد من الصحف، فكتب في ‘النداء’ و’الحياة’ و’السفير’ و’ملحق النهار الأدبي’. وظلَّ يكتب في ملحق ‘نوافذ’ الذي تصدره صحيفة ‘المستقبل’ حتى وفاته.
شعرياً، منح بسام حجار عبر جملته الغنائية البسيطة، وبنية قصيدته الواضحة، ولغته غير المتحذلقة، المباشرة لكن بعمق، منح مشروعية أخرى لقصيدة النثر. على يديه غدت هذه القصيدة أكثر أصالة وجدة معاً. من جهة هي قصيدة متأصلة بلغتها العربية، ومن جهة أخرى هي قصيدة مفتوحة على النثر والسرد، على احتمالات أخرى للشعر. لكن بساطة هذا الشاعر كانت مخادعة، هي بساطة تخفي تراكماً من الثقافة حيناً ونكراناً للثقافة حيناً آخر. من جهة نستطيع أن نلمح هذا التراكم الثقافي كما في قصيدته المطولة ‘العابر في منظر ليلي لإدوارد هوبر’، ومن جهة أخرى نحن أمام قصيدة لا تقول شيئاً سوى رهافتها ورقتها وجماليتها التي تتأتى من ليونة اللغة وعلو الإحساس كما في قصيدة ‘لا تذهبي إلى الجوار’ التي كتبها إلى شقيقته التي فقدها في حادث سير. على أن بسام حجار شاعر الإحساس المرهف في المقام الأول. هو شاعر الحب الذي يؤلمه أنه عاشق وأنه معشوق، وهو شاعر الموت الذي عاش قريباً من النهاية طوال حياته، وهو شاعر الخسارات: خسارة الاب والأخت والزوجة.
كتب بسام حجار الموت منذ أول مجموعة إلى آخر مجموعة صدرت له. لم يبتعد عن الموت في كل ما كتبه، موته الشخصي الجواني، وموت بعض أفراد أسرته، وموت الأمكنة في عينه. كان الموت رفيقاً ملازماً للشاعر. ليس هناك كتاب شعري لبسام لا يكون الموت بطله الأول. حياة الشاعر نفسه بدت نوعاً من الإخلاص لشعره. لا نعرف من كان يفي للآخر: شعره لحياته أم حياته لشعره. لكن في الحالين كان الرجل يطابق قوله عمله، وكلامه سعيه، وإحساسه واقعه. عاش بسام في عزلة شبيهة بعزلة نصه ليس من حيث الاهتمام بهذا النص وإنما من حيث معنى هذا النص. لقد كتب حجار العزلة والموت والفقدان والخسارة وعاش هذه المشاعر والحالات في حياته. لم يكن بسام يأتي إلى مقهى ليشرب قهوة مع الأصدقاء أو يقيم نميمة أو نقاشاً. كان يأتي إلى بيروت ليجلس بضع ساعات في مكتبه ثم يغادر بسرعة إلى صيدا حيث يقيم. هو ابن المدن الثانية كما صديقه حمزة عبود الذي نال إهداء مبكراً من الراحل في كتاب ‘مشاغل رجل هادئ جداً’.
المرة الوحيدة التي التقيت فيها بسام حجار، أنا الذي لم أخف إعجابي بشعره في كل تصريح لي، كانت في مقهى ‘جدل بيزنطي’. جاء بسام خجولاً، هادئاً، غير مرئي لفرط علاقته الواهية بالحياة، وجلس على كرسي منزوٍ. قلت له: أحب شعرك يا بسام. رفع بثقل ابتسامته وقال: وأنا أحب ما تكتب. لم يدر بيننا أكثر من هاتين الجملتين.
لقد أحسست أنني أمام شخص أشبهه. لهذا لم أستطع أن أتواصل أكثر معه. يكفيني أن أحمل نفسي فكيف باثنين مني؟ لكني كتابة، كنت أكثر تصريحاً. مراراً ذكرت أنني أحب هذا الرجل. حتى إن الصديقة عناية جابر سألتني ذات مرة في حوار معها في ‘السفير’: لماذا تذكر دائماً أنك تحب بسام حجار؟ وقتها قلت إنني أحب شعره. الآن أضيف: لأنني أرى نفسي فيه.
أيضاً يمكن القول إن المكتبة العربية افتقدت ليس شاعراً توفي في عز عطائه كبسام حجار فحسب، وإنما مترجم على قدرة عالية في الترجمة. نقل حجار إلى العربية عشرات الكتب لكتّاب عالميين كما سبق. وكانت ترجماته في هذه الكتب من أجمل الترجمات لغة وبنية وأناقة ودقة. من يذكر الكتب الأولى التي نقلها هذا الشاعر؟ من يذكر ‘الشقاء العادي’، الرواية الأولى لبيتر هاندكه، والتي نقلها حجار إلى العربية؟ من يذكر شقاء الأم في هذه الرواية والشبيه بشقاء الشاعر نفسه؟ من يذكر ‘بلد الثلوج’ لكواباتا؟ من يذكر ‘قطارات تحت حراسة مشددة’ لبوهوميل هرابال؟ من يذكر ‘غرفة مثالية لرجل مريض’ ليوكو أوغاوا؟ هذه الغرفة التي بدت أنها غرفة الشاعر نفسه حيث كان ينتظر شقيق الروائية الموت. الموت الذي رافق الشاعر في حياته وشعره. الشاعر الذي عاش ظلاً مربوطاً إلى الحياة بخيط رفيع بالكاد كنا نراه أو نحس به.
مديح (هذه) الخيانة
ما هذا إلاّ عبور آخر. كانت الرّحلة هائلة أمّا الموتُ فهو تفصيل صغير.لا ندري حقاً كيفَ فَعَلْتَ، لكنّك صنَعتَ لكَ بلاداً من مفردات. كلّما كتبتَ سطراً كنتَ تستردّ منها شيئاً، حتّى اجتمَعَت كلّها بين يديك، وأقامَت في قلبك المنهوك.لا ندري حقاً كيفَ فعل؟أنتَ المُطمَئِنُّ إلى ما يسرّ به قلبُكَ إلى أصابِعِكَ فتكتبُ الأصابعُ، في كلّ مرّة، نشيداً لأملٍ لم يبرح صدرك.نُفِيْتَ وبَقيت في قلب فلسطين.نُفيَتْ فلسطين وبَقيتْ في قلبك.لا ندري حقاً كيف فَعَلتَ؟ ما العبارة التي تستخدمها لكي تأتيكَ طائعةً وتجلس بين يديكَ وتتسمّى بالأسماء والصفات التي تطلقها عليها.لستَ ساحراً ولا هي حمامة بيضاء، ومع ذلك تُصغي إلى صمتِك العميق، وصوتك الأعمق.الترابُ، حتّى التراب الذي سوف يهمي على جسدِكَ تسمّيه بَرداً لأنّه ترابها.والسروات حول الحفرة أشجاناً.
والضريح ليس الضريح.
رَجُلٌ وأرض يتبادلان اسميهما بيُسرٍ كأنّما حبّ الرجل للأرض لعبة طفل.حبّ غير مشروط.
رجلٌ وأرض،
رفيقان. غريبان على الدوام.
معاً، على الدوام.
لا ندري حقّاً كيف فَعَلْتَ غير أن تردادك اسمها أقامها مِن القَبْر.
لم تكفّ عن المناداة حتّى سمعت.
لم تكفّ عن توبيخ الموت حتّى زال عنها.
وعندما تضرّعتَ أن تصمتَ الأسلحة لأجلها، استجابت الأسلحةُ الصُمّ.
كأنّك لشدّة ما أردتَ أن تكون لكَ وحدكَ، أخفيتها كلّها، أعواماً، في أوراقك. كلّها. بلى. لا ما تشتهيه منها فحسب. ولا ما تمقت فحسب.هي كلّها. أرضٌ وسماء. جبلٌ وهاوية.
هل كنتَ تنادي كلّما شئتَ: يا لِعازر، قُم!
ولِعازَر في لغتك قد يكون بيتاً أو شجرة؛ امرأةً أو رجلاً؛ شيخاً أو طفلاً؛ولِعازَر قد يكون أرضاً. قد يكون أنتَ. وقد يكونُ أملاً مُلَفّقاً. لكنّك آمنتَ ولمّا دحرج الملاكُ الحجَرَ عن باب القبرِ سطعَ نورٌ.لا ندري حقاً كيف فَعَلْتَ؟
آمنّا طويلاً بِعَتمٍ مُقيم، فلفّقتَ، بالمفردات، نوراً. وقلتَ قبلنا جميعاً: أنا أصدّق هذا النور. أنا أكذّب العَتْمَ. فصدّقنا.فلِمَ تغادر الآن؟
قامَ لِعازَر ثمّ اختار أن يقيم في القبر.
وحدّثتنا الأسلحة مجدّداً حديثها الطويل: وكلّ صوت غير صوت الأسلحة خيانة.وانكمشت الأرض ولم يبق منها إلاّ اتساع جلد حيّة.
وحُفِرَ قبرٌ عميق.تحته قبرٌ عميق.
تحته قبرٌ …