صفحات سورية

أوهام” التغيير لدى العرب

null


د. طيب تيزيني

تحتفي الأوساط الثقافية والفكرية الحصيفة، بمرور أربعمائة عام على ولادة الأثر الثقافي العالمي-الإسباني الموسوم بـ”دون كيشوت” لكاتبه Cervances Saavedra. ولعل جلّ قراء العالم الذين يسعون إلى اختزان الثقافة العالمية ذات الأثر العميق في وعيهم وذائقتهم، قد قرأوا هذا الأثر أو قرأوا عنه. ويتضح هذا الكلام، إذا وضعنا يدنا على ما يعتبره كثير من مؤرّخي الأدب والثقافة والتطور الاجتماعي في التاريخ الأوروبي،
المعْلم الحاسم في ما قدمه “سرفانس سافِدرا” في عمله المرموق. أما هذا المعْلم، فيتحدد في السخرية العميقة اللاذعة من الفئات والأفراد، الذين يتحاشون الاعتراف بتغيّر المجتمعات، ومن ثم الإقرار بضرورة الكشف عن قواعد وآليات الاستجابة لمقتضيات هذا التغير واستحقاقاته. وهؤلاء يقعون في النزعة الأصولية الماضوية (النّوسْتالجي)، القائمة على التعلق بالماضي على نحوٍ ماضوي. أما هذا النحو، فيرفض الإقرار بالجديد، ليتمسك بالماضي بكيفية تثير الحنين والأسى، وتخلق الانقسام في الشخصية عبر إيصالها إلى الاستراتيجية الحاسمة والقائلة بأن الأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف، بل الدّاعية كذلك -لدى مجموعات من المتشدّدين الصّارمين في انغلاقهم على الماضي وفي عدائهم للحاضر- إلى استباحة الآخر.

وإذا وضعنا في الاعتبار أن أشخاصاً من ذلك النمط غالباً ما يقعون في إشكالات مع الآخرين، فإننا نلاحظ أنهم يصيبونهم، ويصابون هم بأمراض نفسية واجتماعية مثل الهوس والشعور بالتحفز والاستفزاز، أو بالقنوط والسلبية والرغبة في الإنكفاء والإنزواء، أو بالرغبة في قتال من يعتبرونه سبباً في نشأة الجديد (البدعة والابتداع) وفي “الخروج” من عالم السعادة. وقد ولّد هذا تصورات ذهنية من أنماط مختلفة، مثل “سِفر الخروج” و”الخروج من الفردوس المفقود” و”الخروج من الإسلام الباكر” و”الدخول في الجاهلية الثانية”…إلخ.

ها هنا، في تلك السلسلة التراجعية من المسار التاريخي العكسي، نواجه ما رغب مؤلِّف (دون كيشوت) في أن يثيره، ويجعله مدعاة لما اعتبرناه سخرية عميقة لاذعة من سلوك بطله هذا. فهذا البطل لن يتساهل أبداً مع كل ما قد يسعى إلى إخراجه من عالمه إلى عالم آخر، يؤرق حياته بكل جديد وطريف. فحميمية عالمه، التي عاش في كنفها، تنزلق من يديه أو لعلها انزلقت، ولكنه هو لا ولن يعتبر ذلك “أمراً واقعاً” عليه الإقرار به، وقد قرّر، بحسم، أن يواجه ذلك، حتى بـ”السلاح“.

وحيث وصل “دون كيشوت” إلى تلك النتيجة، فقد كان عليه أن يستعين بخادمه (سانشو بانسا)، فهذا خادم وفيٌ، ويحب سيده، في السرّاء والضرّاء. وكان ذلك، في التحليل السوسيوثقافي والاقتصادي التاريخي، بمثابة ردٍ حاسم على التحولات التاريخية الكبرى، التي أخذت تجتاح إسبانيا وبلداناً أوروبية أخرى باتجاه التأسيس لنمط الإنتاج الرأسمالي والعلاقات الرأسمالية على أنقاض نمط الإنتاج الإقطاعي والعلاقات الإقطاعية. وفي سياق المعارك والسجالات بين القديم السائر في طريق الاستنفاد التاريخي والجديد المتجه إلى امتلاك الشرعية التاريخية والمعرفية والأخلاقية، كانت شخصية “دون كيشوت” تبلور بصيغة الإنزواء عن التاريخ تحت وقع تلك التحولات. ولما كان من معطيات التاريخ السياسي والأيديولوجي ألا يُخلي القديم مواقعه للجديد إلا بشقّ النفس وتحت القبضة غالباً، فقد وجد الرجل المأساوي نفسه (أي دون كيشوت) واقعاً في مأزق تاريخي كبير: إنه يفقد مكانه، ولا يجد موطئ قدم له في النظام الجديد، أو يرفض هو الاندماج فيه. وهنا تنشأ المفارقات المرّة، حيث يسعى إلى مقاتلة ذلك النظام بسيوف خشبية، بعد أن افتقد طاقته التاريخية، وذلك بصيغة طواحين هوائية يحسبها هي الهدف.

وإذا كان للمفكر والباحث والقارئ العربي أن يستبطن ذلك المسار التاريخي الأوروبي الحديث، وأن يقرأه في ضوء من النُّظم السياسية العربية القائمة من استحقاقات الإصلاح والتغيير والتحديث الديمقراطي، فإن هؤلاء يجدون أنفسهم أمام الخيار القاطع الذي تطرحه هذه النُّظم، أو يطرحه معظمها: لا للتفريط بالماضي ولا بالحاضر، ولكن إنتاج توليفة بينهما، تنطلق من مماثلتها بمبدأ خلْط الزيت بالماء، حيث يبقى الزيت زيتاً ويبقى الماء ماء. كيف ذلك؟ هذا أمر يستحق العودة إليه.

المخاوف الكبيرة… و”أسرارهم من صغارهم”

غسان تويني

للمرة الأولى في تاريخ الديبلوماسية العربية، نطّلع على تقرير، وينشر، هو الواقعية “بعينها”، كل الواقعية “الخام”، كما هي، من غير تفسير ولا تبرير ولا حتى محاولة تجميل…الأمين العام عمرو موسى طبّق القاعدة بحرفيتها، كما يدرّسونها في “السنة الأولى ديبلوماسية”: ضمّن التقرير ما سمعت ورأيت، لا ما كنت تتمنى ان تسمع من محاورك وترى، ثم ما قلت له فعلاً، لا ما كنت تتمنى ان تقول له ولم يمكّنك ربما من قوله…الحقيقة اذاً في “عراها” المطلق.

وفي حالة الأزمة اللبنانية يذهب الأمين العام الى الحد الاقصى في الواقعية، ولا حتى محاولة تطمين ولا من “يستطمنون”… الى حد انك اذا قرأت في التقرير صباح الجمعة عن “مخاوف كبيرة عن انفجارات امنية” تتساءل، في لحظة ريبة وتوجّس، عما اذا كنت لا تقرأ خبر “انفجار الشفروليه” وليس التحذير من احتمال مثله وأكثر!! وهنا تطرح القضية نفسها في البعد الثاني للمسألة بل المساءلة: هل يكفي ان نعرف، بكل هذه الواقعية، ما نكاد نصير نصفه بالقدر والمقدَّر، أم ان هذه المعرفة هي طريق تحاشي المقدور ولو بالطموح الى السعي نحو المستحيل، تمشّياً مع قاعدة ديبلوماسية أوضح: ان السياسة هي فن، بل علم المحاولة المستمرة للوصول الى الممكن ولو عبر ما يبدو، في اللحظة القصوى من الأزمة، مستحيلاً؟ هنا، على واحدنا ان يقرأ وبإنعام نظر كلّي، ما جاء في رسالة الصحافي الانكليزي باتريك سيل، من دمشق، المنشورة في “الحياة” صباح السبت من غير أن يضيّع وقته في التساؤل عن أي “صغار” في دمشق باحوا الى المعلّق الديبلوماسي البريطاني العريق، في هذا الزمن العصيب، بأسرارهم بهذه الصيغة الفجّة؟ أم تراهم “الكبار” أرادوا تحميله الرسالة موجهة بالذات الى من لم يفهموها من قبل؟ وهنا، لا بد من تثبيت الرسالة – السر كما هي في كل أبعادها: ماذا تريد دمشق من لبنان اليوم وماذا تريد له؟ يقول باتريك سيل: “يبدو ان ثلاثة مخاوف تشغل سوريا حيال الوضع في لبنان. تمثّل الأول بقيام المحكمة ذات الطابع الدولي التي انشئت لمحاكمة قتلة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري (…) ولم يتم الى اليوم تحديد القتلة، ومن المحتمل فعلاً عدم التمكّن من تحديدهم مطلقاً، ويمثّل هذا الواقع مدى التعقيد في هذه القضية. “وسوريا في الواقع أقل قلقاً حيال أي حكم يحتمل أن يصدر عن المحكمة مما هي قلقة بالنسبة الى مسار المحاكمة على مدى الأشهر والسنوات المقبلة. فالمحكمة تملك حق استدعاء عشرات، وربما مئات الشهود. وهذه العملية ستأخذ وقتاً طويلاً ولا مهرب من تسييسها. ومن المحتمل استخدامها من أعداء سوريا كوسيلة لمهاجمتها وربما لزعزعة استقرارها”. “سوريا لا تتساهل مع قيام حكومة معادية واستفزازية في بيروت، والتي من شأنها أن تسمّم الحياة السورية بشكل يومي. “وتريد سوريا أن تضمن ان أيّ حكم يمكن أن يقوم في لبنان، وأي رئيس يتم انتخابه أو أية حكومة يجري تشكيلها، سوف يعترف ويحترم مصالح سوريا الحيويّة، السياسية منها أو الاقتصادية أو الاستراتيجية. هذا هو الأساس كي توافق سوريا على تسوية للأزمة اللبنانية”. وماذا الآن عن موقف سوريا من ترشيح العماد سليمان؟ يقول باتريك سيل: “يبدو ان احدى المشاكل الأساسية تكمن في أن سوريا فقدت ثقتها بقائد الجيش العماد ميشال سليمان، وذلك بعد ان عُقِدت الآمال على كونه مرشحاً مقبولاً من جميع الأطراف المعنية. “فخلال التسعينات، طوَّر العماد ميشال سليمان علاقات وثيقة مع سوريا في الفترة التي أعيد فيها بناء الجيش بمساعدة سوريا نفسها. وذلك بعد انتهاء الحرب الأهلية. وخلال السنة الماضية، عندما دخل لبنان في مواجهات عنيفة ضد إحدى الفصائل الاسلامية المتحصّنة في مخيّم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين، قامت سوريا بتزويد الجيش اللبناني الذخائر اللازمة. “باختصار، اعتُبر ترشيح العماد ميشال سليمان تنازلاً لمصلحة سوريا. إلا أن ذلك كان التوجّه السائد خلال السنة الماضية. أما حالياً فقد فقدت سوريا ثقتها بالعماد سليمان واعتبرت انه انتقل الى الجانب السعودي الأميركي. كما تسري شائعة أخرى في دمشق مفادها ان العماد سليمان ذهب في زيارة سرية الى المملكة العربية السعودية حيث يقال انه قدم تعهدات بشأن تحالفاته المستقبلية. “وفي كل الحالات فإن العماد سليمان ليس ألعوبة، وخصوصاً بعد أن تعزّز موقعه خلال معارك مخيم نهر البارد الشرسة. وفي حال تم انتخابه، فمن المرجّح ان يكون رئيساً مستقلاً. ويشكّل هذا الأمر مخاطرة لا يبدو ان سوريا مستعدة لخوضها”. في القاهرة، هل تعلن سوريا لوزراء الخارجية بمثل صراحة باتريك سيل، أنها صارت تعتبر انتخاب العماد سليمان “مخاطرة ليست مستعدة لخوضها”؟ واذا هي هكذا صارحت العرب، ولبنان، فهل يمضي لبنان في انتخاب رئيس جمهورية يدرك سلفا أنه سيقابل من الجانب السوري، على الأقل، بتحفظ قد ينقلب تدريجا معارضة تراوح بين عدم التعاون وعرقلة تأليف حكومة وفاقية؟ الجواب الاول كذلك نستخلصه من تحليل باتريك سيل، بل معلوماته ومصادر هذه المعلومات: “العماد سليمان ليس ألعوبة (…) وفي حال تم انتخابه فمن المرجح أن يكون رئيساً مستقلا”. وهذا ما يجب أن يسلك لبنان طريقه، مع التوصية بأن يحرص الرئيس العماد على أن يحافظ على استقلاله والتوازن الداخلي، وأن يبقي الجيش خطاً أحمر، ومتأهباً لحراسة الوطن اللبناني وحسن علاقاته “الاستراتيجية” مع الشقيقة سورية وتسهيل بقائها خارج الحلبة اللبنانية الداخلية. وتبقى المسألة الكبرى:الى أي حدّ سيكون في وسع مجلس وزراء الخارجية العرب، بل الحكومات العربية، حراسة الرئاسة اللبنانية وتسهيل حفاظها على استقلاليتها اللبنانية في وجه سوريا تعلن صراحة انها تتهم العماد سليمان بالانحياز الى السعودية واميركا على نحوٍ “يشكل مخاطرة لا يبدو ان سوريا مستعدة لخوضها”.

“النهار” اللبنانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى