حب على الطريقة العربية».. الكيتش الدموي

عباس بيضون
لا يعنينا من «حب على الطريقة العربية» فنّها الروائي فهي ليست فريدة في هذا الباب وليست مثلا فيه. أغلب الظن ان الرواية نفسها لا تحتاط في هذا المجال وتتجاوز فيه بلا تردد. تخترع وترتجل في السياق وخارج السياق، فالسياق نفسه مصنوع مخترع. شخصيات وحوادث ليست لها سوى وجود ورقي ولا تصدر الا عن حجاج سياسي او معادلة نظرية. الرواية لذلك أقرب الى حكاية تعليمية غايتها بناء معادل روائي لدعوى سياسية، انها رواية هذه الدعوى وتتوسل في سبيل ذلك أيسر فن من روائي وأنجحه. تتوسل فن الروايات الشعبية (من مثل ارلكان) التي تستدعي ثنائية البنت المحافظة والشاب القوي المسيطر على خلفية سياحية. لا تهمنا اذن الرواية بل الدعوى التي تفيض عن الرواية وتصرخ من خلالها بأعلى صوت، الدعوى وحدوية فريم يونس المتخرجة من اكسفورد والتي درست في كامبردج وجورج تاون تريد لروايتها لا أن تبشر بالوحدة العربية فحسب، بل ان تجد لها واقعا مقابلاً، فلا تكون هذه دعوى نظرية فحسب بل يكون لها معادل في الناس وفي الحياة العادية، لا تبشر ريم يونس بالفكرة فقط بل تريد لها ان تتجسد وأن تتحول الى حقيقة مباشرة. تريد مساحة فعلية للوحدة. تريد لها ان تكون سياسة وحياة يوميين. تريد للمستوى الوحدوي ان يوجد وللكائن القومي الوحدوي ان يتحقق. اذا كنا في مجال آخر نتكلم عن طبقات وجماعات وأفراد فإننا في رواية ريم يونس نتكلم عن وحدويين وقطريين، عن كائنات من هؤلاء وأولئك كما نتكلم عن عيش قطري وعيش وحدوي. عن مصائر شخصية قطرية وأخرى وحدوية. وعن طموحات خاصة قطرية وأخرى وحدوية. ما فعلته ريم يونس في روايتها هو ما يعز على السياسيين صنعه. في الجدال السياسي لا يجد الذين يسلمون بالوحدة العربية بسهولة مستوى واقعياً لممارستها، بل يخشون أن لا تكون هذه الممارسة سوى شكل جديد من الغلبة القطرية او الاتهام بالتقصير القطري. وأن تكون لبعض الأقطار «ميزة» قومية ليست لأقطار أخرى وعلى أقطار أخرى. حينئذ نفكر بقول اورويل، عن عالم فيه الجميع متساوون، لكن البعض أكثر تساوياً من البعض الآخر. ريم يونس وظفت الخيال الروائي لإيجاد هذه المساحة القومية المفتقدة. لقد أوجدتها على نحو ما. سنجد في روايتها الكائن القومي الوحدوي والواقع الوحدوي ناصعين حاضرين، اما المكان المختار لهما فهو بدون أدنى شك لبنان.
لنعد إلى الرواية قليلاً. صفاء مصرية أي أنها لا تزال مصرية كما نشأت وولدت وقبل أن ترتقي إلى المستوى القومي. انها مصرية، أي انها قطرية. ولتظهر مصريتها او قطريتها واضحة لا تتعب ريم يونس في أن تجعل منها تجسيداً للنمط المصري. انها سمراء ممشوقة تحلم بالسفر إلى دبي واقتناء خادمة سيرلانكية وامتلاك كارت فيزا، ثم انها معتدة كقطرية بتاريخ مصر الفرعوني وبمصريتها ورئيسها ودولتها. انه «الكليشيه» المصري مصوغاً بقلم مصري. ليست القسوة او النقد ما يدعوان الى هذا التنميط بل حب الكليشيه. المعادلة بين القطري والقومي تتطلب ايجاد الكليشيه القطري. لن يكون الكليشيه اللبناني أفضل ولا الكليشيه الخليجي. المال عصب الكليشيه الخليجي في الرواية والتجارة عصب الكليشيه اللبناني. ما دمنا في المستوى القطري. فثمة هنا أنماط قطرية فقط، المصري هو نمطه وكذلك الخليجي واللبناني، المستوى القطري هو قاع سفلي ولا مجال للنظر اليه إلا على انه قاع ينبغي الصعود منه. يطل الكليشيه ومن ورائه الكيتش، يتحول الكلام كله والسلوك كله الى هذا الكيتش، صفاء المصرية تحمل تماثيل نفرتيتي وأوراق البردي هدايا، وتتحدث عن الفراعنة وتقول لنفسها دائما انها مصرية، وانها كذلك بالطبع في مواجهة القطريات الأخرى. صفاء لا تعرف الكيتش المصري فحسب، بل الكيتش اللبناني الذي يضم فضلاً عن التبولة شفاها غليظة (في الغالب بالسليكون). انه عالم تتصارع فيه الكيتشات او تتلاقى على مائدة عامرة. عندئذ يقال ان الوحدة المطبخية العربية تجلت على أكمل وجه.
انه عالم لا مجال فيه لفرديات، هناك صفاء المصرية وزينة الأردنية ونبيل اللبناني وكل منه هؤلاء يحمل نمطه «القطري». الكلام هنا شامل. حين تدخل الخليجية يدخل معها الخليج، وحين تصل المصرية تصل معها مصر، وحين يأتي اللبناني فهو لبنان. اننا على نوع من شطرنج تتقابل فيه شعوب بحالها. الا أن المقابل الأساسي لصفاء المصرية سيكون نبيل اللبناني.
نبيل نصار لبناني ولا يخرج عن نمطه. لقد وصل الى المانيا واشتغل بالمخدرات، واصطاد المانية استغلها ليدخل الى الولايات المتحدة وهجرها ما ان وصل اليها. تزوج اميركية على سبيل السعي إلى الجنسية، وتعاون مع المخابرات الاميركية وأتقن الانكليزية وكون شركة يسوسها بالحزم ولكن ايضا باستبداد، عند كل محطة من هذه نعثر على الكليشيه اللبناني، الشطارة والاستغلال والاعتداد والتغرب. لكن منطق الكيتش يستدعي حكاية قائمة على الكيتش. البنت المصرية المحافظة التي لم تسمح لخطيبها السابق، لا بقبلة على جبينها والحالمة، مع ذلك، بالسفر الى دبي وامتلاك كارت فيزا تنبهر بقوة وثراء وجاذبية اللبناني، انها مجدداً حكاية انجذاب الفتاة السمراء الخجول الى الشاب الأبيض المتسلط الذي يكبرها بكثير. الحكاية التي هي عصب روايات الكيتش الشائعة.
لكن اللبناني نبيل نصار هو في الظاهر يملك هذا التمثيل القوي والمتسلسل والمحبوك للكيتش اللبناني. لكنه بقدرة الخيال الروائي وحده يملك تمثيلاً آخر، اذا بدا عليه أنه يحوز كل مقومات الكيتش الفينيقي فإنه يبطن مقومات أخرى. انه شيعي أولاً وهنا فقط نفهم أن الشيعية بدأت تغدو من أركان النمط القومي، ثم انه جنوبي من لبنان. وهذه كما سنرى في لاحق الرواية هوية قومية، ثم ان مكتبه مزدان بصور الأئمة فضلاً عن آيات قرآنية ولا ندري اذا كان في هذا تلميح بالانتماء الى حزب ديني. أما الرمز الأكبر فهو خارطة للوطن العربي على جدار المكتب وأخرى صغيرة على المكتب يريح رأسه عليها اذا أراد أن ينام. سيشير نبيل نصار الى الخارطة قائلا «انها وطني» وسيقول عن لبنان انه صنيعة التقسيمات الاستعمارية وأن أقطار المنطقة كلها لم تكن موجودة من ثمانين عاماً. بين هذه العناصر ستكون الخارطة هي الرمز الأقوى, ربما لأنها لا تحمل سوى قيمة رمزية. وستتعب الروائية، وغالباً بدون نجاح يذكر، لاستنطاق هذا الرمز وجعله متحركاً وفاعلاً، الا أننا نفهم من هنا أننا أمام الكليشه القومي وأن هذا الكليشيه متعال وطقوسي، وانه لا يتكون شأن الكليشيه القطري من ترهات وعيوب، ولكن من تجريدات وعناصر مفارقة ورموز كاملة خالصة وجو سبحاني. أي أننا في مكان عُلوي متسام والوصول اليه ارتقاء. لقد ارتقى نبيل نصار حين مزق هويته القطرية وفهم ان لا سبيل الى شيء الا بتمزيق الهويات وتجاوز الحدود والقفز عن المصالح القطرية. فالمصالح الوطنية التي يقال انها لبنانية لا تفعل سوى تأخير الصراع. القومي بالطبع يملك صفاته الحسنى. لوجه صفاء، في نظر نبيل، كبرياء عربي، وهو كذلك رغم حلم الخادمة السيرلانكية وكارت الفيزا. كبرياء عربي بعلم صاحبته او بدون علمها، وعلى هذا فقس. ثمة ميزات كثيرة من هذا النوع لا تملك سبباً أو دليلاً سوى تعاليها ومفارقتها.
نبيل نصار جنوبي يحمل جرحاً جنوبياً لقد قتل أخوه تحت القصف الاسرائيلي، ومنذ تلك الساعة آمن بأن الطريق الوحدوي هو السبيل الى الانتصار. الجنوبية هنا تكاد تكون إتنية سياسية. حين يتكلم صهر نبيل عن مصلحة لبنانية في السلم والتعايش الدولي تقول زوجته في معرض دحضه انه ليس جنوبياً. ريم يونس تنقل هنا صدى بعيدا للحدث اللبناني، الجنوبية هنا تتحول الى هوية سياسية، وهي تغدو كذلك متعالية مفارقة. لبنان يرتقي الى هذه الرتبة رغم ان الروائية لا تزال تؤنث لبنان على لسان بطلها الشيعي الجنوبي وصفاء بطلتها تتحدث عن الحلوى الشامية، وكأنها نوع قائم برأسه ولا أسماء للأمكنة، فهذا أفضل لأمثلة المكان الجنوبي وتحويله الى «سيبر» مكان. هكذا ينضاف الى الخارطة التي يعلم عليها نبيل نصار «بقلمه الباهظ الثمن» أشياء لا نعرف ما هي وكأنها طلاسم خاصة، لنجد أنفسنا ثانية في حبل سحري، في مكان متعال، هكذا مقابل الكيتش الاقليمي الساخر الضاحك نجد الكيتش القومي العابس الصارم.
لكن الروائية وهي ترجع الصدى الملحمي للجنوب اللبناني. تقع في حالة من سوء الفهم الفظيعة او هو فهمها من بعيد للحدث اللبناني. نبيل نصار الوحدوي يركز خطته الوحدوية القومية في عملية اغتيال لوزير هو شهاب الدين كما يرد اسمه في الرواية ولا نفهم جلياً ذنب شهاب الدين فهو قطري بالدرجة الأول، وهو داعية سلم، وهو كما يرد أحياناً داعية صلح. كل هذه في سلة واحدة وكأنها متطابقة أصلاً أو مترادفة. لا تقيم الروائية على لسان شخصياتها فرقاً بين الكلام عن مصلحة لبنانية و«الاتحاد مع اسرائيل»، انهما بالنسبة لها واحد او يصدران عن المحل نفسه. ما يهم شهاب الدين على لسان نبيل نصار، الذي يصمم لاغتياله، بأن هدف الوزير هو مصلحة لبنان فقط»، بالإضافة كما يقول نبيل نصار إلى «الصلح مع جيرانها» أي جيران لبنان الذي يتأنث في كلام الشيعي اللبناني. خطاب ريم الوحدوي يقتضي ببساطة سعي كل قطر ضد مصلحته كما يفترض. للعجب، ان الصلح مع اسرائيل هو من مصلحة القطر، انه منطق صوري يقع في مشكلة مع نفسه. اذ كان لا بد للقومي ان يكون ارتقاء اخلاقياً فلا بد ان يتجرد من كل مصلحة، ولا بد لذلك من ان يكون في السلم والتجارة وحتى الصلح مصلحة يجب تعديها. هكذا تقدم لنا ريم يونس ببراءة وصفة كاملة لكره الذات، وصفة كاملة لسياسة الخسارة النبيلة ان لم نقل الانتحار.
ليس هذا بالطبع منطق المقاومة المعلن، لكنه منطقها كما ينتهي الى فهم مراقبة بعيدة كريم يونس. أما العجيب فهو أن واحداً من صفات الوزير شهاب الذي لا نفهم لماذا اغتياله مهمة قومية عليا، واحد من صفات الوزير أنه «يقيم المدارس ويرسل ابناءنا إلى التعلم في الخارج». وهذه التقطتها الروائية بسذاجة من معرفة مضطربة للبنان والوضع اللبناني. شهاب الدين بالطبع شخصية روائية لا نريد أن نطابقها على أحد. لكن حين يذكر ارسال الطلاب الى التعلم في الخارج يخطر اسم وحيد هو اسم الرئيس رفيق الحريري الذي اغتيل هو الآخر. ونخشى من أن نفكر بأن تكون «حب على الطريقة العربية» رواية مقلوبة وشوهاء إلى هذا الحد عن اغتياله. بل نتوجس من التفكير بأن رواية كهذه موجودة، وأن هناك امكانية لرؤية كهذه. نرتعب من أن تكون هناك بواطن مماثلة او ان تنتهي الأمور إلى شيء مثلها.
عند هذا نشعر أن سذاجة ريم يونس أكثر من سذاجة، وأن فهمها من بعيد أكثر من سوء فهم. ان عدم تصديقه او الضحك منه لا يكفي. انه فهم ما للوضع اللبناني خطر وقاتل، ليست رواية ريم يونس بالطبع سلاحاً، لكن فهماً كهذا يمكن ان يجلب الأسلحة وأكثر منها. ان يغدو الاغتيال رافعة الارتقاء الى القومي. ان يقتل رجل لأنه «أحب لبنان فقط»، وأن يقترن حب لبنان لزوماً بالتعامل مع اسرائيل، بل ان تغدو المصلحة الوطنية لزوماً خيانة. ثم أن يجري تلميح واع او غير واع الى ان اغتيال الرئيس الحريري مهمة قومية. لا نجد بالضبط خطاباً معلناً كهذا، لكنه وجد في رواية، وجد في رأس كاتبة تعلمت في اوكسفورد وعلمت في كامبردج. كم رأساً يعمر بأفكار مثل هذه؟ وكم خطاباً يبنى من مقدمات كهذه؟ وماذا ننتظر من عقل كهذا؟
السفير الثقافي