النص المختلف في نجاحه وإخفاقه … محمد برادة يقرأ الرواية «ذاكرة مفتوحة»
دمشق – سمر يزبك
يجمع الكاتب المغربي محمد برادة بين النقد والإبداع في ممارسته للكتابة. وقد جاء كتابه الجديد «الرواية ذاكرة مفتوحة» الذي صدر في القاهرة عن دار «آفاق» معبراً عن هذا الاهتمام المزدوج، في مساءلة الرواية العربية من خلال تناول نصوصها والحوار مع القراءات النقدية المهمة من جهة أخرى، ليصل إلى استنتاجه بأن الرواية ذاكرة مفتوحة تستوعب تاريخ الرواية العالمية من جهة وتتسع لتاريخ الثقافة العربية وملامح الواقع.
يقسم برادة كتابه إلى سبعة فصول، خمسة منها تحمل أسئلة الكتاب الأساسية: نقد الرواية وإنتاج المعرفة، الرواية العربية الكونية أفقاً، دون كيخوتي وتأسيس حداثة الرواية، الرواية والمستقبل: ندرة رواية الخيال العلمي العربية، اللغة الروائية العربية وسيرورة التغيير، ثم يختتم بفصلين عن علاقة الموضوع من بعيد، أحدهما: مدام بوفاري تبلغ عام المئة والخمسين، والثاني مقال في شكل تساؤل: من قرأ نجيب محفوظ؟
يتساءل برادة عن ماهية التخييل، الذي يكاد يقترن في الثقافات الأجنبية بجنس الرواية، مع أنه عنصر أساس في كل الأجناس التعبيرية، حتى لو كانت تنطلق من تعاقد مع القارئ يزعم التقيد بالواقع. التخييل موجود دائماً لكن الصعوبة تكمن في تحديده؛ فلا يمكن إرجاعه إلى المخيلة وحدها، ولا إلى الحبكة أو الشخصيات، أو اللغة، لكن من كل هذا معاً تتسرب موهبة الروائي في نسج خيوط التخييل، وبهذا المعنى فالرواية هي مجموع معارف تاريخية وطازجة، لغة وعلماً وأساطير، وهذا ما يجعل من التخييل ذاكرة مفتوحة تستوعب كل هذا، وبهذا المعنى، لا غنى للتخييل عن الذاكرة التي تحدد علاقة الرواية بالتاريخ، وعلاقتها بالمستقبل أيضاً، من حيث هو زمن، وساحة للتوقعات، بخاصة في مجال رواية الخيال العلمي.
إذاً سؤال الزمن هو سؤال أساسي في كل التجارب الروائية على تنوعها، وعمل الذاكرة جزء أساسي من عمل الروائي بما فيه ما يسميه باختين «إعادة التنبير» أي محاورة المبدع لنصوص وأعمال مميزة بقصد إبراز دلالات مهمة في سياق زمني مختلف.
إنتاج المعرفة
إذا كانت الرواية مستودع ذاكرة، فما هي فرصتها لإنتاج معرفة؟
يرح برادة السؤال من خلال علاقة الرواية بنقدها، وإن كان في وسعهما معاً إنتاج معرفة ليست دائماً مسلماً بها بسبب انضواء الرواية تحت مسالك التخييل المشكوك في قدرته على إنتاج المعرفة، منذ أفلاطون إلى برتراند راسل.
وإلى الآن لا تبدو قدرة الرواية والنقد المتصل بها على إنتاج معرفة قد حسما، لأن التطورات العلمية، والمعرفة «الملموسة» التي يمكن قياسها تضع الأدب أكثر وأكثر في منطقة الشك بقدراته.
لكن إعادة طرح العلاقات بين المبدع والناقد من شأنها أن ترفع من الإمكانات المعرفية للنص الروائي. وأولى هذه العلاقات هي الاستكشاف والتحليل، إذ يفطن النقد إلى تجاوز الإبداع فكرة استنساخ الواقع فيضع في حسبانه العملية التخييلية التي تنشّط بدورها ذاكرة القارئ، وتدفعه إلى التذكر والتأمل. كما أن استكشاف ثيمات الكاتب واستراتيجياته مهمة لتحويل النص إلى إشارات ورموز وأخيلة تضيف إلى خبرة القارئ التلقائية.
وتأتي بعد ذلك المقارنة وموضعة النص ضمن تاريخ الرواية العالمية وضمن التراكم الروائي العربي، وعلاقة الأشكال بالرؤى ووجهات النظر التي تنطوي عليها الروايات، مع انفتاح في التأويل لا يجعل النص الجديد سجيناً أو تابعاً لنص قديم أو مدرسة في الكتابة. وينظر برادة إلى علاقة النقد بالمعرفة من زاويتين؛ فعلاقة الفلسفة بالنقد الأدبي قديمة منذ دشنها أرسطو، الذي استند إلى مفاهيم من فلسفته العامة ليحلل من خلالها خصائص التركيب والتحقق في مجال الشعر. وكذلك يمكن النظر إليها من زاوية المعرفة المتولدة من النقد الذي جعل النصوص حقلاً لاستنبات الأسئلة المعرفية التي تلامس الذات وتكشف علاقتها بالمجتمع، وتبرز تعدد الأصوات واللغات المتحاورة.
وبهذا لا يقتصر دور النقد على التنظير بحد ذاته، بقدر ما هو وسيلة لتعميق ما تقدمه الرواية من عناصر معرفية تتقاطع مع المعارف المغايرة الموجودة في خطابات ومجالات أخرى.
آفاق الكونية
من الصيغ الجاهزة المستقرة، سؤال الرواية العربية بين المحلية والعالمية، وكثيراً ما كان السؤال يستدعي أجوبة جاهزة تؤكد أن كل عالمية لا بد من أن تمر بالمحلية. وقد كانت الرؤية تتطلب صون المحلية باعتبارها رديفاً للهوية وضمانة لها، بخاصة في فترة ما بعد الاستقلال.
وما جرى من مياه في أنهار النقد وسوسيولوجيا الأدب يتطلب الخروج من هذه الصيغ الجاهزة، لتحيين السؤال وربطه بالمنظور النقدي وانشغالات المستقبل. وإذا كان هناك كاتب مثل نجيب محفوظ اختار أن يتشبث بالأبعاد المحلية، فإن كتاباً آخرين رأوا البدء من مستوى طليعي مثل الطيب صالح، صنع الله إبراهيم، وكاتب ياسين. هكذا يرى برادة قبل أن يشرع في تفكيك ثنائية المحلية والعالمية، منتصراً لرؤية الشاعر الألماني غوته (1749 – 1832) الذي أراد حوار الآداب وليس تطابقها، في إطار من الاحترام، أي الرهان على حداثة تستند الى جدلية بين الإثنية والنزعة الإنسانية.
وبرأيه فإنه لايمكن الادعاء بوجود نقاء في جنس الرواية، إذ تحاورت الرواية العربية مع المبدعات الكبرى السابقة، وفي الوقت نفسه كانت هناك خصوصيات وليست خصوصية واحدة انطلاقاً من أثر الواقع واختلافاته في كل بلد عربي.
ويتفق برادة مع مقولة فيصل دراج في إحدى دراساته:»إن تاريخ الرواية العربية هو تاريخ تحققها الذاتي وإخفاقها الاجتماعي» معترفاً بالكوة التي فتحتها لنفسها كخطاب مغاير ومتعدد، وسط خطابات متخشبة، وقد أنجزت في مئة سنة عبر نماذجها الجيد الكثير، لكننا لايمكن أن نكتفي بلوم الواقع لأنه يقف ضد تطور الرواية أو ضد تحول الخطاب الأدبي إلى خطاب مجتمعي، وإنما يمكن إلقاء بعض اللوم على الروائيين الذين لم يطوروا لغاتهم، أو يحاولوا امتلاك وعي نظري أكبر، ومنه إدراك علاقة الشكل بالمضمون، وما إلى ذلك من جهود من شأنها أن ترفع قيمة إنتاجهم.
الرواية العربية تتعرض كغيرها الآن لجموح فكرة الربحية، وهاجس منافسة الروايات الناجحة بمعايير السوق، وهو جزء من جنون العولمة. وكما لو كان يبحث عن الدرس يخصص محمد برادة فصلاً لدراسة «دون كيخوتي» التي يجمع النقد على التأريخ بها لرواية الأزمنة الحديثة، والتي لم يكتبها سرفانتس بغية إنجاز نموذج حداثي للرواية بقدر ما كتبها لضجره من الاتجاه السائد، هذا الضجر هو الذي جعل من «دون كيخوتي» هذا العمل الكبير الذي يظل مثالاً على عدم وجود وصفة جاهزة للرواية الحداثية، فالحداثة رهان مفتوح دائماً.
وفي تأمله آفاق المستقبل، يتساءل برادة عن موقع روايات الخيال العلمي في الكتابة العربية، ويؤكد أن النظرة السريعة تنتهي إلى ندرة أو عدم وجود هذا النوع من الكتابة، لكن ببليوغرافيا متوافرة تشير إلى أن خمسة وثلاثين كاتباً عربياً على الأقل اهتموا بكتابة هذا اللون في روايات ومجموعات قصصية، وبينهم على سبيل المثال توفيق الحكيم الذي كتب عام 1953 قصة بعنوان: «في سنة مليون» ثم أعقبها بمسرحية «رحلة إلى الغد».، بل يمكن رصد ملامح خيال علمي في مسرحية «أهل الكهف». إذاً ليس الأمر غياباً، بل ندرة هذا النوع من الكتابة، وهو ما يرجعه أساساً إلى سوء مناهج التعليم وتعطل محاولات النهضة، إضافة إلى سبب من داخل الحقل الروائي والنقدي يتعلق بأولويات الرواية كوسيلة للتأريخ ومعرفة الذات ومقاومة القمع. ويبدو أن خيارات الرواية ومشاغلها لم تحدد فقط حضور أدب الخيال العلمي عربياً، لكن هذه المشاغل أملت أيضاً الخيارات اللغوية بين عامية وفصحى، ومستويات كل من اللغتين.
دخل في التأثير على اللغة سيرورة التغيير في المجتمع، ورؤية الكاتب له، وموقفه الداعم أو الرافض لقدسية اللغة، ومنظوره لهز البناءات القائمة، إضافة إلى وجود تعامل آخر مع اللغة يعتبرها غاية بحد ذاتها. كما أثرت على لغة الرواية صعود أنساق أيديولوجية معينة وتدهورها.
وبعد هذا الاستعراض يختتم برادة كتابه بمقالين يبدوان زائدين على الكتاب، الأول احتفاء برواية فلوبير كتبه عام 2006 بمناسبة مرور مئة وخمسين سنة على صدورها، والثاني يتساءل فيه إن كنا انتبهنا ـ خاصة نقدياً ـ إلى نص نجيب محفوظ الذي استمد شهرته من عوامل كثيرة إلى جانب الكتابة مثل وجوده بين شباب الكتاب في ندوة أسبوعية، ومقالاته في الأهرام وحضوره في السينما كاتباً للسيناريو أو من خلال رواياته التي تحولت إلى أفلام.
الحياة