كريس ماركر يقدم درسا سينمائيا في تحفة جديدة: شاعرية الصورة الفوتوغرافية في السينما
أحمد الحقيل
مهما حاولنا فلسفة مفاهيم السينما أو التنظير لها.. فإن الحقيقة التي ستظل بديهية للناقد أو المنظّر أو المشاهد العادي.. هي أن السينما في جوهرها صور. هنالك الكثير من العلاقات التي تربط السينما بعوالم الإبداع الأخرى، سواء الأدبية والفكرية التي تبني الجزء المضموني، أو الفنون الجمالية التصويرية التي تكوِّن علم الجمال السينمائي.. ولكن الفن الجوهري الذي ارتبطت به السينما في أوائل ظهورها هو فن الفوتوغرافيا. عندما تم اختراع الفوتوغرافيا فعليا في عام 1839 نتيجة مجموعة من المحاولات المنسوبة عموميا للثلاثي جوزيف نيسفور ولويس داجير وويليام تالبوت؛ سبَّب نقلة نوعية في حد ذاتها، وثورة علمية وفنيـة استطاعت أن تصور الحيـاة الواقعية على حقيقتها، وكما هي.
ونشأ حينها صراع حامي الوطيس بين مدرستين بتوجهات مختلفة تماما، هما المدرسة الواقعية والطبيعية، حيث شدد الواقعيون على ضرورة الفوتوغرافيا كبديل أساسي وحتمي، لأنه الريشة الخاصة والمباشرة للطبيعة دون أن يزيفها الرسام بأفكاره الخاصة وأطروحاته الذاتية، أما الطبيعيون فقد اعترضوا على هذه الفكرة وحاولوا تهميش الفوتوغرافيا، حيث رأوا فيها كما يشير المنظر باندوبولو (تعبيرا ميكانيكيا محضا لا يرقى إلى مستوى التعبير الفني المطلق المستقصي لغايات جمالية محددة). الشاعر الفرنسي الشهير شارل بودلير كان له شأن أيضا في هذا الصراع.. حينما قرر معارضته الحادة للفوتوغرافيا، مبررا ذلك بقوله (إنني أؤمن بالطبيعة، ولكنني لا أرى أن الفن هو إعادة إنتاج لها.. إن الخدع التقنية القادرة على إنتاج الطبيعة تجعل من الفوتوغرافيا فنا ساذجا لا أكثر!). هذه الرؤية المتطرفة ناشئة من أن الطبيعيين ينظرون إلى الفوتوغرافيا على أنها فن جامد، يخلو من الحس الإبداعي، ويقتل الطبيعة حينما ينقلها كما هي تماما، خالية من روح الفنان ولمسته الفنية. فالفن لديهم ذاتي النزعة، يجب أن يكون للفنان نصيب في توجيهه وبنائه بالطريقة التي يراها مناسبة.. ولا يظنون أن الفوتوغرافيا قادرة على تحقيق ذلك. والواقعيون على الطرف الآخر يمتدحون الفوتوغرافيا انطلاقا من أنها انعكاس للواقع ليس إلا، فهم لا يرون فيها إمكانات إبداعية ذات أبعاد فنية، بل لأنها تعكس الواقع بصورته الحقيقية التي تشوهها ريشة الفنان بذاتيته ورؤيته الخاصة. وظلَّت الفوتوغرافيا تطوِّر نفسها بأساليب جديدة وتقنيات حديثة على مر قرن كامل، أثبتت فيه أنها قادرة على خلق صيغ تعبيرية شديدة الخصوصية، إلى أن أصبحت في وقتنا الحالي مزيجا من الصورة الواقعية والفن التشكيلي حينما يتم التلاعب بها عن طريق برامج التصميم الكمبيوترية. ولكنها أثناء ذلك لم تكتسب الصيغة المميزة التي تمنحها استقلالا فنيا، وإنما ظلَّت تتوارى في الظل، بل أنها اندمجت مع السينما ولكن عن طريق تحولها من الصيغة الثابتة التي نشأت عليها إلى الصيغة المتحركة التي قامت السينما على أساسها. هذا ما نستطيع قوله عن الفوتوغرافيا كفن مستقل. ولكن لنعد قليلا إلى الوراء.. كريس ماركر هو مخرج ومصور فرنسي لا يمتلك شهرة عريضة أو مكانة كبيرة، ولكنه رغم ذلك يعد اسما معروفا في السينما الفرنسية، وأعماله الروائية والتسجيلية تتميز بحس فني عالي المستوى، وتعمق في جماليات الصورة السينمائية. كونه في الأصل مصورا، ثم سينمائيا؛ فقد كون ماركر وجهة نظر شديدة الخصوصية تجاه السينما كفن تصويري، عكس غيره من أغلبية المخرجين الذين لا يمتلكون علاقة وثيقة بالتصوير كفن قائم بذاته. هذه العلاقة التي كوَّنها ماركر بين السينما والفوتوغرافيا منحته قدرة كبيرة على تمييز السينما كفن تصويري قبل أن يكون فنا متكاملا ذا عناصر متعددة، ما جعله يرتبط ارتباطا وثيقا بالسينما «كصورة»، قبل أن يرتبط بها «كسينما». وتجسَّد هذا الارتباط الوثيق في تحفته القصيرة La Jetée التي لا تتجاوز 28 دقيقة في عام 1962. حيث قام ماركر بتصوير الفيلم فوتوغرافيا، فهو كتلة من الصور الفوتوغرافية التي تم جمعها على طول الفيلم، دون وجود أي لقطة حركية. عندما تستطيع تحريك الصورة في عمل سينمائي؛ فلماذا تخاطر بإيقافها؟! هذا هو السؤال الذي قد يُطرح على ماركر بعد مشاهدة فيلمه. والجواب عن هذا السؤال معقد نوعا ما. فقد تحدثت في مقال سابق عن الزمن، وخصوصا حول مفهوم القبض على اللحظة الزمنية التي أشار لها تاركوفيسكي في قصته مع الشيخ المسلم الذي سأله مستعجبا بعدما رأى صورته التي صورها تاركوفيسكي «كيف أوقفت الزمن؟!» في فيلم ماركر، تتضح لنا جليا هذه النظرية: القبض على اللحظة الزمنية عن طريق ثبات الصورة الفوتوغرافية. وبالتالي فالفيلم يعمل على مستوى تصويري عال.. إذ يكشف عن أدق التفاصيل الشخصية، ويتعمق في اللحظة الثابتة التي تمر بها الصورة الفوتوغرافية، لأن الصور الثابتة تمنحنا فرصة لملاحظة لحظة واحدة عابرة تم القبض عليها بشكل خاطف لتقدم لنا ما نبحث عنه، ولذا فإن صورة واحدة تتحدث باختصار متكامل عن لقطة كاملة، لأن كل الصور تم اصطيادها بطريقة معبرة لأقصى حد. ولهذا ينشأ أثناء الفيلم ما يشبه الشعور بالحميمية، حيث أن الصورة الفوتوغرافية لا تتحرك، وبالتالي فهي خارج نطاق الزمن الحركي، إنها ثابتة، وكأنها تنقض على اللحظات الزمنية لتقبض عليها وتقدمها لنا في صورتها التأملية، ما يشعرنا أننا في منطقة فارغة خارج الزمن. ولهذا السبب؛ فإن الصور الفوتوغرافية التي نحتفظ بها من ماضينا.. هي أكثر تعبيرية من تلك المتحركة، لأن الصورة الثابتة تمنحنا شعورا بالهلامية الزمنية، وكأننا خرجنا من نطاق الحاضر وخرجت هي من أوباش الماضي، كي نلتقي في منطقة لا زمنية، بعكس الصور المتحركة التي تشعرنا حركيتها بالزمن. ولذا فإن ماركر قدم رائعة سينمائية شاعرية مشبعة بالصور التأملية التي تأخذ بيدنا بعيدا عن حركية الزمن، ونحو منطقة لا زمنية توافق فكرة الفيلم الذي يتحدث عن الماضي والمستقبل وعن القفز بينهما.
موقع صفحات سورية وفر الفيلم في “صفحات الاصغاء