رواية واحدة تكفي
الياس خوري
مات الطيب صالح، السوداني الساحر الذي اقنعنا ان “زول” باللهجة السودانية كلمة عربية فصيحة تعني “جنتلمان”. كان الطيب صالح “زولاً” بكل ما في الكلمة من معنى. دمث ومتواضع ويحب الشعر. اذكر اننا كنا في مؤتمر أدبي في تونس، واميل حبيبي يتوسط مجلس الشراب الليلي في حديقة الفندق، ويترنم بشعر ابي الطيب. وكنا حوله نطرب للشعر، وننتشي بالايقاع الذي يعلو بنا الى سماء اللغة. وعندما نضبت ذاكرة حبيبي، ارتفع صوت الطيب صالح بالشعر، ولم يتوقف. كان الرجل السوداني الأسمر، يشرب مدام الكلمات، يأخذ الايقاع الى مداه، ويراقص الصور. وعندما احس بتململنا قال انه قادر على الاستمرار في الإنشاد الى الصباح.
“هل كتبت الشعر؟”، سألته.
“لا، أنا أحفظه”، قال.
هذا المزج بين حب الشعر وكتابة الرواية، هو جديد الطيب صالح في المشهد الروائي العربي. كتب كثيرا لكنه لم يكتب سوى رواية واحدة. “موسم الهجرة الى الشمال”، لا تزال قادرة على ان تسحر القراء في مشارق الأرض ومغاربها، لأنها مصنوعة من سر المثنّى، الذي طبع علاقة العرب بالأدب، منذ الملك الضلّيل.
صحيح ان الطيب صالح كتب عددا من الروايات الأخرى، “عرس الزين” و”بندرشاه”، و”ضو البيت” وقصص”دومة ود حامد”، لكنه دخل الذاكرة الأدبية في وصفه كاتب الرواية الواحدة. دخل الى الحلبة مع بطله الاشكالي مصطفى سعيد، وبقيا معا في قلب السرد الحديث، كإحدى علاماته الاكثر تأثيرا واشراقا.
اميل حبيبي ايضا كتب رواية واحدة. افترست “المتشائل” جميع اعماله الادبية الأخرى، وصارت احدى علامات فلسطين في المشهد الأدبي في العالم. وعلى الرغم من ضيق حبيبي بهذه الحقيقة، فإن الرجل الذي كتب روايته الأولى من دون ان يدري انها رواية، صار في حياته يقلّد بطل روايته، ويتشاءل مثله، الى درجة بتنا معها لا نستطيع التمييز بين الكاتب والبطل.
التماهي بين الراوي – الكاتب والبطل، كانت لعبة الطيب صالح الكبرى. لكنها لعبة جرت داخل الرواية وليس خارجها. صحيح ان الموضوع في “موسم الهجرة” ليس جديدا، من “قنديل ام هاشم” ليحيى حقي الى “عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم، الى “الحي اللاتيني” لسهيل ادريس، غير ان المقترب الذي بناه الطيب صالح عبر مزج فرانز فانون بكونراد، أخذه الى اماكن جديدة، وجعله ينجح في قلب معادلة تأنيث الشرق، التي صنعها المستشرقون، في شكل جذري. لكن لعبة السرد القائمة على معادلة العلاقة التكاملية بين الراوي الذي لا اسم له وبين بطله مصطفى سعيد، جعلت لعبة التماهي تدور في داخل الرواية نفسها، وحررت الرواية من نبرة السيرة الذاتية التي طبعت اعمال الروايات التي سبقتها.
قد يكون مصطفى سعيد هو إسقاطات الراوي، واحلامه التي لم تتحقق، وقد يكون الراوي هو الوجه الآخر لمصطفى سعيد. قد يكون الاثنان واحدا، وقد يكونان شبحين متوازيين. لكن العلاقة بينهما تحرر النص من تبعات الواقعية، وتسمح له بتجاوز البعد السيكولوجي من دون اسقاطه في شكل كلي. يصير النص مسرحا للعبة الخيال التي لا يحدّها الواقع الذي تنطلق منه، وتصير النساء الضحايا استعارات ورموزا، ويصير موت البطل او انتحاره غرقا، جزءا من صرخة الراوي وهو يتخبط في الماء طلبا للنجدة.
الانضباط والتوازي، هما اساس البناء السردي. يولد السرد من الحكاية، بحيث يستطيع ان يتطور كي يصوّر الواقع وكأنه خرافة، من دون اللجوء الى الخرافات القديمة. خرافته الجديدة هي كيف اخترع الغرب شرقه، كما كتب ادوارد سعيد في “الاستشراق”. مصطفى سعيد يخترع غربه والراوي يعيدنا الى الشرق الواقعي، حيث لا تكون الخرافة الا حكاية، حتى ولو قادت الى جريمة مرعبة في القرية السودانية. ما يجري في القرية بعد انتحار مصطفى سعيد، هو تكرار واقعي لحكاية البطل الغرائبية في الغرب. الجريمة الرمزية التي ارتكبها الطالب السوداني في لندن، عندما قتل جين موريس، تتحول جريمة حقيقية في القرية، عندما تقتل ارملة سعيد ود الريّس، التي اجبرت على الزواج به، قبل ان تنتحر.
الدم في لندن كان رمزيا في حكاية عجيبة، اما الدم في الريف السوداني، فكان حقيقيا في رواية واقعية.
هذان المستويان صنعهما المثنّى في اعظم نص سردي انتجه العرب، “الف ليلة وليلة”. نتكلم في العادة عن المثنّى في الشعر، من مثنّى امرئ القيس الى مثنّى محمود درويش، لكننا نتناسى ان الحكاية الاطار في “الليالي”، بنيت بالمثنّى: شهريار- شاه زمان، شهرزاد- دنيازاد، وان مثنّى الاطار ينسحب على الحكايات ايضا، ليصل الى ذروته في السندبادين.
مثنّى الطيب صالح يستعير البنية الاساسية للمثنّى الكلاسيكي، باعتباره تجسيدا لعلاقة الانسان بظله او احتماله. نستطيع ان نقوم بعملية مقارنة بين مصطفى سعيد والراوي لنكتشف ان تكاملهما الذي يحولهما الى مثنّى يُبنى على علاقة المعلوم والمجهول في شخصيتيهما، ما نعرفه عن احدهما نجهله عن الآخر، بحيث لا بد لنا من جمعهما كي نعثر على شخصية مكتملة. غير ان هذا لا يعني ان الشخصية لا تقوم بذاتها، وهنا يقع سحر المثنّى، الذي تشكّل كترسيمة تأسيسية في الادب العربي.
اخذنا الطيب صالح الى سحر الكتابة السردية، مما جعل الكثير من النقاد يعتبرون “موسم الهجرة” بداية لما يطلقون عليه اسم الرواية ما بعد المحفوظية. وهم محقّون في ذلك، على الرغم من ان الطيب صالح بقي عند حدود سحر السرد، وترك الدخول الى العالم السحري لروائيين من اجيال لاحقة.
لن يعني موت الطيب صالح شيئا لمصطفى سعيد. اكتشف بطل الرواية، بعد موته، ان الموت الجسدي لا يستطيع ان يؤثر على مسار الإبحار المستمر في الكلمات، او على الحكاية التي يعيد القراء تأليفها مع كل قراءة. لكن موت هذا الكاتب الكبير، الذي وصل الى الثمانين، وسئم “تكاليف الحياة”، سوف يترك فينا نحن الذين لسنا ابطالا للروايات، الكثير من الأسى.
الموت حق، نقول. لكن من حقنا ايضا ان نحزن، ونستعيد كلمات المتنبي، في وداع صاحبنا:
“نعدّ المشرفية والعوالي
وتقتلنا المنون بلا قتالِ
نودّع بعضنا بعضا ونمشي
اواخرنا على هامِ الاوالي”.
ملحق النهار الثقافي