الأزمة المالية العالمية

صعود الأصوليات والإرهاب، إخفاق الديموقراطيات الغربية، الأزمة المالية العالمية…

نيكولا بافيريز
ترجمة بسّام حجار
في مؤلّفه الذي صدر أواسط الأسبوع المنصرم عن دار نشر بران، باريس، تحت عنوان: “في طريقنا نحو المجهول”، يجري المفكّر والاقتصاديّ الفرنسي المعروف تحليلاً استقبالياً شاملاً لأوجه التحوّل في عالمنا الحالي حيث نشهد زوال الهيمنة الغربية وندخل إلى عالم متعدّد الأقطاب ما زالت معالمه وحدوده غائمة وغير محدّدة.
صحيفة “لوفيغارو” اليومية الفرنسيّة نشرت في عددها الصادر في 6 تشرين الأول 2008، مقتطفات من الكتاب، في ما يلي ترجمتها إلى العربيّة:
تفاقم التباينات على المستوى العالمي
لقد انبنى تاريخ القرن العشرين على الصراع، في قلب العالم الغربي، بين الأمة والإمبراطوريات، بين الديموقراطية والنظم التوتاليتارية. وقد حُسِم هذا النزاع من قبل الولايات المتحدة الأميركية التي خرجت منتصرةً من ثلاث حروبٍ عالمية انتهت الأخيرة منها في سنة 1989. لكن معالم القرن الواحد والعشرين تبدو أشدّ تعقيداً واضطراباً. إلى درجة أنّه بات من غير المستبعد إطلاقاً منذ العام 2007 أن يغلب على هذا القرن طابع الفوضى والتيارات النابذة. وثَبْتُ التباينات التي تصدعُ الكرة الأرضية طويل جداً: تباينات دينية وثقافية بين جزء من العالم الإسلامي والغرب؛ تباينات تاريخية بين شمالٍ في طور أفول نسبي وبين جنوب في طور استلحاق متسارع؛ تباينات سياسيّة بين الديموقراطيات ودول القانون من جهة، وبين ازدهار أنظمة الحكم الرافضة للتعددية والحرية الفردية من جهة أخرى؛ تباينات إيديولوجية بين دعاة المجتمع المنفتح وبين ممتدحي الأمة كصيغةٍ سياسية لا يمكن تجاوزها؛ تباينات مؤسسية مع السعي المزدوج وراء صيغٍ تضمن تماسك أمم أكثر فأكثر تنوعاً، وبناء شركات متعدّدة الجنسيات ومنتديات متعددة الأطراف؛ تباينات اقتصادية بين خيار المخاطرة أو أولوية الاستقرار، والتطبيع بواسطة السوق أو بواسطة الدولة؛ وتباينات بيئية بين ديناميكية النمو بأي ثمن وبين ديناميكية التنمية المستدامة.
إصابات قاتلة وجهت إلى الرأسمالية العالمية
اليوم نرى أن مبادئ الديموقراطية في حال من التراجع حيال رفضها من قبل الأصوليات الدينية أو من قبل الديكتاتوريات، وإحباطها بفعل الانقلابات العسكرية في تايلنده وبورما أو بفعل الحروب الأهلية كما هي الحال في ساحل العاج وفي لبنان، أو التنكّر لها من قبل النزعة الكاسترية (نسبة إلى كاسترو) المتجسّدة بفنزويلا هوغو شافيز في أميركا اللاتينية. كما نرى أن ما يسود العلاقة بين الحرية السياسية والحرية الاقتصادية هو طابع الانفصام واللاتوازي على غرار ما شهدنا خلال الألعاب الأولمبية في بكين، والتي كانت مثالية على مستوى التنظيم بقدر ما كانت مثيرة للقلق على مستوى حقوق الإنسان.
مثل هذا الاضطراب لم يوفر الأمم الحرة. فالتهديدات الإرهابية تغذّي الخوف الذي يغذّي بدوره النزعات الأمنية والحركات المعادية للأجانب والتيارات الشعبوية. والحقيقة أن الأفول النسبي للغرب بإزاء النهوض الاقتصادي لبلدان الجنوب ينال من استقرار الطبقات الوسطى ويشجع على الضغوط لفرض الحمايات ويطلق العنان لأوهام الهلاك الأصفر الجديد الذي يتمحور حول الصين. ولعل الولايات المتحدة هي خير تجسيد لمثل هذا التطور حيث أدت استراتيجية المحافظين الجدد القائمة على الحرب ضدّ الإرهاب، الى إخفاق سياسي في العراق وإخفاق عسكري في أفغانستان، كما أدت إلى اقتصاد في حال ركود، وإلى دولة قانون وقيمٍ أنهكها إنشاء معتقل غوانتنامو وتشريع التعذيب وأعمال الخطف ومراكز الاعتقال السرية وتعميم التجسس على المواطنين ومراقبتهم من غير إشراف قضائي. إن التشنج الإمبريالي والعسكري الذي أعقب هجمات الحادي عشر من أيلول 2001 قد سرع عملية تحول التفوّق الأميركي المطلق إلى تفوّق نسبي لا أكثر، الأمر الذي عزز من شعور الأميركيين بالقلق والإحباط، وغذى النزوع إلى اعتماد الإجراءات الأمنية وحماية الذات والانعزال.
إنّ الأزمة الاقتصادية التي ولّدها نظام العلاوات غير المنظورة يمس صلب الرأسمالية العالمية وتبيح التشكيك بتطورها وتنظيمها. لقد ولدت الأزمة في الولايات المتحدة في صلب نظام التبادل وليس على هوامشه. وللأزمة بعدها العالمي لا الاقليمي أو القومي وحسب، وعلى العكس من الأزمة الآسيوية سنة 1997 أو الانهيارات المالية في روسيا والأرجنتين في العامين 1998 و2001. وحامل هذه الأزمة الأول هو القطاع المالي، أي طليعة الترابط والتجديد الخاصين بالمجتمع المفتوح. وتكمن جدّة هذه الأزمة في تضافر أربع هزات كبرى: انهيار نظام القروض بفعل تعسّر المصارف؛ انهيار القطاع العقاري؛ وهبوط مقنّع في الأسواق المالية؛ وأخيراً وليس آخراً صدمة نفطية وغذائية تؤدي إلى عودة التضخّم بقوّة. وهي صدمة لا تزال في بداياتها وتتحدّى أدوات السياسة الاقتصادية التي تبدو عاجزة عن السيطرة عليها. تتضافر جميع هذه الأسباب لتجعل منها الصدمة الأخطر منذ أزمة الانكماش النقدي الكبرى في الثلاثينات من القرن المنصرم، واضعة العولمة في حالة من انعدام الوزن.
من وراء الأزمة المالية الناشئة عام 2007 تبرز نهاية دورة ونموذج اقتصاديين. نهاية دورة الانخفاض المترافق للتضخم ولمعدلات الفائدة، الذي تطاير أشلاءً مع انفجار فقّاعة المضاربة على الائتمان ومع الصدمة النفطية والغذائية. ونهاية النموذج الاقتصادي الذي يضع في صف واحد أمماً مستهلكة بالدَين لغرض الاستيراد على نطاق واسح على غرار الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أو أسبانيا، وأمماً مدخرة ومستثمرة على نطاق واسع لتعزيز القدرة على التنافس لدى جهاز إنتاج متجه نحو التصدير على غرار ألمانيا والصين أو كوريا (…)
عقب موجة التفاؤل التي تلت سقوط جدار برلين، وقعت العولمة في شراك العنف المتسم بالغلو سنة 2001، ثمّ في شراك التبدد المتوالي لفقّاعات المضاربة التي زعزعت في العمق المعيار الليبرالي لعمل الرأسمالية الذي بدأ بالظهور بدءاً بالثمانينات. تزداد وتيرة الصدمات الجيوسياسيّة وتتسارع مولّدة المفاجأة تلو المفاجأة وحالةً من عدم اليقين الجذريّ. وهي تشير إلى عدم استعداد الأمم الحرة وضعف المؤسسات السياسية التي تعزز المخاطر المحدقة بالكرة الأرضية وتزيد من مخاوف الشعوب.
الغرب المُهدد
يتوالد العنف ويزداد راديكالية مع اشتداد الصراعات بين القيم والثقافات (…). وكذلك الأمر في المجال الجيوسياسي، يبدأ القرن الواحد والعشرون تحت تأثير تراجع الغرب أمام القوى الناهضة، وأفول الزعامة الأميركية، وإعادة النظر في احتكار الدول لمزاولة العنف وقيادة النشاط الدولي. لقد زال التهديد السوفياتي مخلّفاً مكانه مخاطر متعددة. مخاطر تقليدية مرتبطة بنزاعات القوة، وخاصة في آسيا التي نحوها ينزلق مركز ثقل الاقتصاد والجيوسياسة العالميين، أو عودة النزعات الإمبريالية، وخاصة في قلب روسيا التي تبني عودتها القوية إلى الساحة العالمية على الاندماج بين الدولة والأجهزة الأمنية واحتكارات الطاقة والمواد الأولية. ومخاطر لا متوازية ناجمة عن الإرهاب وعن انتشار أسلحة الدمار الشامل واحتمال امتلاكها، والدول المنهارة وازدياد المناطق الرمادية على غرار المناطق القبلية في باكستان.
هكذا تبرز، منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، صورة غير مسبوقة تتميز بعالم متعدّد الأقطاب، شديد التنافر وغير مستقر يسوده التشكيك بهيمنة الغرب واحتكاره التاريخ وقيم الإنسانية. وسواء لجهة عمل الديموقراطية أو الاقتصاد المفتوح أو الاستراتيجية، فإن العولمة ولجت أرضاً مجهولة. ويبدو أن الدول والمؤسسات والأدوات التقليدية للسياسة تقف عاجزة في مواجهة الأزمات والمخاطر الناجمة عنها.
ما من أمّة، ولا حتّى الولايات المتحدة الأميركية، تملك الحجم والقوة اللازمين لحل مشكلات كوكبنا بمفردها. إن أزمنة وأنماط التنظيم السياسي تتناظر فيما بينها وتتصادم. زمن واقعي للاقتصاد والتكنولوجيا، وزمن مديد للديموغرافيا والذهنيات. علم مفتوح يمزج ما بين أول مجموعة متعددة الجنسيات أنشئت على قاعدة السلام والحرية في أوروبا، وبين مواصلة الولايات المتحدة الدفاع عن زعامتها للعالم، والتأكيد على رغبة الدول العملاقة الناشئة في امتلاك القوة (الصين، الهند، البرازيل، روسيا)، استراتيجيات زعزعة الاستقرار من قبل إيران أو فنزويلا. بالاختصار يمكن القول إنه حيال عالمية السوق والتكنولوجيا، وحيال تشابك التبادلات والمجتمعات، وحيال مخاطر المجتمع المفتوح وصدماته الشاملة، تبقى سياسة مطلق القرن الواحد والعشرين هذا مقحماً، في جوهره، ضمن إطار الأمم، ومستوطناً مؤسسات “بروتون وودز” المتعدّدة الأطراف التي قامت بحسب مشيئة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية.
قرن من الزمن متطاير ومتنافر
متنافر ومتطاير، يسعى العالم في القرن الواحد والعشرين وراء الاستقرار. على المستوى الجيوسياسي لقد أفضت الدبلوماسية التحويلية الهادفة إلى تصدير الديموقراطية والسوق بالقوة العسكرية، إلى إخفاقات دامية. إذ ألفت الديموقراطيات نفسها في تناقض مع مبادئها فيما استفاد أعداء الحرية بهوامش واسعة للمناورة (…). ومن هنا أهمية أن ينشئ أقطاب العولمة المختلفين مؤسسات تسمح بنزع فتائل النزاعات القومية أو الاقتصادية، وبتوسيع نطاقات التبادل الحر وفتح المجتمعات، على غرار الاتحاد الأوروبي وغيره، وربما في الغد القريب إيجاد سوق عبر أطلسية كبرى. ومن هنا ضرورة التخلي عن وهم انتظام الأسواق من تلقائها والتفكير بأدوات سياسية غير دوريّة لإعادة تحديد المعايير القانونية والمالية والحسابية للرأسمالية المعولمة، تفادياً لفرض عقوبات على التصرفات غير الأخلاقية على هذا الصعيد. ومع ذلك إنه لمن قبيل التوهّم أيضاً، لا بل وقد يكون من الخطير جداً، السعي لإزالة كلّ شكل من أشكال عدم الاستقرار ما دام هذا الشكل شرطاً من شروط الحرية والنموّ الاقتصادي اللذين لا ينفصلان عن مبدأ المخاطرة.
نهاية عدد من الدورات التاريخية
إنّ مطلع القرن الواحد والعشرين يؤشر على نهاية عدد من الدورات التاريخية الطويلة: الدورة التاريخية لهيمنة الغرب المطلقة على العالم والتي بدأت في القرن السادس عشر؛ دورة ثقافة عصر الأنوار التي بدأت في القرن الثامن عشر وتميزت بالفصل بين العقد الاجتماعي الذي يحكم حياة الأمم الداخلية وبين غابة العلاقات الدولية وكذلك احتكار الصيغة السياسية للدولة؛ الدورة الاقتصادية لرأسمالية منتظمة حول سيطرة مركز ما. هكذا تدخل البشرية عصر تاريخ جامع. والتاريخ الذي يتشاطره جميع الناس لن يكون بالضرورة سلمياً ومزدهراً وسعيداً وهانئاً. فمصير القرن يرتبط إلى حدّ بعيد بإرادة وصفاء بصيرة وحكمة الأمم والشعوب الحرّة.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى