قضية فلسطين

«ميثاق حماس» يزداد عبئاً عليها… وعلى الفلسطينيين

null
خالد الحروب
في النص القرآني وكما هو معروف هناك آيات ناسخة وآيات منسوخة، بمعنى أن النص المقدس نفسه تعرض للتغيير وفق معطيات جديدة. الخليفة عمر بن الخطاب، وكما هو معروف أيضاً، عطل تطبيق بعض الحدود مجتهداً ومقدراً عدم مناسبة الظروف لممارسة تلك الحدود. هناك في قلب التقليد الديني، ومن دون استطراد في إيراد الأمثلة، آليات للاجتهاد وشواهد لا تحصى تشير إلى معنى أساسي يتخطى إفساح المجال لإمكانية التغيير، بل ويفترض حتميته. إذا كان النص القرآني ذاته قد أقر التغيير على الآيات، فمن باب أولى أن تشتغل سنة التغيير تلك على أي نص بشري يُكتب في سياق معين وظرف وزمان خاصين ومن قبل أناس محددين. وإذا كان ما هو معلوم بالدين بالضرورة قد تم الاجتهاد فيه وتعطيل تطبيقه، كما فعل الخليفة عمر، فمن باب أولى أن يشتغل الاجتهاد بحرية أوسع في ما يقع خارج إطار ما هو ديني بالتعريف.
يُساق هذا التقديم في إطار الحديث عن ميثاق حماس وضرورة تغييره لأن ما يجلبه على الفلسطينيين من مضار، ناهيك عن حماس، صار مما لا يمكن قبوله أو الاستمرار في السكوت عنه. «ميثاق حماس» ليس نصاً مقدساً، ولا الحديث عن تغييره موجبٌ لإثارة الحساسية الكبيرة التي تُلحظ عند بعض قادة أو أفراد أو أنصار حماس. عندما كانت حماس تنظيماً صغيراً كان يُسمح لها ويُتاح ما لا يُسمح ولا يُتاح في الوقت الحاضر. ليس مقبولاً فلسطينياً، قبل أن يكون دولياً أو عالمياً، أن تصعد حركة سياسية فلسطينية إلى قلب الشرعية الفلسطينية وتنافس عليها وهي ما تزال تنوء بحمل نص مرهق لا يمكن الدفاع عنه مثل «ميثاق حماس». لماذا يجب أن يتغير الميثاق، وكيف، وماذا سيعود ذلك على حماس والفلسطينيين؟
يجب أن يتغير ميثاق حماس لأنه لا يعبر عن جوهر النضال الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني، ويعمد إلى استخدام خطاب تخلت عنه حماس منذ أمد بعيد. الميثاق يركز على اليهود بكونهم أتباع ديانة ويعلن عداوته لهم بكونهم كذلك وليس بكونهم معتدين. وينزلق إلى تبني كل مقولات معاداة السامية الأوروبية واستيرادها، والترويج إلى «المؤامرة اليهودية العالمية» حيث اليهود عملوا، كما يقول الميثاق، على «جمع ثروات مادية هائلة ومؤثرة، سخروها لتحقيق حلمهم، فبالأموال سيطروا على وسائل الإعلام العالمية… وبالأموال فجروا الثورات في مختلف بقاع العالم، لتحقيق مصالحهم وجني الثمار، فهم من وراء الثورة الفرنسية والثورة الشيوعية ومعظم ما سمعنا عن ثورات هنا وهناك…». من المعيب حقاً أن يبقى مثل هذا النص في ميثاق أي تنظيم فلسطيني يدعو إلى إنهاء الاحتلال الصهيوني. هل تقف حماس مع الإقطاع الأوروبي المتحالف مع الكنيسة الطاغية ضد الثورة الفرنسية؟ وهل تقف ضد مبادئ المواطنة والإخاء والمساواة التي جاءت بها الثورة الفرنسية وتنسب كل هذه المبادئ إلى «مؤامرة يهودية» وتفضل عليها سيطرة ملوك الإقطاع وتحكمهم في البشر آنذاك كـ «أشياء» وتقف ضد تحولهم إلى «مواطنين» متساوين؟ وهل تقف حماس كما يوحي النص مع بشاعة استغلال الرأسمال الأوروبي للطبقة العاملة وطحن الشرائح الفقيرة من قبل أرباب العمل وملاك المصانع؟
خطاب حماس بعيداً عن الميثاق لا يمت للميثاق بصلة. كل قادة حماس في الداخل ابتداء من الشيخ احمد ياسين، إلى عبدالعزيز الرنتيسي، إلى محمود الزهار، إلى إسماعيل هنية، وقادتها في الخارج من خالد مشعل إلى موسى أبو مرزوق، وكثير آخرين، يكررون أن معركتهم هي ضد الصهيونية وليس ضد اليهودية كدين. ويشيرون بفخر إلى التعايش اليهودي – المسيحي – الإسلامي في فلسطين والعالم العربي على مدار قرون طويلة. وليس هناك في خطابهم استشهادات بـ «بروتوكولات حكماء صهيون»، وهو كتاب مفبرك وسخيف أنتجته اللاسامية الأوروبية لتبرير جرائمها ضد يهودها، ثم لفظته الآن وصدرته إلى العالم العربي، وتورط ميثاق حماس في الإشارة إليه والاستشهاد به.
لا تستطيع حماس أن تتحدث مع أوروبا والعالم أجمع ومقولات الميثاق تحاصرها. فهناك ماكينة إعلامية هائلة للوبيات صهيونية وإسرائيلية قامت بترجمة مقولات الميثاق ربما إلى كل لغات العالم، وسمعت أخيراً أنه ترجم إلى اللغة الصينية، وذلك كله بهدف إثبات «لاسامية» حماس والفلسطينيين وأهدافهم في إبادة اليهود! في عشرات اللقاءات التي تحدث فيها كاتب هذه السطور عن حماس خلال السنوات الثلاث الماضية في أوروبا والولايات المتحدة، ومن اللقاءات الشعبية إلى الرسمية في وزارات الخارجية أو البرلمانات أو هيئات الاتحاد الأوروبي، ترفع مقولات ميثاق حماس ليس لتشوه صورة هذه الحركة الفلسطينية فحسب، بل ولتحرف كل النقاش حول أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية المشروعة وحقوق الفلسطينيين.
قادة حماس الذين يتواصلون مع العالم الخارجي يدركون الثمن الباهظ الذي تدفعه حركتهم لقاء التمسك بوثيقة لم تعد لها قيمة في أدبيات حماس مقارنة بما أنتجته من وثائق تالية، أكثر عمقاً وتسيساً وأهمية. ويدرك هؤلاء القادة أن الميثاق صدر عندما صدر في آب (اغسطس) 1988، بشكل متسرع ومن دون نقاش حقيقي لمضامينه، ولم يعبر عن وعي حماس حتى في ذلك الوقت ناهيك أن يعكس حقيقتها الآن. وإذا كان هذا التقدير متفائلاً وغير دقيق، أي بمعنى أن الميثاق يعبر فعلاً وحقيقة عن جوهر حماس، فإن على قادة حماس أن يعلنوا ذلك بالفم الملآن حتى يتم تأييد أو معارضة حماس بناء على وضوح موقفها من الميثاق، وحتى يتم التفاوض أو مقاطعة حماس بناء أيضاً على ذلك الوضوح. بيد أن سياسة حماس إزاء الميثاق، حتى الآن، يبدو أنها خليط من الإهمال المتعمد ودفن الرؤوس في الرمال، والأمل بأن يتم «نسيان» الميثاق مع مرور الزمن. ما يحدث على أرض الواقع هو عكس ذلك تماماً: مع تصاعد قوة وحضور حماس هناك تركيز مُضاعف ومتصاعد على ميثاقها والاستشهاد به للتدليل على عدم صلاحية هذه الحركة للسياسة أو للانفتاح عليها.
من المفهوم طبعاً أن يتضمن الجدل الرافض لتعديل الميثاق حجة مثل الخشية من الاتهام المتوقع بأن حماس تغير من أيديولوجيتها وتتنازل وهي تتبع مسار منظمة التحرير الفلسطينية. وهذه حجة لا قيمة لها في السياسة لأن التغيير ليس عيباً في حد ذاته، بل مطلوب وفيه استجابة واعية للمعطيات الجديدة. والأهم أيضاً هو مضمون التغيير. فما هو مطلوب بشكل ملح لا يتعدى التخلص من كل الإشارات العنصرية والتي تستهدف اليهود كأبناء ديانة والتي تتورط في مسار اللاسامية الأوروبي. من الممكن أيضاً أن يتضمن ذلك الجدل حجة التوقيت، فسيُقال دوماً إن التوقيت غير مناسب فسيُفهم منه هذا أو ذاك. وهذه أيضاً حجة لا قيمة لها إذ لن يكون هناك أبداً توقيت «مناسب»، فالحدث السياسي الفلسطيني والإقليمي سريع الإيقاع ويحمل دوماً مفاجآت تجعل توقيت اليوم أفضل من توقيت الغد. والحجة الثالثة قد تحاول القول إن هذا التغيير يجب أن يأتي ضمن صفقة أكبر ويُقدم كتنازل وليس كمبادرة ذاتية «مجانية». وهذا منطق يشوه نصاعة الحق الفلسطيني ولا يفيده. وكأن التخلي عن خطابات فيها شبهة العنصرية والتفرقة الدينية لا يأتي بوعي ذاتي، بل نتيجة لضغط خارجي وكتنازل براغماتي لا يعكس قناعة مترسخة بل مساومات عابرة.
ما يمكن أن تقوم به حماس هو أن تحول تعديل الميثاق إلى مبادرة هجومية، تقضي من خلالها على مسوغات لا تُحصى في طول وعرض العالم ساهمت في حصار الحركة وحصار فلسطين وشعبها خلال السنوات القليلة الماضية. وربما يمكن القول إن اللحظة الراهنة هي التوقيت الأفضل للقيام بمبادرة تعديل الميثاق: لحظة الانحدار الإسرائيلي الجماعي نحو اليمين، ولحظة رغبة الإدارة الأميركية بالانفتاح على قضايا المنطقة والتحدث مع «كل الأطراف»، ولحظة اتساع القناعة الأوروبية بضرورة تغيير السياسة الجماعية إزاء فلسطين التي انضبطت بتفاهة ومن دون خجل على إيقاع سياسة جورج بوش الانحيازية. إحدى أهم مقولات اليمين الإسرائيلي وأتباعه وأنصاره في كل العالم هي أن هدف حماس والفلسطينيين هو تطبيق إبادة ثانية لليهود وهذه المرة في فلسطين، تناظر إبادتهم في أوروبا على أيد النازية العنصرية. ليس هناك أقوى تأثيراً في المخيلة الغربية والأوروبية من إثارة إرث الفعل النازي ضد يهود القارة. ميثاق حماس يوفر العتاد الجاهز ويمثل هدية دائمة الحضور للاقتباس منه والتدليل على ذلك. وبهذا تصبح المعركة اللفظية التي يثيرها الميثاق كأنها المعركة الحقيقية، وليس ما يحدث على الأرض من واقع احتلالي يترسخ ويتكرس.
من ناحية عملية يمكن لحماس، ويجب، أن تقوم بواحد من أمرين إزاء الميثاق: الأول أن تقوم بتغييره جذرياً، والثاني أن تقوم بالحذف الفوري للمواد الطافحة بإعلان المعركة ضد اليهود كأبناء ديانة. كل ما سبق لا يعكس أية أوهام بأن تغيير الميثاق سيجر تغيراً فورياً وجذرياً في نظرة العالم إلى حماس والفلسطينيين وبجرة قلم. لكنه يعكس قناعة بأن ذلك التغيير ضروري من ناحية ضمير ووجدان النضال الفلسطيني والعربي الذي يجب أن يظل منطلقاً من مبادئ إنسانية عميقة، ومنطلقاً من تاريخ بهي في «أخلاق الحروب» يتم دوماً، وبحق، التباهي به، يبتدأ من عدم الاعتداء على غير المحاربين وينتهي إلى العفو المبهر عند المقدرة كما في مثال صلاح الدين وسواه.
* كاتب أردني – فلسطيني، جامعة كامبريدج
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى