قراءة في القراءة العربية لانتخابات الدولة العبرية
دلال البزري
معظم القراءة العربية للانتخابات الاسرائيلية الاخيرة أصابت في تسجيل المواقف والنقاط. ولكنها لم تصبْ شيئا في معرفتنا باسرائيل. ناهيك عن محاولة تحليلها، مجرد المحاولة. بل ردّدت ما تباهى به جيل بأكمله من جهل باسرائيل وتجاهل لوجودها على الخريطة. فاستنكر بعضها «مبالغة الفضائيات في تغطية الانتخابات الاسرائيلية (…) لأنها تتجاوز حاجة المواطن العربي الى المعرفة»؛ واستشهد بأحد كبار «المفكرين الممانعين» الذي قال يوماً «لا يجوز التلهّي بقصص اسرائيل الداخلية، وخصوصا ان لا فروق كبيرة بين المتنافسين على الحكم في الفاشية الاسرائيلية».
وهذا رأي يقول بفجاجة ما تروّجه هذه القراءة من أن اسرائيل بدت في هذه الانتخابت هي هي نفسها، اسرائيل اليمينية، المتطرفة، العنصرية؛ وبأن لا فرق بين يمين ويمين، وبين يسار ويمين. وبأن التصويت الكثيف لليمين «يفضح طبيعة الشعب الاسرائيلي العدوانية اليمينية المتطرفة الرافضة للسلام». ومن السخف بالتالي مناقشة اسباب «تطرف» الاسرائيليين، أو حتى مقابلته بتطرّفنا الصريح. فالعدوانية الاسرائيلية صفة جوهرانية، ذات ماهية خالدة. هم منذ الأزل عدوانيون. ولم يكوانوا يوما ضحايا (النضال من اجل إنكار المحرقة). من المهد الى اللحد: «خيبر خيبر يا يهود…» الى آخر المعزوفة المعروفة. فيتوقف بذلك السؤال ويتأكد الشعار الابدي: «اسرائيل شر مطلق». فتنتصر «حماس»: «فوز اليمين الصهيوني اثبت صحة الشعارات التي رفعتها «حماس» من ان اسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة». الذين افتعلوا الاستهجان والاستنكار من بربرية المجتمع الاسرائيلي بانتخابه يمينا متطرفا، هم انفسهم الذين ثبتت صحة نظريتهم. فغلبوا خصومهم «المعتدلين» الراغبين بالسلام على استحياء. يتأسفون من ذلك تأسف الثعالب: «»معسكر الاعتدال العربي مع الأسف انتهى»، يعلن قائد لبناني «ممانع» ردا على محاولات رسمية للحد من فساده!
قارِن هذه القراءة لصعود اليمين بقراءة تقرير فينوغراد. وقد «أثبتَ» هذا الاخير وأظهر نظرية «الانتصار الالهي» على اسرائيل في تموز (يوليو) 2006 وكأنها لم تقرأه.
هذه قراءة ضد القراءة… وضد السؤال. وهي تكيل بمكيالين تحليليّين: فمن جهة، هذه القراءة معروفة في مجال مشابه بدفاعها عن التطرف الديني «المقاوم»، وبتعدادها المثابر للأسباب التي جعلت المجتمع يستجيب له، ومطالبتها التي لا تقلّ مثابرة بالعمل بموجب هذه الاسباب. ولكن هذه القراءة، من جهة اخرى، تتمنّع عن الخوض في صعود التطرف الاسرائيلي الذي هو نظيره؛ مسنودة بذلك الى مفهومها الجوهراني للشر الاسرائيلي.
مقارنة سريعة بين ليبرمن المرشح المتطرف الصاعد، وبين قادة مقاوماتنا. «القائد المنتظر» ليس متدينا، ولكنه يرى ان «الموضوع الفلسطيني هو حلقة صغيرة وبسيطة من الصراع الحقيقي الدائر هنا. انه صراع بين اقوام واديان (…) بين الغرب وبين الاسلام (…) حيث توجد ديانتان يجب البحث عن الفصل بينهما». فيما نحن نحتفي بالقادة اصحاب مشاريع إزالة اسرائيل باسم الامة الاسلامية، والذين لن يهنأوا قبل ان تصبح كل فلسطين دولة اسلامية. دولة يهودية صرفة سوف تكون طبعا الرد الغرائزي والأقوى على دولة اسلامية قائمة على انقاض اسرائيل.
اكثر من ذلك: على ماذا لعب ليبرمان؟ ليس على الخطر الفلسطيني المباشر فحسب، والذي يأتي في المرتبة الخلفية من الخطورة بالرغم من تصدّره الحدث. بل على الخطر الايراني. فهو يرى اسرائيل «الجبهة المتقدمة للغرب ضد ايران التي تشكل خطرا على الجميع. بالنسبة لاسرائيل فهي الخطر الاكبر». فالدولة الايرانية، التي يلوّح رئيسها في كل مناسبة بازالة اسرائيل؛ والذي يدعم منظمات «حزب الله» و»حماس» وغيرها الداعية ايضا الى نفس الازالة، هي المادة الأدسم لطموح استطاع اللعب على الخوف من الصواريخ ومن الازالة… هل من عجب في ذلك، وقد اصبح اللعب على غريزة الخوف قاعدة من قواعد قادة «المقاومة» وسياسييها والمتكلمين في فضائياتها؟
مرت ايام على منطقتنا كانت فيها اسرائيل أقل تطرفا. من يتذكر الاجتياح الاسرائيلي للبنان؟ يومها، الذي قاد حركة الاحتجاج ضد هذا الاجتياح لم يكن «الشارع» العربي؛ بل «الشارع» الاسرائيلي، وبقيادة حركة «السلام الآن» الصاعدة آنذاك، وبربع مليون اسرائيلي لبوا نداءها للتظاهر ضد هذا العدوان؟ ومن يتذكر كتاب الصحافي الاسرائيلي امنون كابليوك الذي كشف للقضاء الاسرائيلي عن المسؤوليات المحددة لمجازر صبرا وشاتيلا، وفي فلسطين نفسها، في اواسط الثمانينات؟. كيف كان الفلسطينيون يتنقلون ويتعلمون ويعبرون بل يناضلون… بحرية. وكيف كان الشيخ احمد ياسين يتنقل بين غزة وكفر قاسم، واسرائيل مستعدة للانسحاب من غزة ومن 97 في المئة من الضفة الغربية، وكان الاستيطان اقل. ولم يكن ثمة سور ولا حصار ولا تجويع ولا إبادة ولا كراهية بهذا القدر، على ما ذكر الكاتب الأردني ابراهيم غرايبة، مع اننا بازاء نفس الدولة ونفس المجتمع.
قليل من النسبية ايها السادة. قليل من المقارنة والدقة. خاصة عند التكلم عن «أزمة اسرائيل الوجودية»، او عن السياسيين الاسرائيليين الذئاب، عن تغولهم، وعن اعلامهم المعبأ والمجنّد والمتلاعَب به. فمن كان بيته من زجاج…
لكن الاهم من كل هذا هو إنعدام الندّية بين عقولنا والعقول الاسرائيلية. دائما لاهثين وراءها… منتظرين لردود افعالها. رغم «المقاومة» و»العزة» و»الانتصار». ولا مرة أتتْ على بالنا فكرة المبادرة. فكرة إختراق هذه الدائرة المغلقة من العنف والعنف المضاد. فكرة اختراق هذه السياسة بفعل يأتي من صميم حاجاتنا وقدراتنا ودقيق معرفتنا باسرائيل دولة ومجتمعاً. لماذا؟ لأننا مستمتعون بكوننا ضحايا. معتادون على نعيم الضحوية الذي يعفي من السؤال والنقد والمراجعة، ومن القراءة، خصوصا ان هذه الضحوية تقترن بالانتصارية الالهية وبتدني مفجع لنسبة القراءة نفسها.
الحياة