العروبة وشقاء الوعي العربي
د. برهان غليون
تشكل العروبة موضوع نقاش متجدد في عالم اليوم. وإذا كان من الصعب لأحد أن يشكك في صينية الصيني أو فرنسية الفرنسي أو أميركية الأميركي، رغم أن الصين تضم عدداً لا يحصى من القوميات الصغيرة، وأن فرنسا تشكلت من مجموعات قومية لم تنصهر بعد تماماً في كتلة لغوية واحدة، فإن أميركا رغم سيطرة المزيج الأوروبي الأبيض عليها، تؤلف مزيجاً من القوميات التي هجرت إليها، بل هي أمة المهاجرين بامتياز، أوروبيين كانوا في أصلهم أم غير أوروبيين. لكن الأمر ليس كذلك مع العروبة. ولا يقتصر التشكيك على معناها، بل يشمل وجودها أيضاً، كما لا يقتصر على الآخرين، الغربيين بشكل عام، وإنما يتعدى ذلك غالباً إلى عدد كبير من العرب أنفسهم. فإذا كان الأولون يعترضون على وجود شعب عربي يقطن أقطاراً متعددة لكن توحده مصالح ومشاعر وتطلعات واحدة، فهم يؤكدون على وجود شعوب مختلفة أخفاها الدين الواحد واللغة الواحدة التي ارتبطت به، لكنها في طريقها لأن تستعيد وعيها بذاتها وهويتها الخاصة… فإن قطاعات واسعة من العرب تنزع إلى نكران عروبتها أو إلى تجاهلها أو عدم إعطائها قيمة ومعنى، أحياناً لأسباب أيديولوجية أو سياسية. ولم يعد الأمر يقتصر، كما كان في الماضي، على الإسلاميين لخوفهم من أن تكون العروبة بديلا عن الانتماء الديني، أو لرؤيتهم فيها عصبية جاهلية، ولا على الشيوعيين والقوميين السوريين وأصحاب الأيديولوجيات القطرية، المتمحورة حول الدولة عموماً، في الماضي القريب، ولا على الحداثيين أو العلمانيين المتطرفين اليوم الذين ينظرون إلى العروبة على أنها أيديولوجية قومية، بل ربما أيديولوجية عنصرية ورديفة للاستبداد.
ليس هناك شك في أن بروز العروبة كمحور هوية جمعية قد شكل في القرن الماضي انقلاباً عميقاً في الوعي الذاتي للعرب، بعد قرون طويلة من سيطرة الهوية الدينية الإسلامية. ولم يكن هذا التحول في استراتيجية الهوية، أو التماهي الذاتي، على مستوى واحد عند جميع قطاعات الرأي العام والفئات الاجتماعية. ولا يزال مصبوغاً، إلى اليوم، في أوساط كثيرة، بذاكرة الهوية الملية أو الطائفية التي ميزت تاريخ العالم الإسلامي الطويل وتقاليده. ولم ينجح القوميون، أصحاب الفكرة القومية وفلاسفتها، في تحرير الشعور بالانتماء العربي كلياً من الانتماء الإسلامي، رغم الجهد الكبير الذي بذلوه في سبيل ذلك. ولعل أكبر مؤشر على هذا كان شعور بعض قادة الفكرة القومية العربية من المسيحيين بالحاجة إلى اعتناق الإسلام أو التقرب من فلسفته ومبادئه، لإظهار انتمائهم العربي أو تأكيده، كما حصل مع ميشيل عفلق.
يضاف إلى ذلك أن التاريخ لم يشهد، في أي حقبة من الحقب، تطابقاً فعلياً بين حدود الجماعة الثقافية العربية وحدود الدولة السياسية التي تنتظم فيها. فقد انقسم العرب في الجاهلية قبائل وعشائر وممالك أو شبه ممالك متنافسة، اشتهرت منها المملكة المنذرية والمملكة الغسانية. وقد تفاقم الأمر مع حركة الفتوح التي واكبت انتشار الإسلام وأدت إلى بناء دولة إمبراطورية تجمع إلى جانب العرب شعوب شرق وجنوب المتوسط جميعاً، وتصهرهم تحت راية إسلامية واحدة. وإذا كان العهد الراشدي ثم الأموي قد احتفظ للعرب بموقع متميز في الدولة الجديدة، فإن تقدم المشروع الإمبراطوري قد فتح المجال أمام صعود شعوب وأقوام أخرى إلى مقدمة المسرح السياسي للدولة، وسمح لهم بإضفاء خصائصهم الفكرية والثقافية، وأحياناً لغاتهم، عليها. وخلال قرنين أو ثلاثة أصبحت السيطرة العربية على الدولة الجديدة من ذكريات الماضي. وجاء العثمانيون منذ القرن الرابع عشر الميلادي ليعيدوا صهر المنطقة نفسها وشعوبها في مصهر الهوية الإمبراطورية التي تجمع بين ملل دينية عابرة للقوميات والثقافات.
وقد استمرت القطيعة بين حدود الجماعة الثقافية وحدود الجماعة السياسية قائمة في القرن العشرين، رغم انحلال السلطنة وظهور نموذج الدولة “الوطنية”. فبسبب غياب قوة سياسية عربية مركزية، لم يسفر تفكك الإمبراطورية العثمانية عن نشوء جماعة عربية موحدة ودولة عربية تتطابق فيها حدود الثقافة القومية مع حدود الدولة السياسية، وإنما أسفر عن سيطرة القوى الأوروبية التي أعادت تشكيل المنطقة من وجهة نظر مصالحها الخاصة، أي من منظور تقاسم مناطق النفوذ، وبالتالي تقسيمها بما يضمن تحقيق هذا النفوذ وتوزيع دوائره بين الدول الكبرى الأوروبية. وكان هذا التقسيم فاتحة لأزمة هوية عربية لم تنته إلى اليوم نجمت عن تصادم الوعي القومي العربي الصاعد، تمثلا للقيم القومية الحديثة نفسها، بواقع السيطرة الاستعمارية وتقسيمها للمنطقة العربية.
من هذه الأزمة، وجواباً عليها، نشأت حركة القومية العربية التي وضعت نصب عينيها توحيد العرب وتحريرهم من النفوذ الغربي والسيطرة الأجنبية، بهدف الوصول إلى الصيغة القومية الحديثة المنشودة، أي مطابقة حدود الجماعة الثقافية، الناطقة بالعربية، مع حدود الجماعة السياسية، أو تكوين دولة عربية قومية بالمعنى الحديث للكلمة، تضع العرب على المستوى ذاته من التطور السياسي والدولي الذي بلغته الشعوب الأخرى.
لكن ما سوف يفاقم بشكل أكبر من أزمة الهوية العربية لحقبة ما بعد الثورة القومية هو إخفاق الحركة القومية العربية ذاتها في تحقيق حلم الدولة القومية أو الدولة الأمة التي تتطابق حدودها الثقافية (الأمة) مع حدودها السياسية (الدولة). فقد أدى هذا الإخفاق إلى وضع الهوية العربية في طريق مسدود، بقدر ما كرس انتصار الخيار النقيض، أي خضوع المنطقة لمنطق تقاسم النفوذ الأجنبي الذي يعني هنا ترسيخ التحالف بين النخب المحلية الحاكمة والقوى الغربية، الأوروبية والأميركية، مما زاد حدة التناقض بين منطق الجماعة الثقافية ومنطق الجماعة السياسية. فلم يعد مصدر الأزمة الشعور بالقطيعة المتزايد والمكرسة بين الانتماء الثقافي المتنامي، بفضل تقدم عملية التحديث والانفتاح على العالم، والانتماء السياسي المرتبط بدولة قطرية أو جزئية فحسب، وإنما أضيف إليه الشعور المتزايد بالقطيعة بين الدولة القطرية المتحولة إلى إطار للتحالف بين النخب المحلية المفروضة بالقوة والسيطرة الأجنبية من جهة والشعب الذي يخضع لها ويعاني من اضطهادها وسياستها التمييزية الاجتماعية والثقافية من جهة ثانية. وهذه القطيعة المزدوجة بين الجماعة والدولة والثقافة والسياسة هي التي تغذي الشعور العميق بخيبة الأمل والخديعة والإحباط التاريخي، وتشكل المصدر الرئيسي لشقاء الوعي العربي والعروبي حالياً.
فليست الهوية صفة ثابتة وجامدة مرتبطة بخصائص جسدية وثقافية موروثة، كالأصل الإتني واللغة، وإنما هي علاقة بين الخصائص الموروثة ومشاريع المستقبل التي تتطلع إليها الشعوب عبر الأيديولوجيات التي تتبناها في حقبة ما. وعندما تخفق هذه المشاريع تعود الإبرة إلى نقطة الصفر، أي إلى الفراغ المقلق والمؤلم. ولا يمكن الخروج من هذه الأزمة إلا بتحقيق النجاح في عمليتين مترابطتين: تحرير العروبة كمفهوم وصفي، أي كأصل وانتماء خام، من العروبة كما يجسدها هذا المشروع الأيديولوجي أو السياسي الذي أخفق أو فقد الأمل بالبقاء، وفي موازاة ذلك تبلور مشروع ثقافي سياسي جديد، يقدم للناس رؤية واضحة للمستقبل، وقيماً ومعايير أخلاقية فاعلة للتوجه الذاتي وبناء السلوك الإيجابي في المجتمع والعالم. وهذا ما لا يمكن فصله أيضاً عن طبيعة البيئة العالمية السائدة والخيارات الفكرية والسياسية والاستراتيجية التي تقدمها للشعوب والجماعات.
جريدة الاتحاد