مولد المسرح البديل ومفهومه
اندريث جونثاليت بوسكي
مسرح بديل أو مولد مسرح آخر. هذا الميلاد يعني مفهوماً، يعني أنه مفهوم، يتحدث عن نظرة، عن عيد، أي انه يضعنا في الفضاء التوراتي، ميلاد وعيد حمل سيدنا المسرح البديل. يُفتح أمامنا لغز البديل، احتمال الاختيار بين مسرح وآخر، بين دين وآخر، بين أخلاق وأخرى، بين نظام سياسي وآخر، رغم أن غياب البدائل أيضاً يمثل بديلنا الوحيد، مسرحتنا الوحيدة.
ومن أجل تفادي “تغير” قدراتنا العقلية وقدراتنا السمعية، فإننا نضعكم دون إجراء أكثر في موضع الذات الأخرى، المراقبة. إنني أؤكد حينئذ أنني فقط سوف أتكلم عن مولد ومفهوم مسرحي البديل، فلا هو خاص بي ولا ملكي، بل خاص بفكاهي، ولهذا قد يعجبكم فكرة إعادة اختراع خطابي من خلال كلمات بالطريقة التي تتراءى لكم، وعليه فإنني أعتقد أنه سيكون هناك مسارح بديلة بعدد الشعر الذي في رأسي.
فليبارك الله في الصلع!
قد يتصور البعض أنني أعطي أهمية لتجربتي الشخصية، لا فالأمر ليس هكذا، فبكل بساطة البدائل التي تقدمها اللغة لا تدهشني بعد، وذلك كي نهتم بحكاياتنا الشخصية. فذات يوم كان الملا نور الدين يستمع ضابطاً بينما كان يستعد لمعركة وهو يقول:
ـ سأنتزع قلب أعدائي! لأقطع رؤوسهم وسأرفعها على الرماح كي يراها الجميع! سأقص ألسنتهم!
ـ فقال له الملا: لماذا لا تمارس هذا مع لسانك أولاً؟ وهكذا لن يكون علينا سماع تبجحاته!
إنني أطلب من هؤلاء الذين يفكرون مثل الملا نور الدين خلال كلمتي هذه أن يتحلوا بالتسامح، فسوف يأتي دورهم.
سأتكلم عن تأهيلي في مجال المسرح التجريبي في كالي بكولومبيا تحت اشراف الاستاذ إنريكي بوينابنتورا، بربط ما هو “تجريبي” بما هو “بديل”، في أميركا اللاتينية التي تعاني من الانقلابات وحروب العصابات. ثم سأتحدث بسرعة عن إقامتي في اسبانيا في الفترة بين عام 1977 و1980، الفترة الانتقالية الى الديموقراطية بعد فرانكو الى أدولفو سواريث، وعلاقتي هناك بجمعية المسرح المحترف المستقل وما هو البديل.
بعد ذلك سأعرض حياة وموت فرقتي “المسرح السيرك الخيالي” في تشيلي ما بعد بينوتشيت في عقد التسعينات وتجربتي الهامشية. ثم سأتحدث عن وضعي كمهرج في الأكاديمية كأستاذ اخصائي في قضايا عامة في اسبانيا التي يحكمها ثباتيرو.
مسرح كالي التجريبي
في محاولة لعيش أسطورتي الشخصية، تركت دراسة الهندسة المعمارية في سنة 1971 سعياً وراء البحث عن مصير، فيلم Easy Rider مع دنيس هوبر، ومن تشيلي أتوجه الى كوبا اقتفاء لأثر تشي غيفارا.
وفي ليما وأركيبيا نخترع ونعيش عيشة صعبة مع مسرح للطلاب الماويين في بيرو (تذكروا أين ولدت منظمة الدرب الساطع، فرقة حرب العصابات التي نشأت في السبعينات). وفي الاكوادور أمثل أمام فلاحين مندهشين في قرية صغيرة تدعى خيبي خابا، حيث يطردونا بإلقاء الطماطم علينا إذ لم ترق لهم مسرحيتنا الماوية، ليس لأنها ماوية التي لم تكن هكذا، بل لأنه لم يكن هناك من يعرف من هو ماوتسي تونغ. كانوا يأملون في مشاهدة كوميديين وأنا لم أكن أستطع بعد أن أكون هكذا. هذه الرحلة الاولى كانت لها محطة أولى في كيتو حيث التقيت أحد أعظم عملاقة المسرح في أميركا اللاتينية، انه إنريكي بوينا بينتورا.
شاهدت مسرحية “جنود” في أول دورة من مهرجان كيتو، قدمها مسرح كالي التجريبي، وحضرت كافة اللقاءات مع الأستاذ أتاهولبا ديل ثيوبو، أوغست بول وإنريكي بوينابنتورا، وراودتني نفسي تجاه امرأة سمراء ضمن فرقة المسرح هذه، سحرتني بجمالها، إغراء بيرسفون وديونيس ـ باكوس.
كانت تلك هي مدرستي، فقد تحولت التبادلية الى استمرارية، فبقيت في كالي خمس سنوات أتعلم مهنة المسرح.
كان إنريكي بوينابنتورا كاتباً مسرحياً ومخرجاً وممثلاً في “مسرح كالي التجريبي”. كانت هذه الفرقة قد ولدت عام 1956 في كولومبيا في عهد الديكتاتور روخاس بينيا، ووصف هذا العهد بالديكتاتورية الرخوة لأنه توصل الى اتفاق مع رجال حرب العصابات وسمح للمرأة بالتصويت. كان إنريكي بوينابنتورا قد أخذ على عاتقه تشكيل أول جيل من الممثلين يولد في كونسرفتوار الفنون الجميلة في كالي، وهي مؤسسة استدعت في الخمسينات كايتانو لوكا دي تينا، الممثل الاسباني البارز، الذي التقى أناساً لم يسمعوا قط بغارثيا لوركا ولا بكالديرون دي لاباركا، ومن كان يقرأ منهم كان يقرأ خطأ، والبعض الآخر منهم كان أمياً، وكان بعضهم ينشد شعر لوركا من الذاكرة، دون أن يعرف أن ينشد شاعراً يدعى لوركا: إنني حملتها الى النهر/معتقداً أنها فتاة،/إلا أنها كان لها زوج…
لقد رفض كايتانو لوكا دي تينا، الفارس الاسباني، إعداد جيل من الممثلين بين أناس كان عليه أن يعلمهم القراءة والكتابة. وعليه فقد استدعوا إنريكي بوينابنتورا الذي كان في تلك الفترة يهيم على وجهه بين تشيلي والأرجنتين والبرازيل.
قرر إنريكي توقف الترحال البديل وقبول منصب مديرهذه المؤسسة في هذا المسرح “مدرسة كالي” الذي كان ينتمي الى كونسرفتوار الفنون الجميلة.
تم إخراج وعرض عدة أعمال لأول مرة: مسرحية “أوبو ملكاً”، وفيها لم يدرك الدكتاتور روخاس بينيا أنه مقصود فيها، ولكن في مسرحية “الخدعة” (سخرية مفتوحة من العسكر) حيث حدث ما يلي: تم نقل فرقة مسرح مدرسة كالي مجاملة من القوات الجوية الكولومبية في طائرة حربية الى بوغوتا لعرض مسرحية “الخدعة” وبعد تقديم العرض رفضت الطائرة الحربية إعادة أعضاء الفرقة الى كالي، ثم أقيل إنريكي بوينابتنورا كمدير لمدرسة الفنون الجميلة للمسرح، وعادت الدكتاتورية الرخوة دكتاتورية حقيقية. الممثلون كلهم رحلوا معه وكان هذا أصل المسرح المستقل والبديل في هذه المدينة غير الصغيرة التي تدعى كالي. لم تعد تسمى الفرقة “مسرح مدرسة كالي” وأصبح اسمها ابتداء من عام 1956 “مسرح كالي التجريبي”. وبدأ عقد الستينات الذي كان بمثابة عقد تجريب أكثر منه عقد بدائل.
كانت وكالة المخابرات المركزية الأميركية قد بدأت تهتم بتحارب عالم النفس إيون كاميرون Ewen Cameron الذي كان يطبق نظام الصدمات الكهربائية لمحو وإعادة تشكيل الفرد المشوش. وكانت حالات التشويش المرضية التي تخلقها الديموقراطية الهشة في أميركا اللاتينية للديموقراطية الإمبريالية الأميركية يعالجون بنظام الصدمات. ومن هنا ظهرت ما كان يطلق عليه “نظام الأمن الداخلي للدولة” الذي كان يعد في “مدرسة الأميركيتين العسكرية” العسكر الذين دمروا بالصدمات الكهربائية الحركات الشعبية في أميركا اللاتينية. من هذه المدرسة في بنما School of Panama خرج دهاة بارزون مثل بينوتشيت في تشيلي، بانثير في بوليفيا، غالتيري في الارجنتين.
في هذا السياق الاجتماعي السياسي يعيش “مسرح كالي التجريبي”، “ال غالبوشن “أتاهو لابا ديل ثيوبو في مونتفيديو، “مسرح الرمال”، لأوغستو بوال في ساوباولو. أي المسرح التجريبي. أي ما يعني المسرح البديل كان مسرحاً بلا تنظيم.
كان يدافع عن نفسه، يجد جمهوره، مواضيعه، لغته، تنظيماً أو كان يختفي كمسرح يساعد الهضم للصفوة الحاكمة، أو يخاطر بالاختفاء في قائمة مختفين. كان هو التجريبي للكثير من الفرق في أميركا اللاتينية: البقاء على قيد الحياة بكرامة أمام الاضطهاد الفكري، التدمير الاقتصادي وفقدان المساندة.
حركة المسرح الجديد في كولومبيا
ونظراً لأنه لم يكن في كولومبيا بورجوازية مهاجرين قادرة على الاحتفاظ بمسرح لها تساعده وتسانده، أخذ المسرح التجريبي في كالي ومسرح لاكانديلاريا في بوغوتا بالبحث عن جمهور جديد من الفلاحين والعمال والطلاب الذين يقررون مناخاً من المواضيع ذات الأهمية، يطرحون فضاءات مسرحية غير تقليدية، تجعل من اللقاء المسرحي ميداناً، مكاناً للإثارة للقضايا العامة والسياسية من خلال مسرح محفل.
مسرح أتاهو لابا ديل ثيوبو يعرض بريشت، أوغستو بوال يجرب مع المسرح اللامرئي، مسرح حرب العصابات ومسرح المقهور، إنريكي بوينابنتورا يبدأ من أعمال مثل “الشجب” أو “جنود”، يعالج اضراب شركات الموز ضد شركة الفواكه الأميركية United Fruit Company وهو الاضراب التي أخمد بالدم والنار على يد الجيش الكولومبي.
تحولت نظرته أيضاً صوب الحكاية الشفهية التقليدية وولد “على يمين الله الأب”، أعمال يقوم فيها فقراء الارض بنهر واستجواب الذات الإلهية لتخليها عنهم في عالم مليء بالظلم. هذه المسرحية لإنريكي بوينابنتورا تنشط الروح الدينية الشعبية التي تهز روح سانتياغو غارثيا الذي يبدأ مع “لاكانديلاريا: عرض مسرحية “حياة وموت سيفيرينا دي جواو كابريا دي ميلو نيتو”. فالموت المتوقف والمجدب، الموت المتودد اليه، الموت العاشق والمخصب على يد الحياة، يناقش في مسرح كرنفالي يقلب العالم رأساً على عقب. انه مسرح يهدم المشاهد المسرحية، التقاليد، مسرح فقير، إلا انه في تلك الحقبة وصل غروتوفسكي الى مهرجان مانيثاليث Manizales بينما يعكس جسد الممثل ثيسلاك Cieslak النحيل أو رينا ميريكا Rena Mirecka الزهد الاجباري لجيوس أميركا اللاتينية الفقيرة.
الطاعون والفقر اللذان يتحدث عنهما أرتو يرقصان رقصة موت في الكنائس، في المصانع، في الجامعات، في الشوارع وينصهران في حفل وثني وديني: إنها أوبرا شعبية في مدينة باهيا Bahia مثلما في “بومبا ميو فوي”، “حكايات للعم الأرنب”، تحكيها السيدة بيلار إراثو مونتانيو في مركب صغير في نهر غوابي في كولومبيا. الجانب الافريقي ورد من امبراطوريات مثل بنين وايفي كي يحكيها العبيد في مزارع القطن. تمثيل جنائزي يغني مدائح وتعميداً. تمثيل “الحبيس”، معركة مسلمين ومسيحيين في قرية تيرانا الصغيرة في صحراء شمال تشيلي تعالج كيفية نشر الدين المسيحي بالبندقية والصليب الدامي. عواء التعذيب الذي يطلقه الـLiving Theatre من خلال عروضه في باو دري أرارا بالبرازيل على يد جوليان بيك معلقاً من العورات. الشكل المهذب للاحتجاج الذي لسان san Francisco Troupe رانشيسكو ميميه تروب من خلال شخوص كوميديا ديلا أرتي، التعبير عن شكل الحياة والطقس الآكل من خلال Bread and puppet يخلق سلسلة من نجوم الورق على المسرح.
لقد تأهلت في ثقافة بديلة تقاوم الاستعمار وكانت تجادل حول هويتها أمام ثقافة المستوعبين، طبقة كانت منغمسة بشكل أو بآخر في العالم الرسمي تجمعها به علاقة انتهازية مفتوحة أو مقنعة. طبقة تشكلت من مترجمين، قاموا باقتباس الثقافة الغربية وشعبويتها، يقومون بجهود يائسة كي تتشابه ملامحنا قدر المستطاع مع أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. تمازجات ثقافية ترفض تحويل المشكلة الحية لهذا التوالد هدفاً لبحوثها وتهضم الغازي، مثل طبقاتنا المسيطرة وحكوماتنا، وهي التي يحتقرونها ويحاربونها أحياناً فاصلين حالتهم الحقيقية عن أفكارهم السياسية.
إنني أشك في أن هذه المجموعات المهضومة تتطلب تسمية تلك التظاهرات المسرحية التي لا يمكن وصفها وتسفر عن عدم ثقة ما يمنحها حالة مؤقتة وبديلة، فيشكلون هم ما هو دائم ورسمي.
في تجربتي الشخصية مصير المسرح البديل هو الاستمرارية، الرحلة، البقاء، وعكس ما هو بديل ما يبقى، لكن ما يبقى ليس بالضرورة هو المسيطر. ليست تجارة المسرح هي ما يميز فن ديونيس: “رجال الأعمال وملاك الأراضي يمرون، بينما الممثلون وكتاب المسرح والمخرجون يتجاوزون الزمن.
البديل هو الآخر. إنه الآخر ـ الاصلي. الآخر الذي يولد. يتشكل دائماً بالنسبة لمسرح يرفضه البديل أو على الأقل يحرسه. يظهر كمسرح مقاومة، كعصيان دائم. لم لهذا المسرح الرسمي وجود في كولومبيا. لم يكن ممكناً خلق حالة مثل هذه في وجود برودواي. ولا حتى مسرح مستقل في الجامعات مثلما حدث في تشيلي ولا مسرح معمل مثلما حدث في بوينوس آيريس. كان من الضروري اختراع مسرح. كان المسرح موجوداً في المهازل الشعبية ذات الفصل الواحد والحفلات التنكرية الشعبية التي كانت تؤدى في القرى، في حكايات السود في ساحل الهادئ، في تمثيليات المسلمين والمسيحيين، إلا أن هذا لم يكن يطلق عليه اسم مسرح وكان ينتمي الى ثقافة مخجلة. بوينابنتورا والفرقة البروائية يو اتشكاني Yuyachkhani وآخرون أدوا مسرحاً ثراً ونشطاً.
إنريكي بوينابنتورا شاعر، مصور زيتي، كاتب مسرحي، مخرج وممثل… انه الرجل الذي يبني المسرح بيديه وفي الوقت نفسه يبدع طريقة إبداع جماعي. جسد نظري يقدم اسهامات تبدأ من فرويد الى ستانسلافسكي. من ليفي شراوس الى جوليا كريستيفا. من سوسير الى السكليين الروس. ومن جونغ الى لاكان. بوينابنتورا يمثل نموذجاً، نوعاً من القادر على كل شيء، رجل يحمل الفرقة على ظهره إذا تطلب الأمر ذلك.
هذه الاسطورة للفرقة التجريبية البديلة، المستقلة، في حالة براد آند بوبيت Bread and puppet لمسرح TEC في كالي، من مسرح la Candelaria في بوغوتا، هذه الاسطورة التي تحولت الى واقع وهذا العشاء المتقاسم في سان فرانشيسكو ميميه تروب أو في مسرح لويس بالديس… يشير الى طريق يتوازن بين رجل الأعمال والزعيم السياسي والروحي.
ومع ذلك فإن هذا لا يبرئ إنريكي من مولد مؤسسته الذاتية في النزاع الذي أدى الى ضعف النواة الأصلية للفرقة، إذ تم الخلط بين النزاع على العقارات والاختلاف في الأفكار.
يمكننا تنشيط نموذجه لما هو بديل: الخاص بمدرسة المهرجين، ابناء الشيطان، أبناء يهوذا… لبيبي غريللو، لديودون، لداريو فو وحتى ألبرت بوداييا. أي السري لمهرج وفرقته. سيقوم المهرج بوضع رأس وسيرى الأشياء على العكس.
قلب الأشياء. مفهوم العكس
بديل المسرح هو المسرح التجاري، التجاري الحقيقي، الإنتاج الكبير. المسرح البديل هو المسرح الرسمي. المسرح المساعد على الهضم مع سينوغرافيات يمكن العيش داخلها. رؤساء الفرق العابرة للحدود يقدمون مسرحاً بديلاً. اليوم كلهم يهون المسرح. هذا هو ما جعلنا نراه بريشت في “أرثر وي” كيف كان يعد خطاباته المبيض الذي ركع أوروبا. الممثل الرئيسي في الاشتراكية الوطنية هتلر كان عاشقاً لفريق الدكتور كاليغاري وعروسته القاتلة.
اليوم لدينا التمثيل الهزلي على يد بيرلوسكوني. معنى المسرح على يد ساركوزي وزوجه. التمثيلية الهزلية لماكين وبالين. ساحر الثعابين، بيرلوسكوني تشيلي صاحب قناة “تشيلي بيسيون” يأتي بعرضه الذي يظهر تشيلي كشركة محدودة، تشيلي معروضة للبيع، كمنتج تجاري. لقد تحولت المسرحة الى هندسة الرضاء: عرض الأعمال هو أفضل الأعمال the Show Business is the best Business
ما أخشاه هو أنني بدلاً من تعريف اللفظ سأحيطه باللبس، إذ انني اطلق بديلاً على ما هو تجاري، على ما هو قائم، المسرح القاتل الذي تحدث عنه بيتر بروك، عرض البرجوازية القنوع الذي تقدمها لنفسها لتحتفل بنفسها وترضي نفسها.
كان المسرح مرتبطاً دائماً بالحفل الذي كان يقيمه يونانيون وسط نبيذ ديونيسيوي.
المسرح لا يتخلى عن كونه بديلاً، فهو مكتوب بقهقهات باكوس أو صحكو سلينوس التي تقول لنا إن أفضل شيء كان من الممكن أن نفعله هو ألا نكون قد ولدنا. انه مسرح الصرامة، القسوة، التي تكسر المواعيد التي يفرضها نظام إنتاج مسيطر. مسرح يخلق وشائج متضامنة لا يمكنك ان تختلس منها دفاعاً عن خصوصيتك. صناعة المسرح صناعة السينما، لها تحويليون يتمتعون بمهارة فائقة، يتمتعون بالايماء والكلمة والصوت والغناء وبعضهم يصل الى أن ينقل الينا بقوة ما لديه إلا أنهم جميعاً سوف يحاسبون أمام الذات الإلهية. وهذه الذات الإلهية الديونيسيية لا تسأل عمن هو البديل أم لا. ببساطة هؤلاء الدخلاء الذين دخلوا بلا تصريح ومتخفين تحت شخصية امرأة، يقطعون رؤوسهم مثلما حدث مع الملك بنتويس في مسرحية يوروبيديس “نساء أسخيل”.
إن مصير المسرح البديل هو الاستمرار كونه بديلاً. ووصف المسرح البديل تنطلق من المسرح القائم، من مسرح تجاري أو من مسرح تجاري وثقافي. إلا أن المسرح البديل يُعرف نفسه بنفسه كطاقة كهربائية. انه متغير ومستمر. يُشعل وُيضاء ويُطفأ.
استمرار التغير لا ينتهي بالضرورة بوضع واختفاء ما هو بديل في دائرة المسرح التجاري، الرسمي أو المؤسسي. بل على العكس فإن هذه الدوائر آلات تحاول تحول المسرح الى بضاعة. سواء أكان بديلاً أم لا، فهذا لايهم، ما يهم هو أن يُباع. لا يوجد مسرح تجاري، ما يوجد الاتجار بالمسرح، لا يوجد مسرح مؤسسي، توجد البيروقراطية المسرحية.
كل ما هنالك هو المسرح البديل. لا يوجد أكثر من بديل للمسرح سوى أن يكون سريع الزوال، يولد مرة واخرى من ذاته. الزعم في مسرح قائم وتجاري أو رغبة مبرمجي المسرح في الاستمرار أبد الدهر ليست لحسن الحظر سوى رغبة.
في الأسطورة الغربية نجد أن الممثل الأول تسيبيس قد طرد من أتيكا على مشرع الصولون ويدان بالسير وهو يجر عربة تسيبيس بدون موارد سوى اقنعته وتحولاته. ما هو بديل يثير الأسئلة حول القانون ويضعه في موضع الاستثناء. قانونه ومبدؤه هو التحول. هويته هي الآخر. ما هو دائم هو الترحال.
جمعية المسرح المستقل المحترف في حلبة الفترة الانتقالية الإسبانية
عندما يقوم مصارع ثيران بترك مصارع متدرب يصارع في الحلبة الرئيسية يقال انه منحه البديل.
عندما استضافنا كارلوس سانشيث، ممثل فرقة تابانو Grupo Tabano، نحن ثلاثة ممثلين من ممثلي المسرح التجريبي في كالي في سنوات الانتقال من ديكتاتورية فرانكو الى حكومة ديموقراطية تحت قيادة سواريث، كان يقدم آخر عروض كاستانيولا 70، حينئذ شعرنا بأننا “نُمنح البديل”. جمعية المسرح المستقل المحترف في حلبة الفترة الانتقالية الاسبانية استقبلتنا، تركت لنا دائرتها المسرحية، تحركاتها. تركت لنا احدى قاعاتها، التضامن والمساندة لتنظيم مغامرتنا المسرحية في اسبانيا. لقد مُنحنا البديل ونزلنا الى الحلبة.
عرضوا علينا أن نقدم مسرحاً للطفل، لأن هذا هو ما كان من الممكن بيعه لقاعة كارداثو وللتلفزيون. كانت فسحة عامي 1977 ـ 1978. لم أجد شيئاً أفضل من استقاء الهامي في رقصة الموت. كان عرض مسرح الأطفال عرضاً مناسباً. مملكة الفوضى.
أعتقد أن كارلوس سانتيث لم يكن مقتنعاً برؤيتي لمسرح أطفال. طلب مني أن نمحو كلمة “جمجمة” ونبقي فقط على كلمة “كرنفال”. ومع ذلك ولد هناك البديل الخاص بي: مجنون الكرنفال، المهرج. كان الموت ساخراً، قناعاً لا يؤمن بشيء سوى التحول. وانطلاقاً من هذه الفكرة قدمت مسرحاً حيث يستطيع المجنون أن يسخر من الموت. على غرار ما يحدث في مسرحية “غموض المهرج” لداريو فو: المجنون والموت، مثلما يحدث في الزمن الأسطوري ليوم الموتى في المكسيك، في مأدبة شبقية يتقاسم فيها المكسيكيون الطعام مع موتاهم. في هذه الحالة يختلط الجميع، تتماهى الحدود بين الممثلين والمشاهدين. ليس هناك شيء أكثر فرحاً وأكثر حزناً في الوقت نفسه من تقاسم الابتلاع بين الحياة والموت.
بهذا مات حلم فرقة كبيرة مرتبطة بالمسارات الاجتماعية، لها انشغالاتها الكبيرة، ملحمة الاستاذ إنريكي بوينابنتورا القادر على الحوار مع رئيس كولومبيا لوبيث ميكلسن أو مع زعيم منظمة فارك FARC مارولندا “تيروفيخو”، الذي توفي مؤخراً، أصبحت تلامس نهايتها بالنسبة لي، الميل الى تحويل العالم من خلال العنف الثوري أخذ في الانهيار حولي. وهذا الحلم العظيم، حلم اقتفاء أثر تشي غيفارا، تحلل. عندها وضعت نفسي في خدمة مجنون مهرجان، صاحب الضحكة الساخرة والتهريج غير اللائق. اجتمع الثوري والمجنون ويتبادلان النظرات ليس فقط من خلال أسطورة تشي غيفارا.
لقد شاهدت بعيني كيف ولدت وكيف ماتت فرق جمعية المسرح المستقل المحترف. مثلت في أحد آخر أعمال تابانو Tabano، الفرقة الأسطورية التي أدارها في لحظة ما خوان مارغايو ثم أخذت في الانطفاء رغم قيادة غييرمو إيراس رابطة الجأش لها.
“لا تارتانا”، “كوميدياس”، “لا إسميرالدا”، “الفرقة الدولية للمسرح” و”الفرقة الأثرية في لاسب بنتاس”، كلها اضاءت، لمعت وأطفأت أضواء ونمت مؤسسات وتم تمويل المسرح. هذه الدائرة للمسرح المستقل التي نشأت في شبه جزيرة أيبيريا في الوقت الذي تنامى فيه تقييم الكرنفالات الممنوعة على يد فرانكو، وكانت تدول الى جانب الانفجار الاسباني، تسبب في قطع للكهرباء وأطفئ شيئاً فشيئاً.
عن هذه الفترة لن أقول شيئاً لأن هناك من يعرفون هذه الظاهرة أفضل مني، بالإضافة الى أنني قررت العودة الى تشيلي في الثمانينات حيث أسست فرقة “مسرح السيرك المتخيل”. ويمكنني ان أختتم مشيراً بصورة فظة: كنت أعزف الساكسفون مع فرقة لا تشارنغانا “خير أصول” وفي لقاء فرق موسيقية لموسيقى مصارعة الثيران في لاس بينتاس، في مدريد، فوجدتهم يعزفون مقطوعة اسبانية مشهورة “اسبانيا الغجرية” تحت قيادة موسيقار من الحرس المدني.
دخلنا من أحد أبواب الحلبة بينما كان مدير فرقتنا يقف وظهره نحو الجمهور فما كان منه إلا أن يلامس بمؤخرته سور الحلبة، فانفجرت الساحة ضحكاً ولم نستطع مواصلة النفخ في آلاتنا الموسيقية إذ من المعروف أن الضحك معد.
كان المشهد وكأنه مستخرج من “قرون السيدة فريوليرا” للشاعر المسرحي بايي إنكلان. كانت اسبانيا تخرج من مرحلة سواريث وتدخل مرحلة حكم فليبي غونثاليث. وبعد قليل شاهدنا مشهد ضابط الحرس المدني تيخيرو يدخل شاهراً مسدسه ومطلقاً منه الرصاص في البرلمان الاسباني.
[ قدمت هذه الورقة في الندوة الفكرية التي عقدت على هامش مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي الأخير.
(باحث تشيلي)
المستقبل