ما بعد الكتابة: سؤال النهضة عندما يُلقى على عاتق النصّ
عمر قدور
ينطلق خضر الآغا في كتابه “ما بعد الكتابة” من عبارة لهنري ميلر، في رواية الوشيجة، تقول: “نحن لم نحدث لأننا لم نكن موضوعاً لتفكير أحد”. واستطراداً يرى أن العرب هم موضوع تفكير الآخرين، ولكن بلغة الآخرين، أي أن وجودهم على هذا النحو يخضع للنفي مرتين؛ الأولى كونهم موضوعاً للآخرين،
والثانية عبر لغة مغايرة. وبهذا المعنى يُعاد طرح سؤال النهضة بحيث يجب على العرب التحول إلى ذات تحدث من موقعها هي، أي ذات تفكّر بنفسها، وبما أنه لا تفكير خارج النصّ، إذن الكتابة هي الكفيلة بتغيير المواقع بوصفها كتابة وجود، أو كتابة “حدوث“.
يتقصى الكتاب رحلة الكتابة بدءاً من الإينوما إليش “ملحمة الخلق البابلية”، في مطابقة بينها وبين برج بابل، بوصفه “برجاً لغوياً باذخاً” ينظّم الكون على أنه مركزه الأول. وعلى هذا يرى في برج بابل “البنية التي صنعها البابلي لتحتوي الوجود برمته، وتضفي عليه المعنى والدلالة. وإذا تم تنصيب مردوخ في أعلاه إلهاً أكبر بين الآلهة، فقد تم تنصيبه على أنه إله الدلالة، وما الأسماء الخمسون التي أطلقت عليه إلا المعمار الأخير في تلك البنية”. تكتسب المرحلة البابلية أهميتها بنظر المؤلف من كونها مرحلة التسمية الأولى، أو الخلق الأول، حيث عالم الخالق جزء من عالم الخليقة، ويتموضع البرج كرباط بين السماء والأرض، أي بين الإله والإنسان. هذه البنية سمحت أيضاً بتعايش آلهة عديدة في آن، ما دفع آرنولد توينبي إلى توصيفها بانعدام النزعة الحصرية في البنية البابلية. وبشكل رمزي سيكون من شأن تدمير برج بابل تدمير البنية أيضاً، وعلى المستوى اللغوي سيؤدي فصل هذا الرباط إلى الفصل بين لغة الإله ولغة البشر مع بزوغ النزعة الحصرية للإله الواحد. إذن مع التوراة سيتم قسر الدلالة لتلائم الخطاب التوحيدي ليهوه، ومع أن الكلمة الخالقة، المستمدة من الإينوما إليش، استمرت في الخطاب التوراتي إلا أنها أخذت منحى حصرياً واستحواذياً.
لا يخفي الكاتب انحيازه إلى “الكلمة” البابلية بتعدد دلالاتها، ووفق هذه القراءة التأويلية ينحاز إلى المسيحية الأولى، بوصف المسيح كلمةً حاولت إعادة العالم إلى حالته البدئية، حيث يعيش الجميع في ملكوت واحد هو “ملكوت الله”. ويرى أن الثورة المسيحية تم امتصاصها بربط العهد الجديد بالعهد القديم، فأعيد تقييد الدلالة، وأعيدت النزعة الحصرية للإله. بعد أكثر من قرنين ستتكرر المحاولة مع المانوية، وهنا يمكن ملاحظة الصلة بوضوح أكبر، إذ يعلن ماني: “أنا الرسول الشكور المبعوث من أرض بابل”. وعلى هذا لا يدّعي النص المانوي امتلاكه الكلمة الخالقة بقدر ما يسعى إلى جلاء الظلام الذي تراكم على العلامات الأولى، وأفقدها تأويلاتها النورانية. كان ماني مولعاً بالكتابة، ويحرص على الجماليات التي يخطّ بها تعاليمه، ولم يكن هذا ولعاً فنياً طالما أنه مدرك أن سابقيه من أصحاب النبوة اعتمدوا الشفاهة، وتركوا لمن بعدهم مهمة تدوين تعاليمهم وبالتالي تعريضها للتحريفات. هذا الشغف المانوي بالكتابة، بالتجاور مع رؤيته العالم كحدائق من نور وذلك الحنين إلى البدء البابلي، يكشف عن الصراع على الحقل الدلالي للكلمة، في منطقة تبدو فيها اللغة مطابقة للوجود برمته.
مع النصّ القرآني يبدأ إشكال اللغة الكبير، وربما إشكال الكتاب موضوع هذه القراءة، فالواقع يقول إن النص القرآني أسس لنقلة ثقافية وحضارية كبرى للعرب، والواقع يقول أيضاً إن هذا النص قد أحكم الطوق على النصوص العربية الأخرى حين تماهت اللغة بالقرآن، فتطابقت معه دلالةً وقداسةً، وبهذا يمكن اعتبار النص القرآني استحواذياً بامتياز. بدأت الثقافة العربية الإسلامية بكلمة “اقرأ”، من حيث هي دعوة إلى قراءة العلامات الموجودة في الكون، وعلى هذا انبنى أولاً النظام اللغوي للقرآن، بمعنى أنه وضع نظاماً جديداً لهذه العلامات. انطلاقاً من هذا انشغل العرب بالتفكير حول اللغة، ومن المعلوم أن اللغة كانت جواز مرور النص القرآني لدى قوم عُرفوا بالفصاحة والبلاغة، لكنهم دهشوا أمام نظام جديد لها لا يشبه نظام الشعر أو النثر السائدين، حتى إن ما سُمّي بالإعجاز اللغوي للقرآن أخذ مساحة من اهتمام الدارسين الأوائل تكاد تعادل الاهتمام بالعمق اللاهوتي للنص. يختلف التفكير حول اللغة عربياً عنه لدى الشعوب الأخرى، فالعربية، التي اختُزلت إلى الكتاب، صارت كلام الله الذي ينبغي أن يُصان ويُمنع تداوله أو تأويله بشكل “خاطئ”. اعتبارات القداسة هذه هي التي أوجدت النحو العربي وتفرعاته مثل مدرستي البصرة والكوفة، ومن هذا الجدال الواسع نشأ علم الكلام. بسبب من القرآن طُرح السؤال: هل اللغة توقيف أم اصطلاح؟ وهذه صياغة أخرى لسؤال أعمق تأثيراً: هل القرآن مخلوق أم قديم قدم الله؟ مجرد طرح هذا السؤال يحمل في طياته انتزاعاً للعربية من تاريخيتها، فهي لم تعد لغة قوم، بل أضحت كلام الله. وإذا نادى البعض بقدم القرآن فمؤدّى ذلك أن نظام القرآن، وبالتالي نظام اللغة، صار نهائياً أيضاً.
الانعطافة الدورية الأخيرة، كما يراها المؤلف، أتت مع المتصوفين الإسلاميين، فهؤلاء نقضوا النزعة الحصرية للنص السائد باتجاهيه النقلي والعقلي، وأعادوا وصل الخالق بالمخلوق من خلال حلول الخالق في كل مخلوقاته. الجذر الإيماني عند الكثير من المتصوفة يخرج عن التربة الإسلامية ليلاقي مفهوم الإيمان بالمطلق، وأينما وجد، فهم يرون الله في العبادات الأخرى كلها بما أن الله ذاته موجود في كل العلامات المفروشة في الكون. وبما أن طريق المعرفة هو القلب فهي متقلبة ولا نهائية؛ معرفة الله أو العالم، حيث لا فرق بين الاثنتين، تتم عبر تأويل لا ينقضي وتقليب متواصل للنص. اللغة هنا علّة الوجود المستمرة، بدأت كما يشير ابن عربي بكلمة كن “فكنتَ أول قائل وكنتُ أول سامع”، لكن هذا الوجود لم يحدث لمرة واحدة وانتهى، إنه الوجود المتجدد والمتغير باستمرار، هو وجود في المجاز.
يبني خضر الآغا كتابه على أن لا شيء خارج الكتابة، فهي “تقشير دائم للوجود، وغسل له مما يتراكم عليه ويحجبه. وإنها، فيما تفعل ذلك، فإنها توالي تأسيسه”. وعلى هذا تلتبس قراءته للتاريخ بسيرة الكتابة، أو بالأحرى يقرأ تاريخ المشرق العربي قراءةً تأويلية عبر النصوص الكبرى المؤسِّسة للوعي، أو حتى استحضار النصوص الأقلّ فعالية مثل النص المانوي أو النص الصوفي. الخلاصة المضمرة فيما سبق هي أن العرب توقفوا عند النص القرآني، أي توقفوا عن الوجود منذ فقد ذلك النص طاقته الإبداعية، وبالتالي فالعرب مدعوون إلى كتابة نص إبداعي جديد، هذه المرة بمعزل عن المقدّس. أيضاً نلمس في الكتاب هجاء خجولاً للعقل التوحيدي، يبديه الانحياز الواضح للكون البابلي ومن ثم النص المانوي والصوفي، وأعتقد أن جزءاً هاماً مما لا يصرّح به الكتاب، ويترك للقارئ مهمة تأويله، هو في الربط بين الوجود العربي الجديد والقدرة على التخلص من أسر النظام اللغوي الذي أوجده النص القرآني.
قد تكون مفيدة في هذا الصدد المقارنةُ مع الوجود الغربي الحديث، إذ لم تكن العودة إلى النص الإغريقي محض بحث عن جذور للنهضة الجديدة، وإنما تجلّت في هذه العودة الرغبةُ في الرجوع إلى النظام ما قبل المسيحي تحديداً، حيث لم تكن ممكنة بعد حركة الإصلاح الديني. ولربما تحاشى المؤلف عقد مقارنات من هذا النوع بحكم تطلعه إلى كتابة ذات خصوصية عربية، رغم إشارته مرات عديدة إلى النص الجاهلي الذي أقصي بواسطة القرآن، مع التنويه بتعدديته المطابقة كبنية لتعدد الآلهة. طبعاً لا يُقصد بهذا استجلاب الزمن الجاهلي، المقصود هو الخلاص من البنية شديدة الاستحواذ والتمركز الخاصة بالعقل التوحيدي، وهي لا تمثّل سلطة من النص أو على النص وحسب، بل تتفرع عنها كافة السلطات المطلقة. من هنا سيذهب نقد إيديولوجيا اللغة، وهو العنوان الفرعي للكتاب، إلى نقد نظام النص الديني بالضرورة، باعتباره نظاماً مهيمناً على كافة الأصعدة، وحتى الرصانة الطاغية على الكتاب لم تمنع من حسم الإشكال بالذهاب إلى أن هذا النظام قد استنفذ أغراضه، ولم يعد قابلاً للتجدد أو الإصلاح؛ المطلوب إزاحته بنظام مغاير تماماً.
الكتاب: ما بعد الكتابة “نقد إيديولوجيا اللغة“
المؤلف: خضر الآغا
الناشر: النايا للدراسات والنشر- الطبعة الأولى 2008
موقع الآوان