أطفأ الضوء ونام
رامي الأمين
عندما كنت أعمل في الملحق الشبابي لجريدة “المستقبل” اللبنانية، كان بسام حجار في الطبقة الفوقية في مكان عمله، “ملحق نوافذ” الذي أحب. كان ينزل إلى الطبقة حيث مكاتبنا، ليضع قطعة نقدية في آلة صنع القهوة، وينتظر عند الباب حتى تنتهي الآلة من صنع قهوته. كان ينزل، هو وفادي طفيلي ويوسف بزي وحسن داوود كلهم إلى الطبقة الثالثة من جريدة “المستقبل”، ويقفون كما لو انهم في فرصة المدرسة. ينتظرون، ويتكلمون في السياسة غالباً. يوسف كان دائماً متحمساً للسياسة في تلك الفترة الحامية بعيد انتفاضة الإستقلال. بسام كان يصمت في الغالب. قليلاً ما كان يتكلم. يصمت وينتظر قهوته كمن ينتظر صناعة الروح. وكان يبتسم. تعجبه فكرة يقولها يوسف، أو تعليق يرميه فادي، أو طرفة يرويها حسن بطريقته الروائية البديعة، فتتغير ملامح وجهه وتنفرج أساريره. عندما تنتهي الآلة من صناعة القهوة، يحمل بسام كوبه وينسحب إلى مكتبه في الأعلى. ثم يلحق به يوسف وحسن وفادي. وأعود أنا مع الشوكولاته بالحليب خاصتي إلى مكتبي.
أذكر أنني ذات يوم طلبت إلى بسام أن يكتب لي نصّاً لزاوية “روح الشباب” حيث كنت أعمل. اتصلت به في مكتبه وقلت له: أريد منك أن تكتب عن شبابك. وقال ممازحاً: لا أذكر أنني كنت شاباً ذات يوم. وضحكت. بعد أيام أرسل اليَّ بسام نصّه الذي كان عنوانه “أذكر أنني كنت شاباً ذات يوم”. وكان نصّا جميلاً يتحدث فيه عن فرديته وعن عزلته وخروجه على الجماعة ونونها. أنقل هنا بعض ما جاء في ذلك النصّ الذي يصارع بسام فيه شبابه وكهولته على السواء: “في ذلك الوقت خُيّل إليّ أنّ تفرّق الجماعة، أو الأحرى افتراقي عنها وافتراقها عنّي، إنّما هو الدليل الواضح على تقدّمي في السنّ. طبعاً كنت أعلم أنني لم أبلغ كهولتي، غير أنني انصرفتُ طويلاً إلى قراءة نصوص هرمان هسّه الجميلة التي تمتدح الكهولة. بلى، أذكر أنني كنتُ كهلاً في ذلك الوقت. كيف لا يكون كهلاً اليوم من استحسن الحرب الأهلية عام 1975 وكان لم يبلغ العشرين بعد، وها هو اليوم يقبّح بوادر الحرب الأهلية وقد جاوز الخمسين، وبين التحسين والتقبيح أمضى عمراً من الحماسات العابرة والخوف المقيم؟”.
كان بسام حجّار مناهضاً لكل أشكال الصخب. ينزوي ويبحث عن ألوانه في الأوراق والكتب والكلمات. كان يكره الحروب والمتحاربين. يختفي ليختبئ منهم. يقول لهم: “اذهبوا إلى الحرب أو إلى الجحيم، فقط أغلقوا الباب وراءكم”. كان يبحث عن الهدوء والسكينة ليقرأ ويكتب ويترجم ويشاهد التلفزيون. عاش في المدينة وخارجها. لا أذكر أنني رأيته في حانة أو مقهى. كانت صيدا منفاه الطوعي، وبيروت يزورها كل يوم كما لو لمرة أولى. “المهم في المدينة التي لا تشبه المدن في شيء أنها ساحلية، وأنها على البحر المتوسط، وأني أقمت فيها قبل أن تصبح على ضفة بحيرة داخلية، وداخلية جدا، وربما بيروت أصبحت مثلها، أو في سياق أن تصبح مثلها، المهم أني عشت في مدن أعطتني أن أفكر مليا في سحر أن تكون المدينة مدينة، أي أن تكون فيها، مهما كنت، غريبا لا تلحظك إلا عين عابر” (“السفير”، مقابلة مع عناية جابر).
كان بسام حجّار يركض خلف التواري، وخلف الغربة التي تعطيه ثقته بنفسه، أن يكون غريباً يعني أن يكون موجوداً كفرد له كيانه الذي لا يمكن أن ينازعه عليه أحد. بسام حجار مدينيّ إلى أبعد الحدود (ما عدا الشجرة المستوحدة، أو السروة، كما يقول). كان يشبه هذا النوع من الاشجار، يستطيع أن يعيش وحيداً، منتصباً، يواجه الريح وحده، ويلامس السماء وحده، ويلتصق بالجذور وحده، من دون أن ينتبه أحد إلى كل هذه الإرتباطات التي تحكم شخصيته الحرّة. يعرف أن المدينة تكمن في الكتب والكلمات والأفكار، لا في الأبنية والشوارع وإشارات المرور. كان يبحث عن “مهن القسوة”، مهن الوحدة والألم والتعمّق والتفكّر. لم يكن مهتماً بالـ”ما قبل” والـ”ما بعد”، كان مسكوناً بالحاضر. عندما مرض بسام حجار كان الأصدقاء يتهامسون: السرطان سكن وجهه. وعندما طرد السرطان من خدّه (قبلة الموت)، قال الأصدقاء إنه نجا، وإنه سوف يحيا من بعده. كنا نسأل عنه كمن يسأل عن ظلّ أو طيف أو أغنية قديمة. نعرف أن الغد “مجرد تعب” ليس إلا.
بسام حجّار المترجم كان كاتباً خاصاً. كان يعيد كتابة النصوص التي يترجمها، بأحساس قويّ وبلغة متينة. أذكر أنني رأيته في الكثير من النصوص التي قرأتها من ترجمته. في “الوقت لا ينقضي” كان حاضراً مثل حضوره في “حكاية الرجل الذي أحب الكناري” أو “تفسير الرخام” أو غيرها من كتبه التي تحمل توقيعه.
كان شاعر الوقت والموت. كان مهجوساً بفتنة الوقت الذي لا ينفك يتعاقب عليه من دون أن يستطيع اللحاق به أو حتى التفكير في التغييرات التي تطرأ على الصور والأشياء والأشخاص والأمكنة. كان يكبر ويكبر ويبحث في ثنايا جسده عن آثار الوقت، عن تجاعيد الزمن الذي انسدل في شعره الأبيض الطويل. الوقت هو أحد “مشاغل الرجل الهادئ جداً”، المشغوف أيضاً بقراءة الروايات البوليسية وسير الممثلات والراقصات. كان ينسحب إلى دواخله أكثر، هارباً من الخارج البرّاني، بشيء من السلحفاتية في الإختباء والكتابة (كان يكتب ببطء، على ما قال فيه السيد هاني فحص). كان شاعراً بحقّ، يعمل على نصّه ولغته، يجرّب، ويفتح الكثير من الأبواب الموصدة. يكتب كمن يلتقط الصور ويجمعها في ألبومات (“البوم العائلة” أحدها). العائلة موجودة بقوة، الموت يصير فرداً من العائلة. الماضي أيضاً يحضر بقوة الغياب. الحياة، كما يقول بسام حجّار، تعيش في الماضي، لهذا نؤبّد اللحظات بالصور الفوتوغرافية، التي كان يفضلها بالأبيض والأسود خاليةً من ألوان الطيف.
الكتابة على عكس ما يتوقع، تشكّل لديه ارتباطاً بالعدم الفنيّ: “إلى الآن لا أدري إذا كان النص المكتوب الآن في مطلع القرن الحادي والعشرين هو أثر فني أم لا. في اعتقادي أنه لن يكون فنا إلا إذا كان أثرا وما أطلبه من الكتابة هي أن تكون محوا للأثر لأي أثر لكل أثر” (“السفير”، مقابلة مع اسكندر حبش).
كان يتحسس نفسه ويعرف أنه منهوب الملامح والألوان: “إن الشخص الذي يقف في ثيابي/ مثل باب أو حارس/ لم يفرد ابتسامة عريضة/ أو كفاً لمصافحة الوافدين”.
عاش بسام حجّار حياته بين الأمس الهرم والغد الشاب والطازج، الغد المسكون بالموت الذي لا يبالي به: “لا أبالي بي/ إذا متّ أمس/ أو اليوم/ أو اليوم الذي يلي/ ولا أبالي بي/ إن بقيت حياً/ لأيام/ لأعوام أخرى/ فلم يبق لي ما أصنعه برجائي/ بالشهوات التي تبقّت/ لم يبق ما أصنعه بمتّسع اليوم/ كل يوم”.
هكذا فسّر بسام رخامه. هذا ما أراد أن يكتب على شاهد قبره. الموت لديه “له كنيةُ الحلم لكنّنا نجهل هذه الكنية”، و”الحلم هو الختامُ اليومي للحياة، تمرينٌ بسيطٌ على الموت”. كان ينفي نفسه من أجل أن يؤكد لغته، حتى ولو كانت عابرة: “إنّي لا شيء وحديثي عابرٌ، مِثْلي، بين عابرينَ”. والقبور التي إلى جانب الطريق، “ولو غير آهلة – لا تسمّى قبوراً، بل مزارات”. كان يريد أن ينتحل الموت، كما انتحال بعض النصوص التي كان أحياناً يرغب في أن ينتحلها انتحالاً كاملاً: “هناك كتّاب قلائل تدعوني نصوصهم إلى ارتكاب مثل هذا الانتحال. قد يكون بورخيس أولا ومن بعده فرناندو بيسوا ولكن، هناك آخرون أيضا من المعاصرين الأحياء الذين نقرأهم بشغف من يكتشف الكتابة للمرة الأولى ودائما للمرة الأولى” (“السفير”، مقابلة مع اسكندر حبش).
المفتون بالترجمة واللغات، كان يطمح إلى ترجمة الموت، ذي اللغة الباردة كبلاطات الأضرحة. حاول أن ينحت شعره على الرخام، وعلى الصخور، وعند مفترقات الطرق. لكن الموت وجد ترجمته فيه. كانا يبحثان أحدهما عن الآخر، بسام وجد الموت، والموت وجد بسام. تعانقا تحت السروة المستوحدة. تبادلا أطراف الحديث، سأل بسام عن الطقس والغيوم والطيور المهاجرة، والموت سأل عن اللغة والشعر والحياة العصيّة على البقاء والإستقرار، المسكونة بالرحيل الدائم إلى عوالم ما بعدها عوالم. كان بسام يستحضر الموت إلى نصوصه، موت الأب (الذي أحب الكناري) والأخت التي رثاها بأجمل ما يمكن، في ديوانه الأخير “تفسير الرخام” الذي احتفى فيه بالموت.
بسام حجّار مات. لا لم يمت، أطفأ الضوء ونام. هاتفني عقل العويط صباح الثلثاء وأنبأني بنومه الأخير. أوقفت السيارة جانباً لدقائق. كانت سلمى مصفي تغنّي من ألحان زياد الرحباني: “مدام أحلى وردة بتموت، والطير مهما علا بيموت، ليش تا هالحب ما يموت… بيموت”. رحت اخفض الصوت رويداً رويدا حتى اختفى. اغمضت عينيّ لبرهة وتذكرت وجه بسام. ورأيت ابتسامته تلك التي كانت ترتسم على وجهه بعد أن يحصل على قهوته الصباحية من الآلة ¶