الطيب صالح: ملحمية التجربة والحنين الدائم للطفولة ومواجهة القاتل في قلب الامبراطورية
ابراهيم درويش
يصف الاديب السوداني الراحل الطيب صالح (1929 – 2009) كيف وصل لندن في خمسينيات القرن الماضي وكيف عاش تجربة البرد التي لم يكن يعرفها في بلده الاصلي وكيف ان تجربة البرد ادت به للحنين الى وطنه، ناسه واهله في السودان.
كان ذلك في عام 1953 حيث يقول انه وجد نفسه امام موجة برد لم تعانيها بريطانيا منذ فترة طويلة، ويتحدث كان البرد يتسرب الى كل جسده والى اسنانه التي اخذت تصطك ‘لسعني البرد واحسست بزمهرير داخلي وكيف بدأ يلوم نفسه على قراره والحظ العاثر الذي جلبه للندن. جاء للعمل في ‘بي بي سي’ ولم تكن له خبرة في العمل الاذاعي وشعر انه وقع في ورطة. وفي جو لندن البارد ووحدته القاتلة في مدينة غريبة بدأ صالح يحن الى دفء عائلته وبلده وعشيرته وعندها كتب قصته القصيرة ‘نخلة على الجدول’ القصة التي ضمنها مجموعته القصصية ‘دومة ود حامد’ ويواصل صالح تذكره عن لحظة الوصول والصدام مع لندن كما ورد في كتاب طلحة جبريل ‘على الدرب: مع الطيب صالح ملامح من سيرة ذاتية’ (1995)، انه عندما يعيد قراءة القصة كان يتذكر انها ولدت ببساطة في لحظة حنين لوطنه. والقصة جاءت نتاج تعبير عن الحنين من خلال مناخها ومحاولة استعادته. لندن التي واجهها صالح ستظل مركز حياته وصراعه مع الافكار وبناء الشخصيات، فقد عاش فيها اكثر مما عاش فيها بطله مصطفى سعيد ‘موسم الهجرة للشمال’، ولم يعد مثل سعيد الى السودان الا زائرا عاديا للعائلة ام ما تبقى منها، ومحاضرا في مرات اخرى لكن سعيد مثل صديقه منسي يوسف بسطاروس في روايته / مذكراته عن تلك العلاقة ظل سودانيا وريفيا من السودان يعيش في قلب لندن لانه كما يقول ظل يحمل التجربة الريفية في داخل، القرية تجمدت في عقله وتحولت لنوستالجيا، والاسى الوحيد الذي حمله طوال حياته ان تجربته وذكرياته عن قريته و’ناسه’ لن تعود ابدا او لم تعد اليه وهو حي. وهو كما تشي شخصياته وابطاله ظل متجذرا في الخصوصية السودانية مع انه عاش في عاصمة الامبراطورية السابقة وتزوج منها جولي ماكلين (اسكتلندية) عام 1965 وخلف ثلاث بنات (زينب وسميرة وسارة).
روايته ‘موسم الهجرة للشمال’ اعتبرها الناقد ادوارد سعيد واحدة من اهم ست روايات في الادب العربي وبحسب تصنيف عربي اهم راوية في القرن العشرين. وان عاش صالح معظم حياته في لندن فقد كانت المدينة في مركز روايته او مواجهته مع تراث الامبراطورية في روايته ‘موسم الهجرة الى الشمال’ التي اعتبرتها صحيفة ‘اوبزيرفر’ اللندنية عند صدور ترجمتها للانكليزية الجميلة التي قام بها دينيس ديفيس جونسون، انها نسخة جديدة من الف ليلة وليلة ولكنها اوروبية وليست عربية، كانت معركة صالح مع الامبراطورية، فبطله سعيد اراد ان يستعيد كرامة ابناء افريقيا عبر الانتقام جسديا وروحيا من بنات لندن في سلسلة من العلاقات الجنسية التي كانت تؤدي الى انتحار الواحدة بعد الاخرى بعد ان يتركها سعيد متحركا نحو صيد ثمين جديد.
وموسم الهجرة جاءت في ظروف الاستقلال وما بعد الاستعمار ومن هنا يرى فيها ادوارد سعيد رحلة معاكسة لبطل جوزيف كونراد ‘قلب الظلمات’ فيما يراها نقاد اخرون رواية عن اللقاء بين الشرق والغرب جاءت في مرحلة انتهت فيها روايات الالق والصدمة التي قدمها روائيون عرب منذ مفتتح القرن العشرين، مع وجود اختلافات بين مصطفى سعيد وابطال روايات سهيل ادريس ويحيى حقي وتوفيق الحكيم، وترى سلمى الخضراء الجيوسي في ‘انطولوجيا الرواية العربية’ ان الكتابة الذكورية عن اللقاء او المواجهة مع الغرب كان مع صدور ‘موسم الهجرة للشمال’ في مراحله الاخيرة ثم اخذت الراية الروائيات العربيات من الرجل العربي. لكن الرواية هي ابعادها التفسيرية وطابعها، جوها وموضوعها تمثل لدى نقاد اخرين صورة عن ‘الصدام’ الحضاري كما يرى رشيد العناني، وقد تكون جامعة بين الصدام واللقاء الرومانسي، اذ ان بطل الرواية في علاقاته الاولى حاول ان يستعيد او يستغل الرؤية الرومانسية للعلاقة بين الشرق والغرب، باستحضار كل الكليشيهات التي زرعت في عقول الغربيين عن الشرقيين، وتحويل غرفته في لندن الى قطعة من سحر الشرق وشهوته، ولكن الصدام جاء في الجزء الاخير من العلاقات، وتحديدا مع جين موريس التي كانت تمثيلا للصدام، فبدلا من ان تكون الغرفة ساحة للرومانسية والشهوة في اعلى تجلياتها تحولت لميدان حرب جلبت الدمار اخيرا على هذا المثقف الافريقي، فسعيد كان يفاخر انه يريد ان يحرر افريقيا بـ (….) انتهى غارزا الخنجر بين ثديي عشيقته التي كانت تدعوه للرحيل معها. وهنا معنى الصدام الذي جاء بعد اكتشاف سعيد انه لم يكن جزءا من الامبراطورية ولا ثقافتها الحقيقية بل كان مثقفا تجاوز حدود الدور المطلوب منه، فلو ظل كما اريد منه ان يكون محاضرا وعلامة على نجاح المشروع الامبراطوري لبقي في مركز الاحترام لكنه عندما اتخذ قرار المواجهة ‘الجسدية’ كان يكتب قرار دماره بنفسه ومن هنا نرى في رحلة التمنع والملاحقة التي تمت بين سعيد وموريس، لاحقها 3 سنوات وعاش معها شهرين وكانت من قادته الى شاطئ الهلاك لان كل واحد منهما لا يريد الاخر ولكنه يسعى وراءه وعندما تستسلم سيمور له تستسلم مجبرة ويبقى هو معها مجبرا، وكأن العلاقة بين الطرفين قدر لا مفر منه، ومن هنا كانت النهاية التراجيدية للعلاقة بالقتل الطقسي. يظل نص الطيب صالح من اكثر النصوص انفتاحا على التفسير خاصة فيما يتعلق برائعته، وتظل موضعة الراوية وتفسيرها ضمن تقاليد دراسات ما بعد الامبريالية مهما لانها جاءت بعد الاستقلال وفي ظل صعود الحركات القومية في البلاد المستعمرة سابقا المستقلة حديثا. ولكن مصطفى سعيد يمثل في النهاية ثقافة الفترة الامبريالية فهو مقطوع الجذور بالتراب الوطني وهو نتاج ثقافة الاستعمار التي ظل يعيش على هامشها ثم تمرد عليها. ومن هنا فان طبيعة وتركيبة مصطفى سعيد النفسية وعلاقته بامه هي علاقة اشكالية وهو شخصية باردة فيما يتعلق بالعلاقات الانسانية، عندما ودع امه ‘لا دموع ولا قبل ولا ضوضاء، مخلوقان سارا شطرا من الطريق معا ثم سلك كل منهما سبيله’ ولما بلغه نبأ وفاة امه كان مخمورا مع امرأة ‘لم اشعر بأي حزن. كأن الامر لا يعنيني من قبل او من بعد’، ويبدو حتى في علاقاته العاطفية آلة تتحرك في كل الاتجاهات وكل ما حاول بلورته عن الصحراء والجمل الذي يركبه والسحر الشرقي كذب واستخدم التلفيق كاستراتيجية ليجذب الانكليزيات لعشه في قلب لندن حيث يخرجن منه حاملات ‘جرثومة قتل’ عمرها الف عام.
1898 ـ 1956
وتجب الاشارة الى ان مصطفى سعيد ولد في العام الذي قضى فيه لورد كيتشنر على الدولة المهدية (1898) ومات غرقا في النيل عام 1956 اي عام استقلال السودان فحياته تمثل كل التجربة الاستعمارية بحلوها ومرها، فهو نتاج التعليم الاستعماري الذي كان ابناء الوطن ينظرون اليه بنوع من الشك ويتعاملون معها كشر. ذلك ان سعيد تعلم عن الغرب وثقافته من خلال السيد والسيدة روبنسون اللذين تبنياه وقدماه للثقافة الغربية التي ظل يعيش على هامشها. على العموم تشي مغامرات بطل موسم الهجرة على الاقل الاولى منها ان نساءه اللاتي اصطادهن كن من مخلفات قطاعات المجتمع البريطاني، كن من ‘سالفيشين ارمي’ ومن الجمعية الفابية ومن طائفة الكويكرز ومن الليبراليات والمحافظات ومن الحزب العمالي، كلهن جئن الى غرفة السحر، شيلا غرينوود، وآن هاموند وايزابيلا سيمور (كانت متزوجة) وكلهن ينتحرن بعد ان تركهن الساحر الشرقي الا واحدة وهي جين موريس التي لم يغرها سحر الفارس الاسود وبدأت بدلا من ان يدمرها بتدميره، فغرفته الشرقية صارت ساحة حرب. لم يعد البطل هنا قادرا على ممارسة السحر، لقد فقد التعويذة وبدلا من أن يظل الصياد صار الطريدة التي تريد موريس تدميرها. يلاحظ كل من كتب عن تجربة ‘موسم الهجرة للشمال’ انها تمت داخل مدينة لندن التي تمثل بقصورها ومتاحفها وعماراتها ومدارسها مركز الامبراطورية، والمدينة نفسها تمثل المرض الذي اصاب عشيقاته وانتحرن قد اصابه الان. ولكن هو نفس المرض، المرض الذي اصاب سعيد هو الاستعمار وهو الذي صدر لبلده وللبلاد الاخرى العنف الاوروبي. وتحفل الرواية بالاوصاف التي انتجت االاستعمار الذي جاءت قواربه تحمل السلاح والقتل. وفي تجربة مصطفى سعيد في السودان المستعمر فانه يشعر بالاهانة التي يحاول ان ينتقم لها عبر الجنس وهي الاطروحة التي استكشفها ديريك هوبوود في كتابه ‘مواجهات جنسية في الشرق الاوسط’ (1999) حيث يرى ان مصطفى سعيد الذي عاش في السودان التي كانت تحت الاستعمار البريطاني ومع وصوله للندن شعر بالتشوه وقرران الطريقة الوحيدة هي الانتقام، وغزو اكبر عدد ممكن من النساء وبهذا كان يضرب اسياده المستعمرين في اضعف نقاطهم. لكن مصطفى سعيد يمثل في النهاية الغرسة الاستعمارية التي لم تجد لها جذورا في اي مكان، فحس العزلة والتشوش اللذان قاداه للانتقام صاحباه الى بلده السودان بعد قضائه فترة سجنه السبع سنوات. لانه يظل عقلا بلا روح وكما احد المحلفين كان شخصا استوعب الحضارة الغربية لكنها حطمت قلبه. مع ان هناك رأيا يرى ان بطل موسم الهجرة بعد عودته حاول ان يكون انسانا منتجا عندما تزوج واشترى ارضا وزرعها، وانجب ولدين. تظل مدينة لندن ساحة لكل المعارك والافكار في موسم الهجرة للشمال ومركزا للشرور والاثام التي ارتكبتها الامبراطورية وبدلا من أن تكون محلا للاقامة والتماهي مع المشروع لعبت دور النقيض وصارت مكانا للعزلة والتهميش، كل ما فيها يذكر سعيد بعزلته، نظامها، حركة سكانها الروتينية، لونه الاسود، وبرد المدينة الذي ينخفض لادنى الدرجات في شباط، مما يجعل الحياة في المدينة بوتيرة واحدة الصباح مثل المساء والمساء كئيب مثل الصباح. في نص بديع يقول:’ ثلاثون عاما وقاعة البرت تغص كل ليلة بعشاق بيتهوفن وباخ. ثلاثون عاما وانا جزء من كل هذا، اعيش فيه ولا احس بجماله الحقيقي، لا يعنيني الا ما يملأ فراشي كل ليلة’. لم يكن سعيد قادرا في النهاية على ان يكون شكلا للتوازن بين الشرق والغرب، كان يمثل المسخ الذي صنعته الامبريالية وكان الدليل على ان الشرق هو الشرق والغرب هو الغرب ولن يتلقيا بالمعنى الكبلينكي. وليس غريبا ان تكون الصرخة الاخيرة في الرواية هي طلب المساعدة.
هجرة معاكسة
بالعودة الى تحليل اداورد سعيد الذي جاء ضمن خطاب المقاومة والمعارضة ورد الخطاب العنصري بخطاب اخر، يرى الناقد الفلسطيني ان رحلة مصطفى سعيد للشمال كانت ‘هجرة’ وهي هجرة معكوسة بالمعنى الكونرادي، حيث حل النيل محل نهر الكونغو في قلب الظلمات، وصار سعيد معادلا لكرتيز، الذي يتكلم العربية ويتكئ هنا على القرية التي تصبح مسرح انتحار مصطفى سعيد. الرحلة هنا معاكسة من الجنوب للشمال ولكنها بدلا من استعادة ما اخذه الشمالي الراحل للجنوب تقدم عوضا ذلك صورة عن التناقض بين العالمين اضافة لتعقد الصورة. تدور رحلة مصطفى سعيد في لندن العشرينات من القرن الماضي حيث وصلها وكان عمره لم يتجاوز الرابعة والعشرين.
بندر شاه والاخرون
شخصية سعيد هي الاشهر من بين مخلوقات صالح الروائية لكنها ترتبط بعدد من الشخصيات الاخرى التي تتمثل فيها النزعة الاسطورية، التي تحل القرية المركز الاهم في اعمال صالح وتحدث فيها تغيرا للايجاب والسلب لكن كل التغيير يبدو مرهونا في اعماله بقوة خارقة، قوة صوفية وروحية سماوية على الرغم من رؤيتنا لمشاعر وقسوة سعيد الا انه مرتبط بهذه النزعة التي تحدث الاضطراب في ماء القرية الساكنه وهنا نعني ود حامد. ويهتم صالح بهذا المظهر وهو الذي حاول استكشافه بعمق عبد الرحمن الخانجي في كتابه ‘قراءة جديدة في روايات الطيب صالح’ (1983) الذي اجده من انفع الكتب في تحليل سمات الشخصية، والشخصية الدائرية والاداء الطقسي والبعد الروحي عند كاتبنا، فعلى الرغم من الكتب الكثيرة والدراسات التي اهتمت بتجربة الاديب السوداني الا انني اعود لهذا الكتاب كثيرا لانه يحمل قراءة وتحليلا لابعاد التجربة ويشير الخانجي الى ان الوافد الغريب اما يجلب ‘الشر’ سعيد او ‘الخير’ كما في حالة ضو البيت لكن ما يشير الى ان كل التغيير على كل الوشائج باعتبار القرية ‘الجنة المفقودة’ عند صالح وعالم البراءة الخالص، كل الشخصيات الوافدة هنا تحرك سكون المكان وتصبح مركز الرحى من بلال الى بندر شاه. ما يشير اليه الكاتب ان هناك توالدا وعلاقة نسبية بين شخصياته الروائية، اضافة للبعد الروحي، الذي يكشف عن ايمان بالمخلص الصوفي ‘فاض بنا الشوق وتملكنا الوجد وكأننا في حلقة ذكر..’ وتتنوع الشخصيات بتنوع ادوراها وبعضها لديه القدرة على بناء نفسه وتشكيلها. وبعضها في المركز ونقيضه، تمثل الخير كله كما ‘الزين عرس الزين’ واخرى الشر كله كمصطفى سعيد شخصية ‘كلها عقل وليس لها اي قلب’ وبعضها في المركز ونقيضه، تمثل الخير كله كما ‘الزين عرس الزين’ واخرى الشر كله كمصطفى سعيد شخصية ‘كلها عقل وليس لها اي قلب’، ذلك ان الاخير وحتى في لحظة من لحظات ضعفه مع سيمور انكره فيما بعد. احتفى الطيب الصالح بالاداء الطقوسي وتداخل الحقيقة بالواقع وهذا ناجم عن رؤيته الصوفية، فعبر تداخل الازمنة بين الصحو والسكر والحاضر والماضي كان يطمح الى بناء مصالحة تصل الى مداها في المشهد الرهيب الرائع في عرس الزين، الذي كان مهرجانا للفرح جمع كل اطياف النسيج الاجتماعي وتلي فيه القرآن ورقص فيه الشباب، صفق موسى الاعرج وغنت عشمانة الطرشاء كل المؤمنين والفاسقين كلهم اجتمعوا ‘تحت السماء الجميلة الرحيمة أحس اننا اخوة جميعا’. وتبدو المشاهد الطقسية في ذروتها البالغة في تصوير في مشهد مقتل سيمور وموت بلال في مريود فقد جعل الموت في افواههم كمذاق العسل. كان الطيب صالح ابن السودان وثقافته المتنوعة وصوفيته الضاربة وعبر عنها في نثر يشبه الشعر. وهو لا يرى انه كان ملتزما بالادب كل ما اراده في تجربته انه حاول اضفاء طابع ملحمي ‘اسطوري’ كما فعل هوميروس على المكان السوداني، وعولمته ثقافيا. والملاحظ ان شعرية اللغة عند صالح تنبع من انه يقول انه جاء للكتابة الروائية والقصصية بالمصادفة وكأي عربي شمالي ادمن على شعر المداحين وقصائد الشعراء المحليين حلم بان يكون شاعرا.
على العموم فحياة الطيب صالح تحركت بين عالمين او محورين: الاول محور القرية التي عبر عنها في مجمل رواياته فقد حول قرية ود حامد الى معلم عالمي عبر نثره الساخر والغرائبي اضافة للمحور الاخرعالم المدينة ‘ميتروبوليس’ التي عاش فيها معظم حياته، اي لندن باستثناء فترة في قطر عندما عمل في وزارة الاعلام فيها. وهذان المحوران مهمان في تحديد طبيعة كتابته وموقفه من القديم والجديد والتقاليد، فقد كان ملتزما بالتقاليد ومحبا لها وكان منفتحا على الحياة والثقافات فالى جانب ولعه بالتراث العربي كان مبرزا فيما يعرف بالصحافة الادبية او فن المقالة الادبية التي حاولت الدخول اكثر في تفاصيل معالم ادبية وفكرية وسياسية وفلسفية بطريقة اعمق من المعالجة الصحافية السريعة، يظهر هذا في قراءاته لحنا ارندت والمتنبي، ومعالجته لكتاب المؤسسين في الثقافة الغربية مثل قراءته العميقة لكتاب ‘الديمقراطية’ في امريكا لالكيس دي توكفيل، وملحمة شاكا الافريقية ومشاهداته في المدن والرحيل، وملاحظته الساخرة عن القوادين في بانكوك والسياح اليابانيين الذين لا يعرفون المكان بدون التقاط الصور له.
مع السياسة
كان صالح منفتحا، ليبراليا في السياسة لم ينتم الى اي حزب سياسي وخرج من منظومة التقسيم الطائفي، الاتحادي والامة اللذين طبعا السياسة السودانية، وتقليديا تنتمي عائلته للحزب الاول الذي يمثل الجماعة الختمية، ولكنه مع وصول الجبهة القومية الاسلامية السودانية للحكم كتب مقالا اعتبر قاسيا ومؤدبا وتحول لمنشور سياسي ‘من اين جاء هؤلاء؟’. وتظل السياسة في السودان تحمل عناصر التسامح والغفزان لان ما يربط سكانها الولاء للعائلة والدين في تقاليده الاولى، الصوفية ولهذا لم تجد السلفية في قطاعاته موطئ قدم الا بقدر وظلت الخلاوي والمسيد تخرج وتعمل وتدرس القرآن، ويحكي الطيب صالح ان بلدته تاريخيا كانت مشهورة بالعلم والعلماء وفي منطقته كان اكثر من مئة حافظ للقرآن. وهو وان تجاوز السياسة الا ان السياسة ربما فرضت عليه التعليق عليها ولكن موقفه يظل متسامحا وعقلانيا ففي ندوة شارك فيها حول كتاب سلمان رشدي قال ان روايته كان من الممكن ان تمر بدون ان يلاحظها احد وتدخل ادراج النسيان لولا الفتوى الايرانية وكان يعتقد ان الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان حيا لاعطى الكاتب حريته.
يظل السؤال الحاضر ان حنين صالح للحياة الاولى جعله متمسكا بالغربة ولم يعد مفضلا التنقل بين المدن والمرافئ المتغيرة. وهو يرى ان عمله الروائي المهم لم يكن بأية حال ‘موسم الهجرة’ بل كان ‘بندر شاه’ الذي لم يكمله. وفي تواضع السودانيين ورغم معرفته وعيشه في قلب الثقافة العربية يرى ان كل ما كتبه لا يعادل قصيدة للمتنبي ‘قصيدة واحدة للمتنبي تساوي كل ما اكتبه واكثر’.
اسهام الطيب صالح في الثقافة العربية مهم والتذكير به وتذكره ايضا مهم وحمل في ثقافته كل ما هو افريقي ـ اسلامي وعربي ‘وجهي عربي كصحراء الربع الخالي ورأسي افريقي…’. في النهاية يذكرنا الطيب صالح في رحلته بابيات لصلاح احمد ابراهيم ‘يا طير الهجرة يا طائر… لكن الطير مضى لم يفهم ما كنت اغني’ واخرى لمحمد الفيتوري ‘عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق، مملوكك لكني سلطان العشاق’. وبكلمات في ‘مريود’: ‘هل كان الطريقي يدرك وهو ينوح على حافة القبر، اي ثمن باهظ يدفعه الانسان حتى تتضح له حقيقة نفسه وحقيقة الاشياء’. رحمه الله.
كاتب من اسرة ‘القدس العربي’
القدس العربي