في أحوال أميركا اللاتينية .. الديمقراطية سلاح الثورة الجديدة
د.ناديا ظافر شعبان
بادئ ذي بدء لا بد من القول إن حيثيات الديمقراطية في اميركا اللاتينية ليست كمثيلاتها في اوروبا والولايات المتحدة وبعض دول آسيا كاليابان وماليزيا والهند، لكنها ديمقراطية ناشطة، ومعافاة، ولاسيما انها ناهضة في دول كانت محكومة من دكتاتوريات عسكرية وشمولية معروفة في بلدان مثل تشيلي والارجنتين وبوليفيا وغيرها.. وغيرها. وقد اتفق على مناهضة هذه الدكتاتوريات يساريون وليبراليون إلى جانب أطراف في الكنيسة الكاثوليكية ممن اطلق عليهم وقتها بـ«لاهوت التحرير» وكان يمثلهم يومها من ضمن من كان يمثلهم، أرنستو كاردينال، وهو رجل دين مسيحي كاثوليكي وشاعر من نيكاراغوا، كان مطلوبا رأسه من اكثر من نظام عسكري اميركي لاتيني حاكم بتهمة خطره الأمني الكبير على البلاد.
غير أن الفاتيكان كان يشترك بدوره في إعلان الحرب على ظاهرة «لاهوت التحرير»، باعتبارها دعوة تحرج البابوية في الصميم، وتظهرها بمظهرالمتواطئ مع الدكتاتوريات، ومع الولايات المتحدة المتحالفة بدورها مع تلك الدكتاتوريات. وكان منطق البابوية يومها ان على رجال الدين ألا ينخرطوا في العمل السياسي وألا يلجؤوا إلى العنف في مواجهة السلطات الحاكمة، وأن عملهم ينبغي ألا يتجاوز حدود ما تفرضه عليهم الكنيسة والالتزام بتعاليمها الدينية فقط. وكانت ردة فعل جماعة «لاهوت التحرير» يومها، أي في العام 1968، أن تنادوا إلى اجتماع مطول في مدينة البندقية الإيطالية تحت شعار «الظلم لاجتماعي والثورة»، تطرقوا فيه من ضمن ما تطرقوا، إلى حق لجوء رجال الدين المسيحيين إلى مقاومة الظلم بالسلاح، وخلصوا إلى نتيجة مفادها «نحن المسيحيين كأعضاء في الأمة، علينا أن نقر بدورنا، وواجبنا في تحمل مسؤولياتنا، إذ أننا بصمتنا وانعزالنا، نكون قد أسهمنا في الخطيئة، وعلى الكنيسة ان تكون في خدمة أولئك المكافحين في سبيل مجتمع أفضل، وعلى صوت الكنيسة ان يرتفع مدويا في مؤازرته ومشاركته الاصوات الاخرى المدافعة عن الإنسان المسحوق، وعليها أن تدعو المسيحيين كافة للمشاركة في هذا العمل الجاد والمشروع والعادل».
الفاتيكان.. لاهوت التحرير
أمام هذا القرار الخطير من رجال دين ولاهوتيين، كان على البابا بولس السادس يومها، أن يتحرك لاستيعاب الموقف، ويطرح حلولا وسطا، على الرغم من معارضته الصريحة لبيان جماعة «لاهوت التحرير»، لكن الحلول الوسط كانت تنتج موقفا عدائيا مؤيدا للفاتيكان المتحالف في السر مع الأنظمة الدكتاتورية العسكرية في أميركا اللاتينية، والتي استطاعت في النتيجة ان تقضي على ظاهرة «لاهوت التحرير» من خلال قضائها على القوى الحزبية المعارضة الاخرى.. من شيوعية ويسارية متحالفة معها، أي مع كنيسة «لاهوت التحرير».
لكن هذا القضاء لم يكن مبرما وإن انسحب وهجه القوي من بلدان القارة كافة تقريبا، والتي تغير فيها في ما بعد شكل النضال المسلح ليتخذ شكل المواجهة المدنية شبه الشاملة، ويستفيد من تسلل الديمقراطية التي استفيد منها جيدا، فتوالى على حكم بلدان القارة أظمة يمينية وأخرى يسارية.. وأخرى بين بين، أو وسطية.
وما بين نوفمبر 2005 وديسمبر 2006، عرفت بلدان القارة حمأة انتخابات جدية وتاريخية انعكست مع توالي اثني عشر انتخابا رئاسيا في كل من: الهندوراس وبوليفيا والتشيلي وكوستاريكا وهاييتي وكولومبيا والبيرو والمكسيك والبرازيل والإكوادور ونيكاراغوا، واخيرا وربما ليس آخر في فنزويلا، فبرهنت إذ ذاك القارة عن صوابية اختيار هذا النهج الديمقراطي، وارتضت شعوب المنطقة كلها النتائج التي أسفرت عنها، وتلك في رأيي الطريق السياسية الأسلم لتقدم الشعوب وتطورها.
إن المراقب للتحولات السياسية والثقافية في أميركا اللاتينية، يستطيع القول إن زمن الثورات الذي كنا شهدناه في الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت قد ولى.
عودة الوهج غير التقليدي
ومع تصاعد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وقيام التكتلات الاقتصادية الغربية بزعامة أميركا وانعكاساتها السلبية على الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، عاد الوهج بعض الشيء إلى اليسار في دول اميركا اللاتينية، ولاسيما في العام 1998 مع انتخاب هوغو تشافيز في فنزويلا، ومن ثم مع أناسيو داسيلفا الملقب بـ«لولا» في البرازيل في العام 2002، ونستور كيرشنر في الارجنتين في العام 2003 وتاباري فاسكيز في الأوروغواي في العام 2004، وكذلك لاحقا مع صعود نجومية ايفو موراليس الرئاسية في بوليفيا وميشيل باشليه (امرأة) في التشيلي، ورفائيل كوربيا في الإكوادور، ودانيال أورتيغا في نيكاراغوا.. ومن ثم فيما بعد حيث أعيد انتخاب هوغو شافيز مجددا في فنزويلا و«لولا» في البرازيل.
لكن هذا كله لا يعني ان القارة تحولت بالكامل إلى الحال السياسية ذات الأبعاد الاشتراكية واليسارية. فالانتخابات جاءت في كوستاريكا والبيرو برئيسين معتدلين سابقين، أي من مرحلة الثمانينيات، وهما: أوسكار أرياس وآلان غارسيا. كما اسفرت الانتخابات على بقاء زعيمين يمينيين قويين في المكسيك وكولومبيا في السلطة هما: فيليبي كالديرون وألفارو أوريبي.
تجدر الإشارة هنا إلى أن اليسار العائد، أو الجديد في أميركا اللاتينية، ليس يسارا تقليديا واحدا، بل هو يسار متباين في توجهاته انطلاقا من ظروف كل بلد على حدة.. اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وكذلك في رؤية كل بلد أيضا لسياساته الخارجية. فاليسار الوسطي، أو لنقل الاعتدالي في التشيلي والبرازيل، لا يتلاءم في سياسته، خصوصا الخارجية منها، مع يسار فنزويلا والإكوادور وبوليفيا ونيكاراغوا، الذي كان يتناقض كليا مع الولايات المتحدة وتصدرها لاجتياحات العولمة واقتصاد السوق، وإعلانها الحروب على العالمين العربي والإسلامي.
يسار صناديق الاقتراع
لكن الشأن المشترك في هذا اليسار الأميركي اللاتيني الجديد، أنه ليس يسارا شموليا، أو أرثوذكسيا، بل هو يسار ديمقراطي أفرزته صناديق الاقتراع، وليس الثورات المسلحة، أو الانقلابات العسكرية.
كما انه يسار أفسح كل المجالات لمشاركة المجتمعات المدنية، مشاركة جوهرية لا شكلانية، مراهنا في ذلك على الطبقة الوسطى والمثقفين لينخرطوا في التجربة السياسية وبرلماناتها وحكوماتها، لعله بذلك يدعم قوى اجتماعية جوهرية تمكنه من أن يظل يجدد دماءه السياسية ومن خلال الانتخابات الحرة، والمراقب بعضها من طرف مؤسسات دولية موثوق بها.
«اميركا لاتينية أخرى أمر ممكن جدا».. هذا هو شعار المجتمع المدني في كل من فنزويلا وبوليفيا والأورغواي والإكوادور، وكان الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، هو الأكثر رهانا على قوى المجتمع المدني في بلاده وسائر الأقطار في جنوب القارة.
وقد قطف من خلال هذه السياسة نجاحا كبيرا من خلال الاستفتاء الذي كان أجراه مؤخرا على ولاية غير محدودة له في السلطة، إنما على قاعدة انتخابية حقيقية في كل مرة. وهو الأمر الذي أرضى القوى المناهضة له، لعلها إذا نجحت هي ووصلت إلى السلطة لاحقا تعمل بدورها على أن يدوم لها الحكم بانتخابات شعبية شرعية.
وكان شافيز قد خاطب قوى المجتمع المدني في بلاده قائلا: دوركم مهم جدا وفاعل في صفوف شعبكم الفقير البائس لتنهضوا به وتتحملوا المسؤولية معنا كسياسيين ليعرف هذا الشعب في المحصلة من يستغله في الداخل والخارج ويعيق بالتالي من نموه الاقتصادي والاجتماعي.
وكان شافيز أيضا، قد طرح ويؤازره في ذلك إيفو موراليس، البديل الاقتصادي البوليفاري للأميركتين، داعيا إلى دمج مناطقي لا يرتكز على منطق السوق الذي تطرحه الولايات المتحدة.
ومع تعثر سياسات العولمة على الطريقة الاميركية، عاد يسار اميركا اللاتينية ليذكر بصوابية وجهة نظره، وليتولى الكلام الناقد هنا، الباحث الارجنتيني الديمقراطي اليساري الفارو غونزاليس: «على ما يبدو فإن العولمة، او اقتصاد السوق المفتوحة، قد تلقت ضربة قاصمة من عقر دارها، واظهرت حاجة المجتمعات إلى تدخل الدولة المسؤول لضبط الفلتان الرأسمالي المتوحش الذي يؤذي مجتمعه أولا، وينتقل بعدها ليؤذي مجتمعات الآخرين في دول القارات كلها».
في الإجمال، تعلمت شعوب أميركا اللاتينية من تجاربها السياسية السابقة المخفقة، وبرهنت بالملموس على أن زمن الثورات المسلحة والاعتصام بالغابات، قد انتهى إلى غير رجعة، وان الثورة الحقيقية، إنما تكمن في التنافس الديمقراطي، وثقافة البرنامج السياسي على اختلاف توجهاته، وأن صندوقة الاقتراع هي السلاح السلمي والوحيد الناجع لكل الصراعات السياسية.
كاتبة من لبنان