عسل الألم
وائل كريم
ليس من الصعب أن يكتب القارئ المتفحص مقالاً جوهرياً عن شاعر من طراز بسّام حجار. لكن من الصعب جداً أن يشيّد هذا القارئ مسافة بين الآخر والأنا، بين الموضوعي والذاتي، تتيح له أن لا يرى سوى القصائد وأن لا يتمعن إلاّ فيها. كان ليكون طبيعياً على المستوى النقدي أن يختطّ الناقد، كل ناقد حصيف، مثل هذا التشييد البَوني، لأن للقصائد حياتها، وهي حياة نفسها، وليس لها حياةٌ ولا صاحبٌ إلاّها. لكنْ، كيف يستطيع هذا القارئ الحصيف أن يكشط اللحم عن العظم، المادة عن الروح. كيف يستطيع أن يقول للهواء أن يتحرر من فضائه، وأن يقيم بمعزل عن هذا الفضاء الخلو. كيف يستطيع أن يكون، وهو لا يكون إلاّ في “جسمه” الفَضَوي هذا. كيف يقدر أن يبعد الخيال من نومه، وعنه، وأن يحذف المرآة من المرآة، والوجه من الوجه. كيف له أن يقول لبسّام حجار: ابتعد الآن عن قصائدكَ، وامحُ عن أجسامها، أجسام القصائد، وجهكَ، ملامحكَ، أنفاسكَ، أطيافكَ، حياتكَ، أيامكَ، لياليكَ، أحلامكَ، تفاصيلكَ، أشياءكَ، كوابيسكَ، مأسويتكَ، ورؤياكَ، لكي نرى القصائد، وحدها، أجساماً وأرواحاً، بمعزل عنك.
كم يصعب ذلك. لكن ذلك لن يكون مستحيلاً على الشاعر.
قلائل هم الشعراء الذين تصير قصائدهم هويات شخصية لهم، بعدما خطّت بسطورها هوياتهم الشعرية. أقول “قلائل”، لأنها لمغامرةٌ نادرة أن تكون القصائد على هذه السوية الحياتية، سوية اللحم على العظم، وأن تكون في الآن نفسه أعمالاً خلاّقة، وتتخطى ذاتها باستمرار، متوغلة داخل الأشياء الحميمة التي لفرط هشاشتها تصير كأنفاس العدم نفسه. ذلك أن الانسراب في اللحم الحيّ للقصائد، عند هؤلاء القلائل، قد يحمل القارئ على الخشية من احتمالات “البوح”، “البوح” الذي قد يستولي على الكلمات فتصير أسيرته، ويروح هو يبتزّها، لتكون مرآته وصنوه. لكن القارئ يدرك على الفور كم أن هذه الخشية في غير محلّها، عندما يُعطى للقصائد أن تكون كل “البوح” وخلواً منه في آن واحد. حتى كأن لا تفاصيل يُباح بمكنونها، ولا أحوال، ولا أشياء، إنما هو الشعر وحده، أعزل إلاّ من لغته، محمياً بحرارته الداخلية، التي تتيحها له حياة القصائد. حياة القصائد ليس إلاّ. فذلك “البوح” الحياتي سرعان ما ينقلب على ذاته، ضدّ ذاته، ليصير نوعاً من الحلول الإبداعي في القصائد، حتى ليستحيل العثور على أشياء الحياة إلاّ مندرجةً في طيّات اليأس الوجودي للقصائد وفي حماية لعناتها الأليفة. آنذاك تصبح هي حياة الشعراء القلائل برمّتها. فلا حياة لهم إلاّ فيها. وما الحياة، حياتهم، التي تعاش خارج هذه القصائد إلاّ محض أطياف خافتة، خجولة، حيية، منسية، بل حتى ممحوة، لتلك الحياة الشعرية المشار اليها. لا العكس. بل كأن القصائد هي فقط حيوات هؤلاء القلائل، لا العكس. وما الحياة هذه، الحياة التي يعيشونها، بالتوازي مع حيوات القصائد، سوى ارتدادات للحياة نفسها التي تحياها القصائد.
وما أجمل ذلك. وما أقلّ. وما أندر.
بسّام حجّار هو واحد من هؤلاء الشعراء القلائل. لماذا؟ لأنه قد عاش القصائد حياةً مكتوبة. وإذا من حياةٍ قد عاشها حقّاً، فهي هذه الحياة بالذات، مرفوعةً على سروة اليأس الإنساني، مثلما ترتفع مئذنة مجروحة فوق مسجد، ومثلما يستضيء ليلٌ بليله. وهذا هو العيش كلّه شعراً. الألم كلّه شعراً. العدم كلّه شعراً. وليس من أدبٍ، ولا عيش، ولا ألم، ولا عدم، أبعد مراماً، وإصابةً للهدف، في رأيي، من مرام هذا النوع الشعري. فكيف إذا كان ذلك كلّه مضرّجاً بالمعجم الضئيل الخفر المتواضع الذي في المتناول، متناول الحواس، والعقل، وبالرقة الهشّة الأليفة، التي تجعل اللغة تنساب في مجراها رقراقةً كمياه الفلسفة واليأس الوجودي، ثم تتصاعد على جُلجلة الوجدان الأنيق، وتحرّر هذه اللغة، بل “تطهّرها”، من كل أثقال يومية، ومنزلية، وأرضية محتملة، هي أثقال “البوح” الذي يقتل القصائد ويهشّم عبقريتها، تلك التي تحضر بكامل عدّتها في محبرة هذا الشاعر. وبدون ادعاء.
لم يكتب بسّام حجّار سوى بضعة أشياء، بضع حياة، والتعب الخطير الكسول، التعب من الحياة حتى قبل أن تعاش. لكن الشاعر الذي يفعل ذلك، يكون قد أُعطي الجوهر الفلسفي، ويكون قد عاش هذا الجوهر، و”قبض” عليه، فصار ملك عيشه وكلماته، بحسب الرؤية التراجيدية للعيش وللكتابة. وآنذاك، هل من الضروري أن تكون الحياة “حلوة” لكي تُعاش؟ أعتقد أن لا. قطعاً. فالحياة “المرّة” تصبح ذات “حلاوة” تراجيدية بالشعر، أو بالأدب، أو بالفن مطلقاً، أو بالفكر، ومثل هذه “الحلاوة” تمكّنها من أن تمنح الحياة شرعيتها الخلاّقة المفارقة. وهذا ما فعله بسّام حجّار.
ينبغي للقارئ المتفحص أن يحب هذه الحياة “المرة” مثلما أحبّها هذا الكائن التراجيدي الخفر الذي عاشها، واستطاع أن يكتبها “حلوة” كما ليس للعسل أن يكون على هذا القدر من معسوليته الجارحة. هذا القارئ سيجد المتسع من الكلمات والقصائد عند بسّام حجّار، والتي من شأنها أن تكون هي الحياة. كاملةً ناضجةً ثم خارجةً على الموت، بالموت الذي يحيي.
بسّام حجّار خرج الآن من الحياة الدنيا الى الموت. لكنه كان على الدوام في الحياة الدفينة التي عاشها وماتها وكتبها… لتبقى مضاءةً بجوهر الكلمات بعد الممات. أليس هو نفسه وضع عنواناً لمجموعة مختاراته “سوف تحيا من بعدي”، بما يجعل هذا العنوان صالحاً ليس للشعر ولكن لتلك الحياة نفسها التي غدرت “مرارتها” به ليس قبل الأوان فحسب، ولكن طوال الأوان؟ ¶