ماذا يجري في رأس الهرم الثقافي
هيثم حسين
تذكّرتُ كتاب «في وصف حالتنا» لمحمود درويش، وذلك عندما قرأتُ تحقيقاً قد يشكّك القارئ فيه نفسه وهو يقرأه، لاسيّما حين يكون متابعاً لما يجري داخل أروقة الثقافة السوريّة (إن جاز التعبير الدارج سياسيّاً)، لأنّه ينطبق، في جانب منه، أيّما انطباق على حالتنا الثقافيّة في سوريا،
تعجّبت كغيري من القرّاء، ولا أنكر أنّه راقني ما قرأت، لأنّه كان قد شاقني أن أقرأ مثل هذا الكلام كي يحرّك الركود الذي يخيّم على الساحة الثقافيّة، وسبب التعجّب لن يكون خافياً، لأنّه السجال العنيف الذي نشرته جريدة تشرين في ملفّها الثقافيّ الأسبوعيّ بتاريخ 5 كانون الثاني 2008م، والذي ورد تحت عنوان رئيس: «هذا ما يحصل في الهيئة العامّة للكتاب»، سجال عنيف بحاجة لمن يحسمه ويضع له حدّاً». يتناول التحقيق واقع الهيئة العامّة للكتاب، يرصد التداعي المرير في هذه المؤسّسة الثقافيّة، التي تبادل مديرها د.عبد النبي اصطيف، مع المديرين العاملين معه الاتّهامات التي تجاوزت الحدود الثقافيّة، لتطال شخصيّات خارج الهيئة، في جوّ منشحنٍ بالتوتّر، وفي تبادل ثأريّ كلاميّ، وأسلوب مكايديّ… حيث أنّ مدير الهيئة يسوق اتّهامات بالجملة للعاملين معه. ومن هذه الاتّهامات: المزاجيّة في العمل، عدم الكفاءة، المحاباة، التآمر لطبخ القرارات التي تخدم مصالحهم الشخصيّة، النيل من المؤسّسة التي يعملون فيها، متابعة الأهواء، إفشاء وتسريب أسرار الاجتماعات الرسميّة، تمرير كتب لا تستحقّ النشر بفوائد مادّيّة، الاحتيال على القانون. ولم تستثنِ الاتّهامات الكاتب حسن م يوسف، الذي قال عنه مدير الهيئة، إنّه يحصل على معلومات عن الاجتماعات الرسميّة من زوجته المترجمة روز مخلوف، ويكتب ضدّه في الصحافة، ويردّ ذلك إلى إيقافه نشر رواية لصديقه قمر الزمان علّوش لما فيها من ابتذال خلقيّ وإسفاف، ثمّ يضيف: «علماً أنّ حسن م يوسف استعان برواية مارتن كريتن وبفيلم (المحارب الثالث عشر) ليكتب مسلسله (سقف العالم)، كما أنّ سيّدة من سيّدات دمشق قالت لي بأنّ حسن م يوسف سطا على كتابها وحوّله مسلسلاً». ويصفه كذلك بالافتراء، وعدم الالتزام بالقيم الثقافيّة، وارتكاب السوءات.
ثمّ يأتي دور المديرين العاملين في الهيئة لمبادلة الاتّهامات وتفنيد أقوال اصطيف، حيث يجمع معظمهم على تفرّده بالقرارات وإيذائه المؤسّسة، وعدم مشاورته لأحدٍ في إقراره لخططه التي وُصفت بأنّها مُخجلة، أضحوكة، وكفيلة بأن ترسل بمستوى الكتاب السوريّ إلى الحضيض، وتدلّ على تدهور نوعيّ في مستوى المطبوعات، حيث يقول د.ثائر ديب (مدير الترجمة في الهيئة)، إنّ مجيء اصطيف عطّل كلّ عملٍ في الهيئة، وأنّ ما طُبع يعود إلى الفترة التي سبقت تسلّمه لمهامّه، عدا عن كتاب وحيد، (العرب والأدب المقارن)، ويصفه بأّنّه كتاب رديء، وهو لاصطيف نفسه، الذي أرسله إلى المطبعة مذيّلاً قراره بملاحظة «وجدته جيّداً فدفعته إلى المطبعة»، ولم يعرضه على قرّاء الهيئة الذين قال عنهم في حوار مُتَلفَز: «مَن هذه الحثالة التي سأرسل لها كتابي». كما يقول الشاعر بيان الصفديّ: إنّ د.اصطيف قد عرقل كلّ بارقة عملٍ أو إبداع وخلق جوّاً من السطحيّة. ويقول د.كريم أبو حلاوة (مدير قسم التأليف) بأنّه لم يسمع بالخطّة إلاّ في اجتماع رسميّ. ويذهب د.نيوف نوفل إلى المطالبة بتدخّل لجان رقابة التفتيش. وعن مبيعات الكتب المتبنّاة في عهد اصطيف تقول د.سحر عمران مديرة المطبوعات: «كان من الأجدر ألاّ تطبع كتباً لم تحقّق بيعاً أبداً، وهذه الكتب تبنّاها د.اصطيف، أمّا مَن يعملون في مديريتَي التأليف والترجمة، فهم أشخاص نشيطون ومرموقون وأصحاب كتب ومؤلّفات».
إن كان هذا ما يجري في رأس الهرم الثقافيّ في سوريا، حتّى إن كان بعض من البعض المسرود صادقاً، فلا شكّ أنّ الوباءَ وبَال مستفحل، ودمشق تدخل عاماً تكون فيه عاصمة للثقافة، فكيف يا ترى يكون الوضع في الهيئات والإدارات الأخرى، وكيف يكون حال الثقافة؟! يقيناً إنّ حال الثقافة فيها، بادٍ للعيان، الكتاب فيها مُتوَّه في الهيئة بين القيل والقال، بين الدسيسة والمؤامرة، بين خيبة الأمل وتخييب الظنّ، والمثقّف السوريّ المغلوب على أمره يتابع ما يجري، متحايداً دون أيّ اكتراث، لأنّ قسماً كبيراً منهم محروم من هذا الحقّ وذاك، ولأنّه يرى أنّ ما يجري تصفية حسابات على حساب الكتاب، وعلى حساب الكاتب والقارئ على السواء، وأنّ المضرور في هذه الحالة هو الثقافة التي تنحدر في مؤسّسةٍ يفترض بها أن تكون ثقافيّة إلى مستويات لا تليق بالمثقّفين، وأنّ الافتئات والشلليّة التي يتقاذف التوصيفَ بهما الطرفان، تكتسح المُحترَب» المُعترَك الثقافيّ، لتفرز أو تهمِّش هذه الجماعة أو تلك، لتجرّد هذا من امتيازه أو ذاك، وبالطبع في مثل هذه الحالة، يدّعي كلّ قسم أنّه يحرص على مصلحة الوطن، ويتمترس البعض منهم خلف شعارات، كلما كُبِّرت أخفت خطايا كبرى، ولا شكّ أنّ الحقيقة التي يكون البحث عنها هي المُضيّعة بين الاستجواب وضبط التحقيق الثقافيّ الذي يجب أن يقدَّم للقرّاء على الملأ، الحقيقة المغيّبة تنتظر التفريج عنها، تستحثّ انفراجاً لا انفجاراً بحسب ما قرأنا…
وبعدُ، من الركود إلى التركيد، من المكر إلى التمكير، من التأثيم إلى التفنيد، ونحن نقرأ اتّهامات كثيرة، سنبقى نبحث عن اعترافات جريئة، وانتقادات موثّقة بعيدة عن النيل والتلفيق والتشهير، لتضع حدّاً ينتصف للكتاب والثقافة دون أن يفتئِت لمحسوبيّة أو مداراة…
ماذا نقول ونحن ندخل بداية عامٍ ثقافيٍّ، أنقول: يا لَبأسنا الثقافيّ أم نقول يا لَبؤسنا الكارثيّ..؟! نحار في وصف حالتنا، ولاسيّما أنّ الهزّات قد تأخّرت عنّا، حتّى كدنا أن ننساها، نبتسم ونصمت… ندمع ونصمت… نبكي ونضحك معاً، لا حزناً ولا فرحاً، بل بؤساً ويأساً… ثمّ نردّد معاً: دوام الحال من المحال…
(كاتب سوري)
السفير