قضية فلسطين

غزة بيت الكرامة العربي

سليمان تقي الدين
غزة الغارقة في دمها والركام جراء العدوان الصهيوني لن تذهب تضحياتها الهائلة سدى. إنها تخوض حرب الدفاع عن خيار المقاومة في مواجهة خيارات تصفية القضية الفلسطينية. صمودها يوقف المسار التخاذلي الفلسطيني والعربي. هدف الحرب الإسرائيلية تبديد الهوية الوطنية وتطويع الإرادة الفلسطينية للاحتلال والوصاية العربية مجدداً.
غزة بهذا المعنى تطلق الانتفاضة الثالثة لتصحيح الخط ولوقف التنازلات المجانية ولإسقاط خيار التفاوض لأجل التفاوض دون آفاق حقيقية.
هذه الكلفة الإنسانية الباهظة وهذه المذابح البشعة يبدو أنها مطلوبة لذاتها من أجل فرض اليأس والتسليم بتدابير »إنسانية« على حساب التحرر الوطني وتقرير المصير. تريد إسرائيل وشركاؤها في المدى الإقليمي والدولي أن تسقط نقطة الارتكاز لمعارضة الحلول التصفوية.
صمود غزة ببعديه المسلح والشعبي يحاصر هذه »المؤامرة« التي تمتد أطرافها إلى النظام الرسمي العربي تواطؤاً أو تخاذلاً. لكن إسدال الستار على المسرح الفلسطيني كما يتوهّم أطراف هذا التحالف الجهنمي لن يكون سهلاً ولن يؤدي أصلاً إلى رفع الرايات البيضاء لهول الجرائم وفظاعتها.
لقد اجتازت المقاومة الفصل الأول والأخطر وهو التدمير المنهجي للقدرات والإمكانات والمقوّمات الإنسانية بواسطة آلة التدمير الجوية. لكن أحداً في غزة لا يملك أن يقول للمشروع الصهيوني إنك نجحت في كسر إرادة الصمود والمقاومة. إن هذا الدمار العظيم هو حافز إضافي لإدراك جذرية المشروع ومخاطره الوطنية والإنسانية. وإذا كانت غزة تقاوم وحدها إلا أن المناخ الذي نشرته من حولها لا يمكن له أن ينحسر بسهولة. إذا كانت إسرائيل تقدّم للفلسطينيين هذا النموذج من التعامل، فإنها ليست على استعداد أبداً، لأن تقبل بحل الدولتين.
غزة التي أرادت إسرائيل التخلي عنها أصلاً بوصفها كتلة نار ملتهبة لا تريد أن تبقي لها مقومات الحياة الإنسانية، فكيف بالضفة التي تحاول إسرائيل الاحتفاظ بها وبمعظم أجزائها وهي تمزقها بالمستوطنات والحواجز والأحزمة الأمنية.
إن الخطة الإسرائيلية التي توحي للنظام الرسمي العربي أنها تساعده على التخلص من تيار سياسي متشدّد ومن موقع محسوب على محور إقليمي مناهض له، هذه الخطة تستهدف خلق وقائع جديدة تؤجل البحث في الحل النهائي لسنوات وسنوات. فإذا كانت إسرائيل لم تكن جاهزة للسلام مع العرب من قبل فهي لن تكون جاهزة له أبداً مع كسر شوكة المقاومة وإضعاف مواقع المواجهة الإقليمية لها. ليس هناك من عاقل إلا ويدرك أن شروط أية تسوية سياسية مرهونة لميزان القوى على الأرض وليست لأية اعتبارات أخلاقية. لكن غزة ستظل شوكة في حلق الوحش الصهيوني وهو سيعجز عن مضغها. لقد استنفدت إسرائيل أهداف حربها الجوية ولم تنجح بكسر إرادة غزة، فهي ستبدأ بدفع الثمن السياسي والمادي سواء راوحت الخطة الإسرائيلية عند مستواها الراهن أو كانت قد توسعت بالحرب البرية.
لقد بدأت إسرائيل تخفض مستوى طموحاتها وتراجعت عن مطلب تغيير السلطة في غزة. لقد أدركت أنها ما زالت تواجه استعدادات سياسية معنوية وعسكرية قادرة على إيقاع الخسائر الحقيقية في صفوف جنودها. لم تعد حرب غزة مادة إعلانية للتنافس الانتخابي. ولم تعد حرب غزة تعطي النظام الرسمي العربي فرصة للقول إن خيار المقاومة ليست له مقومات. غزة ستخرج رغم عمق الجراح شاهداً لمصلحة مقاومة الشعب الفلسطيني وحاجزاً بوجه الاندفاعة الإسرائيلية لتصفية قضيته.
غزة بيت الكرامة العربي إذا تهدّم انهدمت الكرامة العربية لزمن طويل.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى