قراءة هادئة ومسؤولة للصراع العربي الإسرائيلي والتسوية
حازم نهار
أمعنت إسرائيل في عدوانها الأخير على غزة والشعب الفلسطيني في ممارسة هوايتها المحببة في قتل الأطفال، غير عابئة بالقوانين الدولية الإنسانية، ولا بأبسط حقوق الإنسان، فضلاً عن استهتارها بأمة كاملة تعدادها يزيد عن الثلاثمائة مليون، تسمى في عرفنا “أمة العرب”.
هذه الأمة التي اكتفى بعض حكامها بالدعم الكلامي الذي لا يقدم ولا يؤخر، وبعضهم الآخر وقف منتظراً رحمة إسرائيل وتكرمها بإعلان وقف إطلاق النار، أو بالأحرى وقف القتل.
بعد أن هدأت نار القتل نسبياً تسابق “الشطار” من العرب – كالعادة – من الحكام والمحكومين، من الأحزاب والمقاومات على حد سواء، في إعلان الانتصار المظفر على إسرائيل !!!
كانت حصيلة “الانتصار المبارك” على إسرائيل: هدم غزة على رؤوس أهلها، ومقتل وجرح حوالي 7000 فلسطيني، ووجود حوالي 40000 فلسطيني في العراء ينهشهم الجوع والبرد، ونشر الخوف والرعب في نفوس أطفال غزة، وتمزق الجسد السياسي الفلسطيني، وغياب الحد الأدنى من التضامن العربي أو التوافق العربي، وعجز الشارع العربي عن الرد، بالحدود الدنيا، على الصلف الإسرائيلي …
إذا كان هذا هو الانتصار عند حكامنا وأحزابنا وحركاتنا وشعوبنا، فإننا نخاف أن تتكرر هذه الانتصارات !!!
-1-
مع كل عدوان إسرائيلي جديد علينا، نتلمس بوضوح أن الهزيمة العربية أمام المشروع الإسرائيلي مازالت تتعمق وتتكرس. يقيناً أنها ليست “الدولة الفلسطينية”، التي لم تولد بعد، وحدها هي المهزومة، كما ليس الشعب الفلسطيني ، بكافة تلويناته وحركاته وقواه، وحده المعني بهذه الهزيمة المزمنة.
كل دولنا ومجتمعاتنا، حياتنا، وأحلامنا تعرضت منذ قيام هذه الدولة المصطنعة للهزيمة وما تزال. مشهد الهزيمة يتكثف في اتساع الهوة على الدوام بين قوة العدو وقوتنا، وحالياًً لم نعد نشكًل أي خطر جدي على هذا العدو.
من جديد: هذه الهزيمة المزمنة أو العجز العربي حيالها، ليسا أمرين عصييًن على الفهم إذا ما عدنا إلى تاريخ نصف قرن من الصراع العربي-الإسرائيلي، الذي يؤكد في كل لحظة على تمفصل وتراكب “لا عقلانية السياسة العربية” مع “التأخر التاريخي العربي”، الذين يهيئان باستمرار مناخاً ملائماً لولادة هزائم جديدة. وهو ما يتيح القول أن “القابلية للهزيمة” كامنة في ثنايا الواقع العربي بكل مستوياته وحيزاته، وأننا سنظل عرضة لتلقي هزائم أخرى، مادامت هذه “القابلية” راسخة الجذور والأركان في واقعنا.
هذه الانطلاقة في التحليل، لا تدفع، كما يتصور البعض، إلى “التعمية” على الأسباب المباشرة للهزيمة و”تضييع” تفاصيل الهزيمة. بل لأن هذه الانطلاقة كامنة في كل تفاصيل وحيزات الهزيمة، ولأنها تدفعنا إلى التفكير بعمق ومسؤولية أكبر، ولعلها تقودنا إلى الارتقاء بوعينا وامتلاك رؤية واسعة الاتجاهات، تحل محل الأوهام والرؤى والتصورات التي استبدّت بنا طويلاً، والتي تقلل من حجم مشاكلنا وبلايانا، ومن العمل المطلوب لمواجهتها.
شكًل تأخرنا، ولا يزال، الأرضية المولدة للهزائم، وهو ما يشير إلى أن معركتنا مع إسرائيل هي نفسها معركتنا مع التأخر في حيزاته كافة، السياسية والثقافية والاقتصادية، وغيرها. من هذه الزاوية ترتدي مسألة تجديد النقد لعمارتنا المجتمعية أهمية فائقة، إذ إنها، بخرابها وفواتها، تيسِّر حدوث الهزائم والكوارث المتتالية.
وفي المركز من حالة التأخر الشامل، نرى أن “الميدان السياسي-الأيديولوجي” هو الأشد تأخراً بسبب غربته عن مرتكزات السياسة الحديثة، وهذا يفسر انحطاط السياسة العربية الرسمية وعجزها عن الحضور الفاعل في العلاقات الدولية بما يتفق والمصالح العربية.
من جانب ثان فإن “الميدان السياسي”، بما يمتلكه من استقلالية نسبية عن الحيزات الأخرى، وبما له من قدرة وفاعلية في مجتمعات كمجتمعاتنا، يتحمل المسؤولية الأكبر في توليد الهزائم، وبالتالي فالحكومات العربية، دون استثناء، بحكم سطوتها في “الميدان السياسي” واحتكارها المطلق للقرار والفعل السياسيين، تتحمل المسؤولية الكبرى تجاه كل الكوارث التي تحل بدولنا ومجتمعاتنا.
1- لا يوجد اعتراف حقيقي بعامل ميزان القوى في السياسة العربية الرسمية وغير الرسمية، ولا لدوره في صياغة الحقائق الواقعية. إذ اندرج “حكامنا” والقطاع الأوسع من النخبة السياسية والثقافية في خطاب أزلي حول “الحق و”العدل” في العلاقات الدولية. السؤال هنا: منذ متى كانت “الحقوق” هي التي ترسم التاريخ وتقرر الحقائق الواقعية ؟.
إن أحد العوامل المؤثرة في القرار الأميركي، والدولي عموماً، يتمثل بإجراءات فعلية ذات ثقل في ميزان القوى العربي-الإسرائيلي. وإلا ما الذي يلزم أي إدارة أميركية، ديمقراطية كانت أم جمهورية، أن تأخذ بعين الاعتبار المصالح العربية، إذا كان العرب يضمنون مصالحها دون كبير عناء منها. أما “الاتحاد الأوروبي” فهو بحاجة لثقل وموقف عربي كي يرفع من مستوى أدائه ومنافسة الدور الأميركي في المنطقة، وليس العكس.
التعامل الاستعلائي للإدارات الأميركية مع حكوماتنا العربية يعود سببه إلى عاملين، الأول: أن هذه الحكومات لا تستند إلى ركائز شعبية في دولها، والثاني: أن هذه الحكومات بالاستناد إلى موازين القوى، لا تساوي شيئاً. ولذلك فإن “شارون” و”أولمرت” ومن سيأتي بعدهم في إسرائيل سيوصفون على الدوام في نظر “بوش” و”أوباما” ومن سيخلفهم في أمريكا، بأنهم “رجالات سلام”، وستظل هذه الأخيرة “تتفهم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” في كل أزمة، طالما بقيت هذه الحكومات، بعقليتها وتركيبتها، هي واجهات السياسة العربية.
ركنت الحكومات العربية إلى خيار وحيد، دعته خياراً استراتيجياً، هو “خيار السلام”. هذا الخيار لا معنى له في عالم الأقوياء، أي في ظل التخلي عن الخيارات الأخرى ووسائل القوة.
توجه حكامنا نحو هذا الخيار بدليل العجز، وليس توجه القوي الذي يمتلك خيارات عديدة بينها خيار السلام، إذ إن من لا يملك “خيار الحرب” وما يتطلبه من وسائل القوة، ليس بإمكانه أن يفرض السلام الذي يريد.
ينبغي أن يكون “السلام” خياراً استراتيجياً للعرب وجميع القوى السياسية، فالعقلاء لا يسعون إلى الحرب إلا إذا فرضت عليهم، وحتى عندما يحاربون، فإنما يحاربون من أجل إحلال السلام، وليس رغبة في الحرب، لكن هذا التوجه نحو السلام يجب أن يكون توجه القوي القادر، لا توجه الضعيف الذي لا يملك خيارات أخرى، أو توجه المرغم والمجبر على هذا الخيار، بحكم عجزه وفشله وقلة حيلته.
توقف الدور الرسمي العربي عند حدود إظهار حسن النية وصدقها منذ مدريد 1991، من خلال إعلان الالتزام بالسلام كخيار استراتيجي وحيد، وإعلان المبادرات السلمية، والحرص على عدم خرق المعاهدات والاتفاقيات السياسية والاقتصادية مع إسرائيل. وتلك هي مشكلة الدور العربي، أي في تحييد كافة الأسلحة الممكنة، على الأقل في الظرف الحالي، فضلاً عن الأسلحة الممكنة في حال وضعت تلك الحكومات أولوياتها واستراتيجياتها بالارتكاز إلى المصلحة القومية. لا يوجد حالياً جدول أعمال مشترك أمام الحكومات العربية، وبدلاً من أن تتوافر سياساتها على رؤية شاملة واستراتيجية وتكتيك، يكون هاجسها إبراز “نواياها الطيبة”، وبدلاً من أن يكون لديها تصور عن الواقع والمستقبل والاحتمالات والسبل والمراحل ووسائل الضغط والدفاع والحرب، يكون لديها خيار وحيد هو “السلام”.
لا تقف مسؤولية الحكومات العربية في إعادة إنتاج الهزيمة عند مستوى علاقتها بالخارج، بل إنها مسؤولة بالدرجة الأولى عما أنتجته في مجتمعاتها من خراب، وما هيأته من أوضاع قادرة في كل لحظة على إنتاج الهزائم والكوارث. من البديهي القول: أن من يهزم شعبه لا يستطيع أن يهزم الأعداء، ومن يزرع الاستبداد لا يحصد إلا انهياراً في الداخل وخسارات في الخارج.
بينت الأحداث أن “المبادرات السلمية العربية” ترتطم على الدوام بواقع إسرائيلي ائتلافي صلب على صعيد “الحكومة الإسرائيلية”، وهو في المحصلة تعبير عن “إرادة شعبية إسرائيلية”. في حين تفتقر الأنظمة العربية لأي أرضية شعبية، بعدما استبدت بشعوبها وأرهقتها، وحولتها إلى كتل بشرية عديمة الفعل والفاعلية، وإلى جموع من المهمشين والعاطلين عن العمل والجائعين و”المتطرفين”. وهذا يجعل من الاستهتار الأمريكي ليس خاصاً بالحكومات العربية وحسب، بل أيضاً بحركة الشارع العربي من محيطه إلى خليجه.
في ظل هذا الواقع الجديد من الضروري أن يحدث تبدل في السياسات والأولويات، فالمعركة مع العدو الإسرائيلي تتوقف بالدرجة الأولى على التقدم في الداخل. وهذه الحقيقة أصبحت اليوم أكثر سطوعاً، فأي تقدم في الوضع الداخلي هو كسب تدريجي في سياق معركتنا مع المشروع الأمريكي-الإسرائيلي، فاللعبة القديمة للحكومات العربية لم تعد تنطلي على أحد، أي لعبة تأجيل أو تجميد الدعوات إلى تحديث وعقلنة ودمقرطة الحياة العربية بحجة الصراع مع العدو الإسرائيلي، لأن الفوات الداخلي هو الأساس الموضوعي لآليات الهيمنة الخارجية.
من السهل جعل المشاكل خارجنا، لكن الأولوية بامتياز ستكون بجعل المشاكل والهزائم العديدة أمام أعدائنا داخلية (تجوينها)، ولنسأل أنفسنا عندها ماذا سنفعل بهذه المشاكل، وكيف نتجاوز وضعنا المهزوم ونصنع الانتصار ؟.
-2-
لقد غيرت حرب الخليج والعدوان الأميركي على العراق أموراً كثيرة، وبدا واضحاً أن الولايات المتحدة بصدد وضع قوانين عالمية جديدة تتلخص في إدارة أمريكا لشؤون العالم، بما يضمن مصالحها وتفوقها واحتكارها للقوة والتأثير لأطول فترة ممكنة في القرن الواحد والعشرين.
وجاءت الأحداث بعد حرب 1991 في سياق الحفاظ على المصالح الأميركية، فمؤتمر مدريد وما تلاه من محاولات لإعادة ترتيب شؤون المنطقة العربية، واستمرار الحصار على العراق لمدة 12 عاماً، وتقليص النفوذ السوفياتي السابق، وإعادة ربط أوروبا بمشاريع قديمة-جديدة، وقوانين منظمة التجارة العالمية، وحرب أفغانستان والحملة على “الإرهاب” واحتلال العراق في نيسان 2004… كل ذلك يأتي في هذا السياق.
بالنسبة للمنطقة العربية حددت الولايات المتحدة مصالحها منذ أمد بعيد (بعد الحرب العالمية الثانية) بمكافحة قيام دولة قوية في المنطقة، ومنع النفوذ السوفياتي من الامتداد إليها وحراسة حقول النفط، وقد وجدت في “إسرائيل” ضرورة استراتيجية لضمان أهدافها في المنطقة خلال النصف قرن المنصرم.
في عام 1967 اجتمعت المصلحة الأميركية والإسرائيلية على ضرورة تدمير قوة عبد الناصر، الذي اعتبر آنذاك المهدد الأكبر للمصالح الأميركية، والغربية عموماً. لم يكن عبد الناصر يملك النفط، لكنه كان رمز التحرر من الهيمنة ورمز القومية العربية، وسمي عبد الناصر في الغرب حينها “بالفيروس” الذي ربما يصيب “الآخرين” بالعدوى أي ” فيروس” التحرر القومي المستقل والمعادي للهيمنة الإمبريالية.
بعد هجمات الحادي عشر من أيلول كنا، كما هو معروف، أمام تحول نوعي في العالم، وهو سعي الولايات المتحدة لتثبيت رؤيتها للعالم ولمصالحها بالقوة العارية، وتوضح ذلك في الخطاب الأميركي الذي سعى لحشر العالم في صفين: إما مع أمريكا أو ضدها. فمن جهة انحشرت الحكومات العربية والإسلامية في موقف دفاعي جل غاياته “تبرئة الإسلام”، ونيل رضا السيد الأميركي الذي أمعن في الابتزاز السياسي لهذه الحكومات. ومن جهة ثانية ذهب العرب والمسلمون إلى الماضي كرد فعل وأغرقوا في إعادة إنتاج خطاب “سلفي” معاد للغرب وحضارته، وهذا ما أرادته أمريكا، أي تأكيد الطابع العدائي للعرب والمسلمين تجاه حضارة الغرب، لتستفيد بالتالي من وجود عدو جديد لطالما بحثت عنه بعد زوال الخطر السوفياتي.
تعاملت الولايات المتحدة مع الوضع في المنطقة العربية، بعد أحداث 11 أيلول، انطلاقاً من حربها ضد “الإرهاب”، وقد أدرك “شارون” هذه “المعزوفة الأميركية” وراح فور انتخابه يسعى لاستفزاز الفلسطينيين يوماً بعد يوم حتى يقدموا على ارتكاب أعمال عنف محرمة بنظر السيد الأميركي، ويروًج لها إعلامياً بما يكفي لتبرير طغيان إرهاب الدولة الإسرائيلية، فمنذ الحادي عشر من أيلول أفاد شارون من الضوء الأخضر الأميركي ليشن الهجوم على السلطة الفلسطينية تحت نفس الذريعة الأميركية.
كان بوش الأب بحاجة إلى “صدام حسين”، وبوش الابن بحاجة إلى “بن لادن”، وشارون بحاجة لإظهار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في موقع المشجع على “الإرهاب”. والهدف عدم مواجهة أي “محاور” معترف به في الداخل الفلسطيني، كما في الخارج، كي لا يضطر للتفاوض، أو على الأقل لفرض الرؤية الأميركية-الإسرائيلية في “التفاوض” على أرض الواقع.
ولذلك ارتكزت السياسة الإسرائيلية آنذاك على هدف رئيسي هو “إقصاء عرفات”، وإعادة تشكيل السلطة الفلسطينية، بما يمكنها من استبعاد المطالب الفلسطينية (والعربية) حول “الحلول النهائية”.
منذ صدور القرار242 بعد هزيمة حزيران 1967 كانت الرؤية الأميركية والإسرائيلية واحدة تقريباً فيما يخص أي “مفاوضات سلام” بين العرب وإسرائيل.
الترجمة العملية للسياسة الأميركية في ظل هيمنتها الكونية هي:
أولاً: القرار 242 هو للتفاوض، وليس للتنفيذ المباشر، وثانياً: استبعاد القرارات الأخرى للأمم المتحدة التي تطالب بحقوق الفلسطينيين، وثالثاً: الانسحاب المطروح في القرار 242 هو انسحاب إلى الحد الذي تقرره أمريكا وإسرائيل.
تلك هي مرتكزات السياسة الأميركية لإحداث “السلام” في المنطقة، وجاءت المتغيرات العالمية لتعطي فرصاً أكبر لتحقيق هذه السياسة على الأرض.
لا تختلف الرؤية الإسرائيلية للتسوية والمفاوضات عن الرؤية الأميركية إلا بشكل بسيط كان يتحدد تبعاً للأحزاب الحاكمة في أمريكا وإسرائيل. فالولايات المتحدة عموماً تفضل التعامل مع “حزب العمل” على حساب “الليكود”، لأن “العمل” يقوم بالمطلوب بهدوء،وعلى حد وصف بن أليعازر في شباط 1996 لحزب “العمل” بأنهم “البناؤون الهادؤون” أو “الحمائم في إسرائيل”.
بالنسبة للعرب والقضية الفلسطينية، في ظل التردي والضعف المزمنين، ليس بالإمكان الإفادة من أية فروق، إذ إن ذلك ممكن فقط عند وجود وزن ما للعرب على الصعيد الدولي، ليس فحسب بالمقياس العسكري، إنما أيضاً والأهم بالمقاييس الحضارية والثقافية والعلمية.
-3-
كل هزيمة تتعرض لها أوطاننا ومجتمعاتنا تطرح علينا من جديد العودة لبديهيات الصراع العربي-الإسرائيلي، مثلما تفرض علينا ضرورة نقد أشكال تجلّي هذا الصراع في وعينا، وضرورة الارتقاء بخطابنا الأيديولوجي-السياسي في كل مرحلة من مراحله.
لم يكن قيام إسرائيل على أرض فلسطين، وتهجير القسم الأغلب من أهلها حلاً لمشكلة مجموعة من اليهود الباحثين عن وطن، بعد العذابات التي عانوا منها في أوربا عشية الحرب العالمية الثانية وما قبلها، وهي ليست كذلك خلاصاً أوربياً من المشكل اليهودي وترحيله إلى هذه المنطقة وحسب, إنه في الأساس استثمار إمبريالي في المنطقة العربية، أوربي أولاً وأمريكي لاحقاً، وعليه فإن إسرائيل كيان ودور، كيان استمر بقوة الأمر الواقع، ودور يكبر أو يصغر تبعاً للراعي الإمبريالي.
ليس ثمة قضية تشغل حيزاً واسعاً في الخطاب السياسي العربي كقضية الصراع العربي-الإسرائيلي، نظراً لطبيعته وتداخلاته وإفرازاته وارتباطاته، ولأنه واحد من أطول الصراعات في العالم وأعقدها.
منذ بدء هذا الصراع وحتى الآن اعترى الخطاب السياسي العربي الكثير من التحولات، بل وحتى القفزات، فبينما كانت شعارات “التحرير الكامل” و”استحالة التفاوض مع العدو” و”الحرب الشعبية” مسيطرة إبان تصاعد المد القومي في مرحلتي الخمسينيات والستينيات، فإن هذه الشعارات قد انثنت بعد هزيمة حزيران عام 1967 إلى شعار “إزالة آثار العدوان”، وها هو الخطاب السياسي اليوم – الرسمي وجزء من غير الرسمي – يتمحور حول موضوعة “التسوية” و”السلام”، بينما الشارع العربي لا يزال يبني تصوراته استناداً إلى المقاومة المسلحة والرفض والتحرير الكامل، لكن على أرضية ثقافية مختلفة عن ثقافة الخمسينيات والستينيات.
تتحمل السلطات العربية، دون استثناء، الجزء الأكبر من مسؤولية هذه التحولات، ففي أغلب لحظات الصراع لم تكن الشعارات المرفوعة من قبلها مطابقة أو متوافقة مع الإمكانيات الحقيقية على الأرض، فضلاً عن ديماغوجيتها التي أنهكت شعوبنا وضللتها وعزلتها عن معادلة الصراع. وقد بررت هذه السلطات استبدادها وحكمها الشمولي بتجميع القوى وحشد الطاقات لتحرير الأرض، في الوقت الذي لم تتقدم خطوة واحدة صحيحة في اتجاه ذلك، وما جرى ولا زال يجري يقدم شواهد ناصعة حول مسؤوليتها.
بداية لابدّ من التأكيد على أساسيات هذا الصراع الذي نراه صراعاً سياسياً بين مشروعين متناقضين، المشروع العربي للنهضة والمشروع الإمبريالي-الإسرائيلي للنهب والهيمنة. وهو صراع ما زال مفتوحاً، وسيبقى كذلك ما دامت سيرورة المشروع النهضوي العربي متوقفة، ولا يغيّر من هذه الحقيقة حدوث تسويات وهدنات ومعارك في لحظات سياسية مختلفة.
2- لا تستطيع الحكومات العربية رفض التسوية، وبالطبع لا تستطيع الحرب، لأنها ببساطة لم تجهز دولها وشعوبها لهذا الخيار، وهذا يجعلها على الدوام بحاجة أمريكا أكثر من حاجة أمريكا لها.
التسوية المطروحة منذ أوسلو وحتى اليوم لحظة من لحظات الصراع، ولا تحل صراعاً بحجم وطبيعة الصراع العربي-الإسرائيلي، لأن مرتكزات الصراع ستظل قائمة.
لا يوجد في الحقيقة صيغة أو تسوية ما قادرة على إنهاء الصراع ما لم تعد إلى أصل الصراع وجذوره، ومعالجة مرتكزاته وآثاره، وتؤدي إلى حالة قابلة للحياة والاستمرار.
صحيح أن التسويات الحالية هي هزائم أخرى، لكن بالنسبة لنا لا فرق بين هزيمة موثقة وهزيمة غير موثقة. الوثائق تأتي نتيجة لما يحدث على الأرض، وليست هي التي تخلق الوقائع والهزائم. هي تحافظ نظرياً على وقائع مثبتة على الأرض. ما يحافظ على توثبق الهزيمة فعلياً هو الوقائع ذاتها. عندما تتغير الوقائع تتغير الأوراق، لذلك فإن الوقائع المرتبطة بالهزيمة هي ما يجب العمل على تغييرها أولاً.
3- على الرغم من أن التسوية خيار مفروض على الحكومات العربية بحكم الواقع الحالي، فإن هذه الحكومات (بسبب القصور أو العجز أو الوهم لا فرق) ذهبت إلى التسوية دون رأس.
المفارقة الواضحة في (التسوية) أو (عملية السلام) الجارية منذ مدريد 1991 (رغم الانقطاعات العديدة فيها) أن حكوماتنا تفاوض استناداً إلى قرارات الشرعية الدولية والرؤية الحقوقية، بينما “إسرائيل” تفاوض على (تسوية) بشروطها، أي بحقائقها التي تملكها على الأرض وقادرة من خلالها على الفعل والضغط والحركة في اتجاهات متعدّدة. الموقف الرسمي الذي يفاوض استناداً إلى إيمان بأن “الحقوق” هي التي تقرّر مصير الكون والعباد. هذا الإيمان لا صلة له بالواقع والتجربة التاريخية.
السلام” المطروح اليوم ليس بمعناه (الحقوقي ـ الإنساني)، إنما هو السلام الأمريكي من ناحية المبدأ، والذي تجسّد في (مفاوضات التسوية) خلال الفترة ما بعد مؤتمر مدريد 1991، وبالتالي لا يمكن أن يكون (السلام) المطروح عادلاً، فالعدل الذي نسعى إليه لن يأتِ على يد الانفراد الأمريكي في شؤون العالم. لا يغير من هذه الحقيقة ذلك الصخب الإعلامي الذي تذاكى الإعلام العربي على ترويجه من مثل “السلام العادل والشامل”، إذ ليس من المتوقع ـ بالنظر للاستفراد الأمريكي واختلال ميزان القوى بشكل كبير لصالح إسرائيل ـ أن تكون التسوية المطروحة تسوية عادلة.
القرار 242 لم يأتِ أعقاب هزيمة حزيران 1967 نتيجة لميزان القوى العربي الإسرائيلي بمفهومه الضيق، بل كان نتيجة عوامل أخرى دولية (أي بالمعنى الواسع لميزان القوى العربي الإسرائيلي)، ويأتي في مقدمتها الاتحاد السوفيتي والرأي العام الآسيوي والأفريقي، وقد وافقت عليه الولايات المتحدة لهذا الغرض، ولكن للتفاوض وليس للتطبيق المباشر على أرض الواقع.
بعد الهزائم الأخيرة للنظام العربي ـ أي بعد سقوط بغداد، والانقسام العربي حيال الأوضاع في لبنان وفلسطين والعراق ـ يبدو الوضع العربي أسوأ بما لا يقاس من قرار مجلس الأمن 242، والعرب لا يملكون ـ حتى هذه اللحظة ـ أن يفرضوا تنفيذه، فرادى أو مجتمعين.
اتفاق أوسلو) مازال كذلك أفضل من إمكانيات الوضع العربي الراهنة.إنه سيء قياساً بالحقوق العربية، لكن الوضع العربي الراهن أسوأ. الوضع العربي لا يستطيع أن يرفض “أوسلو” أو حتى الترتيبات الأدنى منه التي تعدها الإدارة الأمريكية بالشراكة مع الحكومة الإسرائيلية، وهذا يجعل من احتمال أن تكون الدولة الوطنية المستقلة (أي انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة في حزيران 1976 بما فيها القدس وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين) احتمالاً بعيد المنال.
إزاء هذه المعادلات الواضحة للصراع في اللحظة السياسية الراهنة، هل المطلوب رفض العمل الدبلوماسي والتسوية وإعادة طرح شعار “التحرير الكامل” والحرب ؟
على العكس من ذلك. العمل الدبلوماسي مطلوب. العمل الدبلوماسي هو الباب الضيق، ومن لا يطرق الباب الضيق لا يطرق أي باب. العمل الدبلوماسي ـ السياسي، بما فيه من تفاوض وتسويات وهدنات، ضروري شريطة اندراجه ضمن رؤية متكاملة للمشروع النهضوي العربي في صراعه مع المشروع الإمبريالي الإسرائيلي في المنطقة، أي دون أن ننسى لحظة واحدة أن هذا الصراع لا بد أن يحسم في النهاية لمصلحة أحد طرفيه.
إن رفض الدبلوماسية والتكتيك بالمطلق هو تعبير عن إيمان عميق بالشيء المرفوض، وكأن الدبلوماسية هي التي تقرر مصير الحياة والبشر. ولا نعتقد أن الذي سيحرر فلسطين من البحر إلى النهر يوماً من الأيام هو من يكرّر على مسامع العالم يومياً أنه سيحرّر فلسطين. بل نقول مع “غامبيتا “ـ الذي كان رمز المقاومة الفرنسية بعد سقوط نابليون الثالث ـ حين سُئل “والألزاس لورين ؟”، فأجاب: “سنفكر بها دائماً، لن نتكلم عنها أبداً”.
ليس بوسعنا اليوم مشاركة البعض وهم القدرة على تحرير كامل التراب العربي، لوعينا بطبيعة المرحلة وبموازين القوى المحلية والعالمية، ولإدراكنا لمقدراتنا الذاتية المخربة والمنهوبة إزاء إمكانيات المشروع الإمبريالي الإسرائيلي، إذ لا بد لنا من بناء خطاب سياسي واقعي عقلاني إزاء عملية “التسوية” و”التفاوض” في هذه المرحلة، فالشعارات (كشعار التحرير الكامل) عندما تتحول إلى أقانيم، دون قراءة دقيقة لطبيعة المرحلة، لا بد أن تنتهي إلى أن تكون ألفاظاً وحسب..بالمقابل فإننا مع السلام كخيار استراتيجي من منطلق تلازم هذا الخيار مع مشروعنا النهضوي، لكننا نرفض أن يتحول هذا النزوع المبدئي والإنساني إلى ممارسات تغلّف تخاذل أو تقاعس هذا النظام أو ذاك عن العمل على تغيير وتعديل ميزان القوى على الأرض.
في أحد جوانب الصراع تجاهل العرب الرأي العام العالمي في نظرة يشوبها الشك والإهمال، ولم يقدروا أهميته وتأثيره في مجريات الصراع. لقد طابقوا بين موقف الرأي العام وموقف حكوماته، في حين استطاع العمل الدعائي الإسرائيلي كسب غالبية الرأي العام العالمي، وتكريس الصورة النمطية للإنسان العربي في الذهن الغربي لعدة عقود.
-4-
دخل الكفاح الوطني الفلسطيني منذ وعد بلفور 1917 حتى اللحظة الحالية في حركة مد وجزر تبعاً للشروط الموضوعية، العالمية والمحلية، والظروف وأحوال الوعي. لكن لا يسعنا إلا أن نقف على الدوام بإجلال أمام ما يقدمه الشعب الفلسطيني من تضحيات، وما يُظهره من عناد ومقاومة في وجه الاحتلال الإسرائيلي.
تحتاج المقاومة الفلسطينية، بكل توجهاتها وأشكالها وأطرافها وتلاوينها، إلى النقد. هذا النقد معني بتفحص أهدافها وظروفها وآليات عملها وأشكال تجليها، وذلك من واقع الحرص على استمرارها بالشكل المنتج والفعال، والقادر على توليد التضامن معها في الداخل الفلسطيني، وعلى المستويين العربي والدولي على حد سواء. إذ يجب ألا يدفعنا عجزنا عن الفعل وقلة حيلتنا لرفع المقاومة الوطنية الفلسطينية لمرتبة المقدس الذي لا يجوز نقده وتفحص إمكانياته وجوانب قصوره وآفاقه المستقبلية. هذا النقد أساسي خاصة إذا ما انتبهنا للفهم السلبي لأشكال تجلي المقاومة الفلسطينية في الوعي العربي عموماً، سواء في وعي الحركات السياسية (اليسارية والقومية والإسلامية عل حد سواء) أم في الوعي الشعبي العربي.
كل مقاومة في تاريخ العالم ضد الاحتلال تضع لنفسها مهمات وأهدافاً بحدود قدرتها وحدود الظرف الموضوعي في كل مرحلة من مراحل صراعها مع العدو المحتل، وفي الوقت ذاته تبقى محافظة دائماً على “المبدأ” أي على النهاية الأخيرة التي تبغيها لصراعها مع عدوها.
المقاومة بهذا المعنى هي الرفض المبدئي القطعي للاحتلال، والنزوع نحو التحرير والاستقلال، لكن أشكال تجليها في كل مرحلة متغيرة بالضرورة، إذ يجب الانطلاق من حسابات عديدة لطرح الشعارات والأهداف المناسبة في كل مرحلة: حسابات المساحة والتضاريس والنبات والبشر والقمع والأرباح والخسائر والوضع العربي والظرف العالمي…..إلخ.
تعتبر هذه النقطة أساسية في تطور المقاومة واستمراريتها، خاصة في ظل انتشار “أيديولوجيا السحب الميكانيكي” في الوعي العربي للثورات والمقاومات في التاريخ على المقاومة الفلسطينية، التي أعطيت مهمات أكبر منها وخارج حدود قدرتها والظرف العربي والعالمي، والسبب بالطبع هو العجز الذي يلف الشارع العربي وقواه السياسية على اختلاف تلويناتها.
في الحقيقة إن ما يجمع الكفاح الفلسطيني مع الثورة الفيتنامية مثلاً، أو الجزائرية، قليل، وما يميزه عنها كثير. لعل ما يجمع بين هذه الثورات جميعاً يتمثل في أن كل الثورات والمقاومات في عصرنا تستهدف القضاء على الاضطهاد والاستغلال والظلم والاحتلال وإقامة العدالة الإنسانية. أما تمايزات الكفاح الوطني الفلسطيني عن هذه جميعاً فهي كثيرة، والمقاومة الفلسطينية والقوى السياسية العربية جميعها، والوعي العربي عموماً، معنيون بكشف هذه التمايزات وأخذها في الحسبان، وبالتالي فإن “السحب الميكانيكي” لنضالات الشعوب الأخرى في مناطق أخرى من العالم لن يجرّ معه إلا الكوارث والمزيد من الهدر، أما الهدف الأكبر للأمة (هزيمة المشروع الإمبريالي ـ الإسرائيلي في المنطقة) فلن يتحقق إلا بمقدار تقدم المشروع النهضوي العربي.
2- إن أشكال النضال ضد المحتل عديدة: الدبلوماسية والسياسية، التفاوض والتسويات المؤقتة، التظاهرات السلمية والاحتجاج، المقاومة الشعبية، الحرب النظامية، تعزيز الجبهات الداخلية للبلدان العربية بالديمقراطية والوحدة الوطنية….إلخ، وفي كل مرحلة تتقدم إحداها أو بعضها على الأخرى، لكن تبقى إمكانية القدرة على التحرك باتجاهها جميعاً أساسية في كل لحظة سياسية، لذا يصبح التخلي عن أحدها أو السير وراء أحدها وحسب معضلة كبيرة في العمل النضالي.
كل وسيلة نضالية تخترعها الشعوب الحية تطرح عليهم سؤالاً أساسياً متعدّد الجوانب. هذا السؤال هو: أين ومتى وكيف؟ في لحظة سياسية ما قد يكون الاحتجاج السلمي هو الشكل الملائم والأجدى، وفي لحظة أخرى قد تكون المقاومة المسلحة هي الإجابة النضالية الحقيقية الملائمة والمجدية.
العمليات المسلحة الفلسطينية، الموجهة ضد جنود الاحتلال، والمتوافقة مع القانون الدولي الإنساني، هي إحدى وسائل النضال. والشرط اللازم لنجاحها هو اندراجها في إطار خطة سياسية متكاملة للشعب الفلسطيني وقيادته، أي أن تعدّد وسائل النضال لا يفترض تعارضها، بل تكاملها في إطار برنامج سياسي عام.
من جديد نعود بحكم عجزنا وقصور وعينا إلى معادلات فاشلة سياسياً وتكتيكياً: الجيوش العربية عاجزة، البديل ـ ليس للدفاع وحسب، إنما للهجوم وتحرير كامل التراب الفلسطيني ـ هو الكفاح الفلسطيني المسلح.
نريد أن نقول: إن الشعوب لا تختار وسيلة نضالية واحدة إلى ما لا نهاية، والمقاومة الفلسطينية لا يمكن ـ بحكم الواقع والظرف ـ أن تكون لحناً استشهادياً أبدياً. “العمليات المسلحة” هي إحدى وسائل العمل النضالي (وهذا يتبع الظرف والجدوى السياسية)، وليست الشكل الوحيد للنضال. إذا كان الفعل النضالي هو “المبادرات السلمية” وحسب (كما هو عند الحكومات العربية) فتلك مشكلة كبيرة، وإذا كان الفعل النضالي هو “المقاومة المسلحة” وحسب (كما هو في أيديولوجيا المقاومة والقطاع الأكبر من القوى السياسية العربية) فتلك أيضاً معضلة كبيرة.
المقاومة الفلسطينية استمرارها مطلوب وأساسي، وشرط استمرارها هو تعدّد وسائلها وأشكال تجليها في الواقع، واندراجها في برنامج سياسي نضالي شامل للشعب الفلسطيني في معركة طويلة الأمد، يتناول الإدارة والتخطيط في الحيزات كافة السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وهذه تجلّل جميعها بإدارة إعلامية تليق بنضالات هذا الشعب.
علينا إذاً الاقتناع بأن غاية المقاومة المسلحة ليست الموت، بل تحقيق المكاسب السياسية والانتصار، من خلال خطة سياسية شاملة لمراكمة الانتصارات السياسية الصغيرة على جميع المستويات في الواقع الفلسطيني والعربي والعالمي، وبالتالي لا معنى للمقاومة المسلحة إذا لم تنتج مكاسب سياسية. هذا يختلف عن تلك الرؤى التي تسعى، بوعي أو دون وعي، إلى “اختزال” المقاومة الفلسطينية إلى “العدد الذي تحصده من الإسرائيليين”، أو إلى حالة جنونية من ممارسة العنف المحض.
النقطة الأخيرة في هذا السياق تتحدّد في ضرورة الحفاظ في وعينا على السمة “الوطنية” للمقاومة الفلسطينية، وذلك ضد الرؤى الفلسطينية والعربية التي تحاول إسباغ الصفة الإسلامية عليها، أو احتكارها من قبل بعض التيارات الإسلامية، وهذا هام في فهم طبيعة الصراع السياسية، وليس كما يريد الاحتلال الإسرائيلي تصويره على أنه صراع ديني.
الإمبريالية لا تخوض حرباً من أجل الدين، وأهداف الحكومة الإسرائيلية ليست دينية، إذ على الرغم من الطابع اليهودي للدولة في إسرائيل، إلا أن الدين لا يشكّل أكثر من المبرر الأسطوري لإنشائها، فالطرفان (الإمبريالية وإسرائيل) يستغلان الدين من أجل أهدافهما الحقيقية في النهب والسيطرة.
إن انجرارنا اليوم ـ كما يريد لن أعداؤنا ـ إلى ما يشبه الصراع الديني، يزيد في التمويه على الطبيعة السياسية للصراع مع المشروع الإمبريالي ـ الإسرائيلي. إننا لا نخوض صراعاً من أجل إنهاء الوجود اليهودي في فلسطين والعالم، بل صراعاً يتعلق بإنهاء الوجود السياسي لدولة الاحتلال، أي إنهاء إسرائيل كدور، وكمشروع إمبريالي للنهب والسيطرة في منطقتنا، والذي يتصادم مع المشروع النهضوي العربي، ومن الطبيعي في سياق مشروعنا هذا أن يحظى اليهود بحل ديمقراطي وإنساني. لقد صدرت إلينا أوربة مشكلتها اليهودية، والعرب مطالبون اليوم، بحكم الواقع، برؤية لحل “المسألة اليهودية” في سياق مشروعهم النهضوي، وبهذه الرؤية فقط يستقيم فهمنا للصراع العربي الإسرائيلي على قدميه.
– 5-
السلطة الوطنية الفلسطينية، كأي سلطة في البلاد العربية، لا تستجيب لضرورات الإصلاح الداخلي إلا عندما يمليها الخارج، وهنا تكمن الخطورة.
إن الإصلاح في الداخل الفلسطيني هو مطلب قديم ـ جديد يأخذ زخمه ودوافعه من زاوية النظر الفلسطينية، وليس من موقع التناغم مع المطالب الأميركية ـ الإسرائيلية التي تريد مشروعاً إصلاحياً لها في البيت الفلسطيني ينسجم مع مصالحها، وليس مشروعاً إصلاحياً يرتكز إلى المصلحة الوطنية الفلسطينية.
الإصلاح المطلوب غايته تصحيح العلاقات الوطنية الفلسطينية، وتحسين أداء مؤسسات السلطة الفلسطينية وتثبيت ركائز نظام ديمقراطي حقيقي لمشروع الدولة الفلسطينية، والاتفاق على خط المقاومة الوطنية الفلسطينية ومسارها. وبشكل عام إعادة إنتاج برنامج سياسي عام ومشترك للشعب الفلسطيني في هذه المرحلة، فقد جرى خلال السنوات المنقضية ما بعد اتفاق أوسلو، وضع البرنامج السياسي الموحد الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني عام1991 على الرف، فأصبح الشعب الفلسطيني ونضاله من دون رؤية سياسية مشتركة وموحدة، ومن دون مرجعية ائتلافية موحدة من الفصائل والقوى الفلسطينية، أي “منظمة التحرير الفلسطينية” التي تحتاج أكثر من ذي قبل لإصلاح وتفعيل، بعد أن تعطلت مؤسساتها، خاصة وأنها تشمل جميع قوى وفئات الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة وأقطار اللجوء والشتتات والمهاجر العربية والأجنبية.
عندما ندرك أن القضية الفلسطينية لا تختزل الصراع العربي الإسرائيلي، رغم أنها في القلب منه، سندرك أيضاً أن الإصلاح المطلوب فلسطينياً لا بد أن يترافق مع إصلاحات مماثلة في الأقطار العربية، هذا إذا أردنا حقاً الارتقاء لمستوى تحديات هذا الصراع، والكف عن إنتاج الهزائم إلى ما لا نهاية.
الموقف الديمقراطي 111