شــــــمــــــــوســــــه أوســـــــــع مـــن أكــــــوانـــنــــا الـــصـــغـــيــــرة
مازن معروف
ثمة جوقة من شعراء قلائل، اختاروا أن يعيشوا ليكتبوا، ليتزوجوا الكلمة ويزاوجوا بين لغات العالم عبر ترجمات أعمال أوروبية وآسيوية وأيضا شعرية. هم شعراء لا يخرجون الى الشوارع ولا يغرفون من بحر العلاقات العامة ذات الضرائب الباهظة الثمن وخصوصاً ضمن ما يعرف بالوسط الثقافي. يعاندون اللغة وتعاندهم، ويكسبون ودّها في النهاية، وفي كل مرة يخرجون الينا بمجموعة شعرية أو رواية مترجمة بقلمهم، نشعر كم كان الصراع شرسا ما بين أمانتهم الكتابية وسرعة انجازهم العمل الأدبي. بسّام حجار واحدٌ من هؤلاء، لم تأخذه متعة الحياة يوما أبعد من متعة الشعر والاستسلام لقصيدة ذات شكل كتابي واحد. ونكون منصفين جدا اذ نقول إن هذا الشاعر والمترجم والأديب، اختار لحياته بريقاً شبه سري، رفعه دوماً الى درجات من التركيز التام نحو استنباط أشكال كتابية جديدة في قصيدة النثر، فكان في كل مرة من مرّاته القليلة، يخرج إلينا مما يشبه السبات، رافعاً في وجوهنا ضوءه، أو شمسه التي صنعها في قبو وحدته. كل عمل من أعماله، نسمّيه شمسا صغيرة غير أنها كانت دائما شموسا كبيرة الحجم على أكواننا الذاتية والتي لطالما اعتبرناها تتسع لعالم بأكمله. شموسه أوسع حجما من أكواننا الصغيرة. هكذا كان ذلك الرجل، الذي لم نتعرف إليه الا من خلال كتبه الشعرية والتي أتعبنا البحث عنها في بيروت، ومن خلال أيضا ترجماته التي كنا نتلقفها في كل معرض كتاب، بأرواح فقيرة الى الأدب العالمي.
مجموعات بسّام حجار الشعرية قليلة الحضور في المكتبات، كبسّام حجار نفسه، القليل الحضور في مشهد المدينة ومقاهي وجود أرباب الأدب أو متلقفي الثقافة بشكل عام. لم يشأ أن يصرف جهده في جعل الشوارع ومعمعات المدينة ترهق قدميه وأصابعه ورأسه، فارتأى لنفسه استفرادا بذاته الشعرية ورأسه المثقل بهموم الأدب والفكر والاقتصاد وكذلك السياسة وكيفية نقلها الى القارئ العربي في البلاد التي يشكل الكتاب أسفل دركها. لذلك فبسّام حجار كان ينسج علاقاته ذات المصلحة الأدبية ولغرض أدبي بحت، أي أنه كان يشعر بأن عليه التزاما تجاه الفرد العربي، التزاما لنشل هذا الفرد من كسله ووضعه أمام بعض أكثر الأعمال الروائية والفكرية جمالية. لكنه كان أيضا مغامرا، وكيف لا، فهو لم ينتهج لنفسه اتّباع حياة المتع واللذائذ والصولات والجولات على غرار العديد ممن يكتبون الشعر. كما لم تكن حياته ذات التعقيدات المدينية والمعيشية والمادية. حافظ في مقابل بساطته الحياتية، على عمق فكري نادر، واراد لرأسه أن يظل مضاء بالمنارات الحديثة والمعاصرة في الأدب والرواية والفكر والفلسفة والسياسة. لطالما سأل الشعراء عنه، وأنا كنت أسمع البعض منهم يسأل البعض الآخر: “هل رأيت بسام حديثا؟”، فيجيب ذاك :”لا، لم أره منذ فترة”. أن يتوارى شاعر كبسّام حجار في أوراقه، وتخييلاته الشعرية ومساحة حياته من الكيلومترات المربعة البسيطة، في مقابل القائه القبض على أعمال رائعة من رواية الى دراسة الى شعر الى الى… فهذا ليس بالأمر البسيط، وأن لا يجذبه كل ما في الحياة من ضجيج التكنولوجيا وصخب الزمن السريع، فهذا لأنه كان ذا رؤية متفردة، عرفتْ كيف تقاوم محدلة الزمن التعس والسخيف، وكيف يبني لنفسه مكانا محصنا بهاجس نبش ذاته في عبارات شعرية كنا ولا نزال نستغربها.
ثراء الترجمة
“أسأل على سبيل المثال، وما أكثر الأمثلة ذات الدلالة والمغزى: لو كان الشاعر جداً والمترجم جداً بسام حجار، بتجربته الشعرية والترجمية، الطليعية والموهوبة، الجميلة والمضيئة والمستمرة، من شعراء ذاك الزمن الستّيني، أما كان ليُعتبر من أيقونات ذلك الزمن؟” هذا ربما آخر الاسئلة التي طرحت في خصوص بسام حجار، وقد جاء على لسان الشاعر عقل العويط في “ملحق النهار” الثقافي (الأحد 15/2/2009). وهو سؤال إن دل على شيء، فعلى مدى الوهن الذي أصاب البنية المدينية والأدبية لبيروت والعالم العربي ككل، كما هو سؤال يدل على أن التعاطي الاعلامي والنقدي مع مترجم وشاعر ثري كبسام حجار لا يزال دون مستوى الحق، وذلك على الرغم من جهد بسام حجار الهائل ودوره في إثراء المكتبة العربية بروايات معاصرة وجذابة. عندما تقرأ رواية مترجمة لبسام حجار، عليك أن تكون شديد الحذر، إذ تأخذك اللغة المترجمة أو اللغة الثانية للرواية أو العمل الأدبي، الى أفق بعيد عن اسم صاحب الرواية الأصلي، غير أن روحه هي كل ما يبقى، وتكتيكه في التأليف. أما بسام حجار، فتشكل جماليات أسلوبه المنتهج في الترجمة، إحدى المفارقات التي قلما وجدنا ما ينافسها عند المترجمين العرب عموما. فاللغة العربية الممسوكة بقبضة بسام حجار لا تتشتت أمام لغة العمل الأصلي والصور والمعالجات الدرامية أو الأدبية، وبذلك فإن له أكثر من دماغ واحد، لأنه يقرأ، ويحب ويُجذب، يخزن ويحفظ، يتماسك، ويمسك بلغتين: اللغة الأصلية، اللغة الأم للعمل الأدبي، واللغة العربية كإحدى إنتاجات العمل ذلك، وهو بذلك كمن يحمل في كلتا يديه معجونة أطفال، ثم يساوي بينهما في الشكل واللون والرائحة. واذ يحفر الأسماء الأولى لصاحب العمل الأصلي، على إحدى المعجونتين، فإنه يحفر إسمه على الأخرى. إن كل كتاب ترجمه بسام حجار، أصبحت لغته الأصلية ممسوسة بشيئين: شبح اللغة العربية، وأمانة حجار في شحن العمل الى مكتبات بيوتنا. ربما من مفارقات الزمن أو غرائب اللحظة، أن تخسر شاعرا، لكن من القسوة أن تخسر مترجما كبسام حجار، هي قسوة كفيلة جعلك تعقد حاجبيك استهجانا على المرحلة الساخرة منك ومنا جميعا، وأن تظل مراهنا على الصمت، لأن الكلام يسقط في حفرة الحدث العميقة.
الغابة غابة بسّام حجار
نعتبر أن بسام حجار هو أحد المعلمين القلائل الذين تصلح عزلتهم عن المدينة والوقت والعالم لدراسة شاملة ومقارنة ما بين تفاصيل حياته وتفاصيل تطور شعره. واحدٌ ممن يمكن تسميتهم بجيل الريادة الشعرية الثالث، إضافة الى آخرين. وهو جيل كامل في رأينا لا يزال حتى هذه اللحظة خارج دائرة النقد الجاد والتقويم المستحق، وذلك لارتباط ظهوره بمناخات سياسية محلية ودولية، كالحرب اللبنانية والحرب العراقية – الإيرانية، اضافة الى آثار أزمة النفط العالمية أواسط السبعينات، وصراعات الدول العربية على فرض دور لها في هذا البلد الصغير جغرافيا، والاشكالي دوما، لبنان. بسام حجار واحد من أولئك الشعراء، الذين خرجوا في الظل، وكتبوا في الظل ليخرجوا علنا بمجموعات مثّلت منهجا جديدا ومربكا للنقاد في ما يختص بقصيدة النثر. غير أن بسام حجار وعلى الرغم من التوجه العام لبعض الشعراء في فرض شكل كتابي جديد، الا أنه بقي عازفا منفردا، لم يقلّده أحد ولم يجرؤ شاعر على الاقتراب من الغابة التي اتخذها سكنى له. وهي غابة وجدانية، الا أنه عرف تفاصيلها، لأنه واضع خريطتها من الأساس. ولأنها الغابة التي تختزل كل قلقه، وانغلاقه على الذات لتقطيع أسئلتها وإخراجها في تلك القصائد القاسية والمدهشة، غامر في انتهاج خصوصية في شأن توليده قصيدة النثر، مكسّرا بإزميله الأعراف التي زحفت الينا وأصبحت في ما بعد قوانين حديثة في الكتابة والفن. أمسك باللغة من جديد في خضم التساؤلات عن لغة نثر مغايرة تقارع الشعر التفعيلي، وحاك على قماشته الداكنة خيوطه، مؤلفاً بذلك صورا ليست بالسهلة أو المباشرة ولا هي بالرمزية الخالصة. وهو الذي قال غير مرة إنّ أنا الشاعر المعلنة، تعاكس أنا كينونته. فالشاعر كلما صعد خطوة على سلّم اللغة، هوى خطوات عن سلّم الشعر، وهو في الواقع يراوح في الرقعة ذاتها، رقعة اللعب الشعري، فلا يستطيع تجاوز ظله، ولا التفوق أو إلغاء ذاته الشعرية السابقة. والشاعر “إذا أحسّ أنّه بلغ ما يظنه النهاية، فهو سرعان ما يكتشف أنه عاد أدراجه إلى البداية ذاتها، لينكبّ على استكشافها مجدداً”. كان يصر على ان من يكتب، إنما يكتب كتابا واحدا لا غير، اما ما يستجد في الكتابة فهو الاستدراك الذي يحوّل العبارة الى كائن يتنفس وليس الى كائن مغلّف بالاسمنت. يقول بسام حجّار: “كتبي جميعها هي استدراك لما سقط سهواً في اقتفائي الأثر المستحيل لما لا يترك أثراً”. عبارة بسام حجار الشعرية هذه، تشبه ولدا عنيدا لا يريد الافصاح عما يعتريه من شكوك وتجارب ذاتية وفنية، ولداً يخيل اليك أن عمره مئات السنين، ولداً لا يثق بالشعر المفتوح كذراعين تقدمان كل ما لديهما من حب ومن ثم تنخسفان بعد ذلك، وتخفتان وتموتان. بل يدعوك كل مرة الى تقاسمه نبش المعنى والتوغل في غابة استدراكه وأنت عارف مسبقا أن عليك الخروج من تلك الغابة لتدخلها من جديد لآلاف المرات. تطعنك عباراته، وتفج صوره في وجهك بالحزن والوحدة والعمق الذي لطالما حمله كقاسم مشترك في جميع كتاباته.
بعض أعماله
كنا نقرأ كناراته المستوحدة، فتطعننا مناقيرها كسكاكين، تجرحنا بقسوة حتى نرمي القصيدة من يدينا لنقول يا بسام حجار: لقد تألمنا، آلمتنا تلك الكلمات التي ظنناها ضعيفة لأنها متوارية، غير أننا سرعان ما خلت بنا الأشياء وفرغ العالم لنبقى وحدنا وإياها. لماذا كنت تفرغ ما في صدورنا من مكتسبات حياتية وشعرية وثقافية كل مرة كنا نقرأك فيها. لماذا كل هذا التعب؟ أمن أجل الوطن الذي لم تفصح عنه الا من خلال حبك أو التزامك مطاردة الأدب في كل أنحاء العالم، لتقدمه إلينا مترجما بعناية وكأنك حرصت على لف الهدية الجميلة بورق ملوّن يضاهيها جمالا؟ إذاً انت هو، ذلك البسام حجار. المترجم الذي كانت لغته البديعة تقاوم لغة النص الأصلي، تزاحمها على الورق الأبيض، وفي الذاكرة، لهذا فأنت دائما ذلك الشريك. شريك الأدباء والروائيين والمفكرين والفلاسفة والباحثين في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، الذين قمت بنقل اعمالهم الى العربية: “إني ذاهب” و”شقراوات” لجان اشينوز، “غرفة مثالية لرجل مريض” و”حوض السباحة” ليوكو أوغاوا، “لماذا يقاتلون بموتهم؟” (أمبرتو إيكو، جان بودريار، إد فوليامي وجاك دريدا)، “باودولينو” لأمبرتو إيكو (وقد ترجمها بسام بالاشتراك مع نجلا حمود)، “تلك العتمة الباهرة” للطاهر بن جلون، “كان صرحا من خيال” لسليم تركية، “آمس” لآغوتا كريستوف، “المعجزة في الاقتصاد” لآلان بيرفيت، “السيد بالومار” لايتالو كالفينو، “يا لها من فتاة شقراء! تبا! انها ماريلين” لنورمان ميلر، “الكذبة الثالثة” لأغوتا غريستوف، “دروب الهجرة، من بلاد الشركس والشيشان الى الشرق الأوسط” لإسكندر نجار، “كي لا نستسلم” لجان زيغلر وريجيس دوبريه، “إنشاد المنادي” لمارثن هايدغر، “سرب طيور بيضاء” و”راقصة ايزو” لياسوناري كاواباتا… وغيرها من الاعمال التي اذا اردنا أن نأتي على ذكرها، فقد لا تتسع السطور ههنا. هذا كله من دون ان نذكر كامل أعمالك التي منها “مشاغل رجل هادئ جدا” (وهي أول مجموعاتك الشعرية وقد صدرت عام 1982)، “حكاية الرجل الذي أحب الكناري”، “فقط لو يدكِ”، “مهن القسوة”، “مجرد تعب”، “لأروي كمن يخاف أن يرى”، “سوف تحيا من بعدي”، “كتاب الرمل”، “مديح الخيانة”، “ألبوم العائلة” و”تفسير الرخام”.
قلق في الحياة – أمان في الموت
كلما مات شاعر، ذهلت. أو كلما جاءتني مكالمة عن موت شاعر، أصبت بالأسى، وتوقف لساني عن العمل، مع أني لا أعرف اولئك الشعراء. هل يصبح الفقد اشد وطأة حين يكون فقدا لأحد أولئك الذين لطالما تلاعبوا بالعبارة من أجل تفكيك مفردات الوحدة، الفقدان، الأمل، الوحشة، الحب، الصمت، والموت؟ ألأن تلك المفردات تنجح عند موت كل شاعر، في الانفلات مرة أخرى والتعري أمامنا ببهاء قد لا ننجذب اليه؟ ألأنها تعلن لنا أن السيد، سيد الكينونات هو الموت، الموت فقط، وأن الوحدة والعزلة والمناخات المشابهة للانسان، كلها حبوب مهدئة في انتظار الانطفاء الأخير؟ وهل كان بسام حجار متصالحا مع فكرة الموت ولذلك ظل طوال تلك السنوات، معززا وجوده ككائن بملامح خاصة في القصيدة، كائن معزول وغير مبال بإغراءات الحياة والمديح، طالما أنه يعرف مسبقا ماذا يعني الاختفاء؟ سيظل الشعراء دائما مهجوسين بالموت، وبالكتابة عنه، لأن الموت رحيل بمسار واحد، والذي يرحل، يتجمد قلمه وتتوقف فكرته في مكان في انتظار أن يلتقطها شاعر آخر ويكمل المشوار الماراتوني الذي يسابق الموت الذي لا نفهمه على رغم تماريننا لاستقباله. عندما تخسر شاعرا كبسام حجار، فإن عليك أن تصلي كثيرا، لأن الشعراء هم دعامات الحياة التي لا يتنبه كثيرون اليها. الشعراء وحدهم من يلتقط اشارات العالم ويفسرها في الكلام الشعري أو يسعى الى ذلك. والشعراء الاستثنائيون كبسام حجار، فإنهم يصنعون إضافة الى كل قلقهم المفرط في شأن أمور الحياة، أماناً في الموت. لقد كنا كثيرا ما نتمنى لو أن بسام حجار كان أكثر كرماً معنا، بأن نتعرف الى شخصه، ذلك لأننا طامعون، فنحن لم نكتف أيها الشاعر الراحل، بكل ما أوردت الينا من جهود ادبية، كنا نريد فقط ان نصافحك قبل ان تموت.
فلاشات النثر
يقول الناقد صبحي حديدي إن اعمال بسام حجار الشعرية يمكن أن تسدي خدمة لكل دراسة نقدية من شأنها إبراز الجماليات في قصيدة النثر. وعليه فإن أعماله وقصائده، تمثل فرادة من حيث الأسلوب والتوليف بين الفكرة المتسعة المساحة، والقابلة لاستيعاب أكثر التأويلات الشعرية احتمالا. من هنا نستشف أن مهما يكن من تأويلات وتفسيرات ومحاولات لتشريح نص بسام حجار الشعري، فإن جميع دارسي أدب هذا الرجل، سيقفون أمام مملكته الشعرية، فاغرين أفواههم أمام تلك الغزارات في الجمالية، والتي مصدرها عناصر، كإنطواء الجملة على عمق دلالي بالغ العمق والحدة والتأثير، وذلك لانطلاقه الى القارئ في أقصى لحظات تألم الشاعر أو تغريبه جزءه الانساني عن العالم الذي لم يكن ليؤمن بالغوص في طياته كثيرا، ما ضمن له ارتقاء هادئا غير مقصود، ولا هو متعمد، انما هو ذلك المتآلف مع شعريته، وغربته التي كان دائما يحاول ايقاظها في شعره، والتي كان أيضا يحاول القبض عليها وبعثرتها من خلال تحديده معالم المكان الذي يتحرك الشعر عنده، وهو المكان العائلي، السكني، المكان الذي هو ليس بخرافي ولا هو مكان سوريالي بل عادي جدا ويتقاسم الكثير من الناس الذين لا يكتبون الشعر، تلك المعالم معه. أراد الشاعر أن يضيء وحشته، ألمه، حزنه ووحدته بتقاسيم دلالية لم تكن متوارثة أو مكتسبة بتأثير ما، لذلك كانت تجيء قصيدة بسام حجار إلينا كعروس بيضاء بياضَ فستانها، فنمد أصابعنا لننزع عنها الثوب ونلمس جلدها الطري، والذي كان طريا لأنه جِلد القصيدة التي كتبها بأصابع قاسية وبأنفاس مرهفة تتلاطم مع الكلمات على الورقة: “لفرط ما أحذف النهارات لم يبق إلا كائن الأرق، شبيهي الذي يحسب أن الوقت يمضي إذا مشيته مرارا من الباب إلى النافذة، من الشرفة إلى النافذة، من النافذة إلى النافذة، ولا أدرك جدواه”.
هو واحد من أولئك الذين لم ينشدوا مديحا نقديا يوما، ولا سعوا وراء الصفحات الثقافية اللبنانية والعربية لتُكتَب المقالات عنهم. ظل ينسج بيته الأدبي كدبّور صامت، يتحرك برشاقة وقسوة، ويلسع اذا أربكت عمله، لأن عمله ينهكه، وكل مسألة أدبية يُتوخى فيها المستوى الأعلى من الجمال، هي حقا مرهقة. عندما تأتي القصيدة، يقدم اليها حجار حيزه العادي، الغرفة، الشباك، الممر، العائلة، التفاصيل التي قد لا ينتبه اليها لاحقا. لذلك قد تجد في شعره ما يقارب العادي أو اليومي في شعر الآخرين، ونحن هنا نتحدث عن الإطار العام أو الفلك الذي تدور فيه القصائد، وإذا شئت، فسمّها الملامح العامة. الا أن سر شعره يتمثل في المعالجة التي تتم من خلالها عمليته الشعرية، فبسام حجار يستقبل الفكرة الشعرية الأولى بروح المتعطش الى الكتابة، غير أن ذلك لا يفقده ضرورة أن يتماسك أمام أمرين: أولا الصور الأولية أو الفلاشات السريعة التي ستستقبل التأليف الحسي للجملة، ومن ثم ذلك الكم المهول من ملامح الذات المستوحدة والمستوحشة والتي لم تتجاهل الموت في الكثير من قصائده. خاطب الموت في حيز مهم من نصوصه، وربما كان يريد أن يعتاد عليه بشكل جاد وأن يؤلف صداقة بين ذلك الموت والشعر. وفي مجموعته الشعرية الأخيرة “تفسير الرخام”، هناك جرعات شعرية ثقيلة المعنى وقوية الحضور، تنفلش في وجوهنا. قد نتساءل عن سر هذا الاهتمام بالموت والقبور والجنازات والتوابيت في كلمات مجموعته “تفسير الرخام”. وعلى أي حال، فالموت والغربة والخسارة او ذلك الشعور القاسي بفقدان الحب أو الأمل أو الصديق، قد تبدى ضمن توليفة واحدة في الكثير من مجموعاته السابقة كـ”حكاية الرجل الذي أحب الكناري” والذي تثقلك قصائده بالهجرة داخل الروح والانفراد بالذات المتألمة والعاصية للانغماس في الزيف الحياتي، هذا كلّه في مناخ يخيّل اليك لوهلة أولى أنه تشاؤمي أو أسود، قبل أن تعرف أن المعنى الذي ألقى برذاذه في عيوننا، هو تجميع حاد لمفردات والصاقها بعضها بالبعض في ما يشبه الكولاج على يد فنان يعمل على بطارية أحاسيسه التي لا تنضب. لكن ما الذي يجعل شاعرا يقترب من الموت في الكتابة قبل أن يقترب الموت منه في الحياة؟ أهو استباق لفعل الموت، وتالياً تصريف هذا الفعل خارج القناة التي تفضي الى بسام حجار؟ أم هي مباغتة الكائن للكائن ضمن لعبة الغدر وأن من يباغت أولا يفوز؟ بل هل هو انتصار الشعر في الجولة الأولى على الموت، ما يضمن للشاعر على الأقل تعادلا اذا لم يكن ربحا أو هزيمة.
نحن نُودِّع ذلك الشاعر، رافعين أكفّنا السائلة في الهواء، السائلة كقطعة هلام غير ناضجة كفاية، نلوّح لبسام حجار في مساره الأخير، في دبدبته الأخيرة على الإسفلت أو على أذرع الأصدقاء، ونلوّح أيضا للموت الذي نعرف أنه سيجيئنا ذات يوم، نحييه منذ الآن فلربما لم نستطع مقارعته على الورقة كما فعل بسام حجار، ولذا ربما نسجل بذلك انتصارنا الطفولي عليه بشهادة شاعر تفرد منذ لحظاته الشعرية الأولى. نحن نؤمن بالموت، لكننا نؤمن بالشعر كقشة نُدخِلُ العالم فيها، وننفخه ليتطاير بعيدا كسرب من الفراشات، والتي بعض منها تقف على نافذة بسام حجار وتنتظر أن يصل، ويكتب ويشرب الماء ويغادر كما غادر الآن وبقيت أوراقه على الطاولة، وفيها شعر سنقرأه بعد قليل.