صفحات ثقافية

الشعر، الشاعر.. والشعب

null
نصر جميل شعث
لم يكن استهلاكاً للشكوى أن تُسمّي إحدى الصديقات، من خارج ‘غزة’، مجهولاتِ حياتها بـ’مصفوفة إكسات’؛ فلربما قصدَتْ بهذه التسمية المُنظّمة لمجهولاتها الوجودية، وبهذه الحثيثة المحدّدة والاستجابة الدقيقة للرياضة- تدخّلاً وجدانيًّا يُنقذني، قليلاً، من مُواجهة مُؤكّدة مع مجهول فوضويّ ومتواتر يُركّب سهامَه في قناة مستقبل غزة ويصيبُ حاضرَها في مقتل!
إنّ ‘العلاقة’، يا صديقتي، هي ‘السبب’. بخلاف ما اعتدنا عليه من تسمية ووصف أيّ علاقة، بإشكالها المختلفة، بــ’النتيجة’. وهذه ‘العلاقة’ المُنتجة لمِحنة التبعيّة في وطني هي دالّ مجهول في معزله هناك -لكنه معلومٌ بالعلاقة! فهي تعمل عمل حرف ‘ x ‘ المستقلّ في معادلة رياضية والمؤثر في غيره من توابع. وقد حرّض هذا الحرف اللاتيني الشاعر أمجد ناصر على كتابة نصّ أطلق عليه اسم ‘المدينة الملعونة’. غير أنّ هذا الحرف – الدالّ المستقل والداخليّ- كان السببَ، لدى ناصر، وراء سردية مُنظمة ولذاتها تتابع وامتدادٌ وتوابع ونتائج تضطلع بسؤال الحياة عبر مجهولها، وكذلك بسؤال التاريخ وبالشعوب.
فيمكن لهذه ‘العلاقة’، أن تكون محفّزًا للتحرّر والنجاة، ولو قليلاً، من مجهول قارّ وجاهز، ثمة، في حيّزها واسمها القَبْلِيّ(الموت)، بإحلال الشاعر أسماء وأسباب الحياة في القصيدة، في صفة متحرّكة ومدفوعة بعلاقات تواصل وامتداد للذات الإنسانية؛ إحلالاً يدافع به الشاعر عن حياته ويطرد ما يعدمها، بوصف العدم (في غزة، مثلاً) سبباً ونتيجة في آن واحد، يَهدم أبنية المعاني المتعددة المأمول تحرّكها في أفق تاريخيّ ويوميّ في مدى المواطن البسيط والشاعر، بمعزل عن الهجس اليومي والمباشر بأولويات بحث الفلسفة والسياسات الوسيطة في العلّة والسبب. ومع ذلك، يبقى الموت هو قضية الأرض التي تربط وتُجَمّل الضحيّةَ بشرف المعنى، بينما تدفع بالشعر في شاعر يكتب لئلا يسقط مبكّرًا في واو الموت و الميت.
إنني أعمل هدنة، لا سياسية، مع الزوال؛ تكون مَهربًا مؤقتًا من آخر النقطة الصلبة في هرم الحياة المقلوب على رأسه في مسكن البنية (المقبرة). مع أنه، في واقع الأمر، لا مناص من يقين الموت، ذلك القضية الصلبة والصامدة في تحدّيها للشعر والفلسفة، حيث يحاول في مقاومتها والتصدي لها الشاعر والفيلسوف، بترياق فنّ الشعر والفلسفة.
هذه، على المستوى الفردي، قراءة لصراعي مع المجهول. لكن أين هو مصير الشعب (قاعدة الهرم) الشريك في الصراع الجمعي مع بنية المجهول؟ وكيف ينهض ويخرج الشعب كله من المجهول كبشارة، ومن الركام كحضارة، ومن اللغة كقصيدة فرِحة؛ وهو الواقع، أصلاً، كعلاقة داخليّة سلبية بين الموت والميت؟
انبعاثاً من هذه الطاقة السلبية والعدميّة تصلنا إشاراتٌ ونذرٌ مُريعة؛ حيث يُساق شعبٌ إلى مجهوله الجاهز. فهو ضحية تعرف ولا تعرف قاتلها وتجيد عدّ الموتى- أي شعب مقتول وقاتل حياته في الوقت نفسه. ما يعيدنا إلى عادة وصف النتيجة من جديد، بالعلاقة العكسية بين شعب لا يعرف الشعراء حقّ المعرفة مثلما يعرف موتاه وينسحب إلى مجهوله مجهّزاً بالقدرة على الموت؛ وشاعر يُجري تحسيناتٍ وتعديلات وتأجيلات واجبة على القصيدة والمجهول؛ مؤكّدًا، هذا الأخير، إقامته النابضة والحيّة بين الشعب والشعر؛ أي يصبح هو ‘علاقة’ داخلية إيجابية من حيث أنه يعرف الشعب حقّ المعرفة، ينتمي إلى أحزانه وآلامه ويعيشها، ويصغي له ويتفهّم عاطفته السريعة، إذ يُجْمِلُه الواقعُ في الأسى كونه ضحية مزاج عدوّه الدموي المعلوم، والكامن والمجهول. ومع ذلك يريد أن ينسى الموت!
فأنّى لشعب ‘الاهتمام’ والتحلّي بإرادة النسيان القوية، في شعرائه، قوّة البنية الفنية والجمالية في قصيدة تقاومُ المجهول بالضوء، وتتقدّم على العدم وتؤجّل وتعدّل النتيجة بالانتشار والإشعاع المقاومين لعتمة الوعي المختزلة في تهم جاهزة من قبيل (الخيانة / الخائن)؟
النسيانُ هو الحصان، والحصانُ هو الطائر. فلنسم هذين الكائنين – على الأرض وفي السماءِ- زينة العاطفة السريعة والعقل التأملي معًا؛ تردّ للشعب سرعة الوصول. ومن الأشلاء تكوّن رؤيا حياة تضطلع بخلق مَصيرٍ يُبصر الجميل، متخطّيًا الوقائع اليومية المريرة في شعبٍ مهدور الفرص وتستوعبه علاقة وطنية عكسية تفجّرها حوادث العناد! إذن، كيف لشعب أن يخلق من علاقته إرادة طردية إيجابية بينية ومنفتحة، في الوقت ذاته، على مطالب الشعر والشاعر؟ كيف له أن يحلّ كوعد صلب المعنى وموفور اللياقة في مجاوزة المأزق الوطني والوجودي. ويبني كعبة ‘التوازن’ ويرسلها بحبل يتلألأ تحت الشمس لأنثى الماء في قاع تلك العلاقة العميقة الشبيهة ببئر تثير أسئلة واحتمالات الوجود والعدم بين الشعب والشعر؟
أولا، ألا يسكت شعبٌ لا يصعد ولا يطير عن حقّه في التحوّل. أن يَطلبَ من الطبيعة تصعيد الماء وإنزاله معًا. أن يطلب صيرورة طبيعية، لا تعويضية، جديدة: موهبة الريش.
هذه المطالب من حقّ شاعر أن يراها (من الرؤيا) ويتمناها لشعبه الذي يعيش ذهنيّاً وجسديّا عذابات المآزق والمواقف البطولية. ومع ذلك شعب يجتاحه الموت من داخله ومن الخارج في سياق الخسارات وفرص الحياة المهدورة والمغلّفة بتسميات وبمبررات تقود الدهماء إلى هاوية المشهد؛ ليس حسب في ‘غزة’ المنكوبة؛ بل في سواها داخل جغرافيات عربية مُحتلّة لم يفد الماء كلّه إليها. بالإشارة هنا – مع ملاحظة تذكير الماء (الفاعل) في سياق بنية الجزم والامتناع- إلى عنوان كتاب المختارات الشعرية ‘الماء كلّه وافدٌ إلي’ للشاعر والمترجم العراقي كاظم جهاد(الهيئة المصرية العامة للكتاب 2001)، وتحديداً مع هذا الشاهد الدقيق في نصّ ‘فنّ شعري’، حيث يقول جهاد:
الشاعر الحقّ يجلس إلى الطاولة وحدَه
فإذا ما شرع بافتراع ورقة بيضاء
تناهى إليه صخب شعوب
تركض حمتها في دمه.
الشاعر الحقّ يجلس إلى الورقة وحدَه
وفي قلمه (قلبه) تهمي
أمطار تجيء دائما لتدشّن
أرضا بقيت حتى هذه اللحظة بشعوبها كلها
كمجال غير مسكون
ينتظر أن يعمّده الشاعر ويقول له:
نفسك ستكون
(ص119)
وفي الختام، لا تفوتنا قراءة، أيضًا شاهد كاظم جهاد الشعري، في ضوء قول جميل للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في فصل ‘جيوفلسفة’ من كتاب ‘ما هي الفلسفة’
(ترجمة: مطاع صفدي، ص122) .. يقول دولوز: ‘يكمن الشعب داخل المفكّر لأنه صيرورة شعب، بقدر ما يكون المفكر داخليّا في الشعب، فإنه يغدو كصيرورة ليست أقلّ لا محدودية منه. ليس في استطاعة الفنان أو الفيلسوف خلق شعب قط، كلّ ما في إمكانهما هو مناداته بكل قواهما لا يمكن لشعب أن يخلق ذاته إلا تحت وطأة آلام مبرحة، كذلك لا يستطيع الانشغال بالفن أو الفلسفة (إلا في هذه الحالة). غير أن كتب الفلسفة والأعمال الفنية تحتوى بدورها على قدر يصعب تخيّله من المعاناة تجعلنا نستشعر مجيء شعب. إنها تشترك في المقاومة، مقاومة الموت، والعبودية، مقاومة ما هو مفروض كليّاً، مقاومة العار والحاضر’.

‘ شاعر من فلسطين
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى