صفحات ثقافية

داء المكان أو الخيانة

null

علي جازو

خشيَتْ على نفسها كثرة الاختلاط، وداءَ الأماكن العامة. هي المفتونة برغبات نبيلة، لم تجد بعدُ طرقاً لتحقيقها. كانت تحسب التعلق بأصدقاء كثر يزيدها ألماً وضعفاً، ويغدو كلّ حديث، بعد انفراطه، قلقاً صامتاً! تذكرتْ في تداعٍ حرٍّ، كانسدال ثمرة توت على أختها،
وجهَ جدتها الميتة. تذكُّرُ الميت بالنسبة الى فتاة شابة، بمثابة لوم بلا طائل؛ إذ يغدو الحزن علامة ضجر، والضجر قوة تفرغ الحياة من قوتها النقية. تركت الجدة أنفاسها الأخيرة إثر استغاثة طويلة مؤلمة لم يلبّها أحدٌ سوى الصمت. أوهن السكّري عينيها وقلبها، حتى رأت روحُها الرقيقة أن في الصمت حلاّ ناجعاً، خلص جسدها من عجزها، وأنقذت النهاية ألمَها من صراخها. كم في حنان مشرق ملأت الجدة وجوهَ حفيدتها وأصابعهن وشعورهن بقبلات صغيرة؛ ندياً كان لثمها، حدّ أن المرء يحسب أن عشباً خفياً مبلولاً كان يسكن فمها المتهدّل كوشم الخط الأزرق الرفيع على شفتها السفلى. في هدوء كالذهب نمت الطفلة، خافتاً كان حضورها البسام، وصوتها يكاد لا يسمع أحياناً كما لو سرب هواء قليل يعبر ذرى أشجار عالية. دعتني الجميلة كحنان جدتها إلى مقهى صيفي افتتح حديثاً داخل مساكن دمشق القديمة. جلسنا في إحدى الزوايا، ثم أخذت تقول:

أتعلم يا أخي (سرّني وشلّني وسمُها لي بهذه الدرجة من القرابة والعطف) أتعلم أني أحزن لأسباب تظنّها تافهة، ربما؟

لِمَ تعتقدين أني أظنّها كذلك؟

لا بأس، حسناً حسناً. مخدتي القديمة لم تعد تصلح للنوم الآن، أحزنني ذهابها، ورمي غطائها المطرّز بوردة زرقاء ذات بتلات فارغة! وكذا فعلت هجرة، هربت إحدى صديقاتي الى مكان يدعى أسوج. صمتت كأنما تستعيد معنى ما أفضت به، وحاولت بنظرة وجيزة إدراك أثر ذلك عليَّ. بدا صمتها أرقّ من كلامها. ثم أردفت:

ثمة كثيرون يرغبون بالهجرة، بل يحسبونها خلاصاً أكيداً من جحيم حياة لا يدركون أن تغيير البلاد وحدها ليس سبباً كافياً لتغييرها. قاطعتها:

أعتقد أنك على صواب جزئيّ، لكن ألست معي أنّ السفر جميلٌ كالبقاء حيث ولد المرء وترعرع، عدا أنّ التعرف الى بلاد أخرى وأناس آخرين فيهما الكثير من التجدد والمتعة المصحوبة بفوائد إنسانية جمة؟

بدأ الكابوتشينو، بعد هدوء بخاره الدافئ، يزيح رغوته الشهية حول فم كوبٍ أبيض من زجاج سميك، فيما امتداد أنغام هندية مثقوبة بصدى عريق تفوح من حولنا بلا آذان مصغية، وكان ظلٌّ أسود ثابت يتنقّل بطيئاً كأنه لا يتحرك قرب فنجان قهوتي السوداء. أضافت:

لكنهم لا يتركونها بغية معرفة غيرها. إنهم يرون أيّ بلد آخر أفضل من موطنهم، آه من ثراء الشمس المدوّخة حيث عاش أسلافهم، وفي هذا خطأ كبير. لا توجد بحسب فكرتي عن الأرض، بلاد تعلو بلاداً غيرها؛ فالبشر وحدهم يجعلونها أجمل، أو يقتلون ترابها. تبادل الصمت الطارئ نظرتنا الخفيضة المنكمشة كأوراق زهرتي فلّ يابستين، وفي تلك البرهة الغامضة حيث قسمت العزلة، بصلابتها المعهودة، روحينا تألقاً يائساً وسكينة غضة، شربت الفتاة الرقيقة معظم كأسها، وظللتُ ألمس، أنا النائي عن وجهي وجمالها، في رفقٍ زائف زخارف فنجاني الفارغ. تنهدّت وقالت:

أتعلم كيف يخون أحد ما بلده؟ (ألا ما أدهش هذا السؤال!)

هذا أمر من الصعب التكهن بحقيقته!

إنه لمن أبسط الأمور، إن لم يكن من التفاهة بمكان، فهو من دون شك سخيف. حسناً، حسناً. اسمعْ ما سأقوله عن هذا التآلف الذي تراه صعباً. لقد أُجبرنا على تعلّم الكراهية. أليست الكراهية بذرة الخيانة؟ صمتت قليلاً ثم أكملت من دون توقف: علمنا في مدارسنا أن نكره بلا سبب من لا نعرفهم. ألم يكن من الأفضل لو عرفناهم في البداية. ماذا لو رأيناهم من خلال عقولنا فحسب، من دون وصاية وتلقين أشاع الغباء مثلما تشاع الحكم الدارجة. لِمَ لمْ يُترك شأن الكراهية من عدمها إلى عواطفنا التي يفترض تربيتها على الحرية والإنصاف.

أخذ لمعان مفاجئ يغطي بللاً رائقاً يحفّ عينيها. لنتخيل أننا مثلاً درّبنا على قواعد الإصغاء السليم، لو كانت الموسيقى طريقة في العيش؛ بها عبرنا طفولتنا إلى الشباب والشيخوخة. أكنا وصلنا إلى هذه الحال من البؤس والإذلال اليومي؟ ألا تعتقد يا أخي أن عملاً كهذا كان سينقذنا من الكراهية التي عادلَتْ في غباءٍ حميم بين فكرة الإخلاص إلى الأرض وفكرة الحرب؟!

ما دخل الخيانة بمناهج التعليم؟

العقول النبيلة الحذرة التي أسرفت في منح الجمال إلى العالم، جرى طمسها وتغييبها، فيما البشاعة، بل إظهار بشاعة العقل وحدها، في ذلّ وإذعان مقيتين، هو الذي ألّف ورعى كلّ شيء. لم نكن أطفالاً قطّ. الشعارات العسكرية والأعداء الخرافيون سكنوا خيالنا الطريّ، وحينما حزنّا قدراً ما من صنع خيالنا بحسب مزاجنا لم نجد مكاناً نضع فيه حنيننا إلى ما كنّاه، لم نجد الأرض، فقط صحراء ومعارك وقادة لم يخطئوا، تسيّدوا حياتنا بعدما قيّدها الخوف إلى حجر كل ساعة بدءاً من نظرة الأم وانتهاء بغيوم لم نحبس قلوبنا في نسيجها الرقيق. وها نحن كمن تلقّى طوال حياته عظة واحدة، لا نجيد غير لغة واحدة. أتحسب أن اللسان وُجد ليسكن غرفاً ضيقة كتلك الأحذية السوداء البشعة؟

(سوريا)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى