انصات حر: بأي لغـة نكتب؟
محمد بنيس
ثمة أمر أصبح مطروحاً علينا، اليوم. أختصره في عبارة: بأي لغة نكتب؟ لا أقصد هنا اللغة بمعنى اللسان. هل نكتب باللسان العربي الفصيح أم بالعامية، باللغات الجهوية أم بلغة أجنبية، كاللغات الأوروبية؟ ذلك بعيد عن قصدي وهو من طبيعة نقاش آخر. عنايتي تتجه نحو الكتابة بالعربية الفصحى نفسها. سؤالي هو: بأي عربية فصحى نكتب اليوم؟ سؤال طرحه رواد التحديث منذ أكثر من قرن. وكان من المفروض ألا يعود أحد لطرحه بطريقة الحيرة كما هو حالي. فهل تجاهلت السابقين علي في التحديث عندما خطر لي أن أطرح السؤال؟
مصدر السؤال جديد، أجيب. ذلك أنني لاحظت التباسات عديدة في طريقــة تعــامل كتاب وقراء مع العربية.
التباسات منها ما يرجع للموقف من المعجم المستعمل للتعبير في حقول ثقافية ومجالات معرفية أو عن أشياء خصوصية في منطقة عربية دون أخرى، ومنها ما يعود لعدم الاكتراث بالقواعد النحوية والصرفية والإملائية، ومنها ما يوحي (أو يبوح) بالتبرم من الأساليب الكتابية الحديثة. وبدا لي الأمر، بطريقة واضحة، في كتابات تناولت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على فلسطينيي غزة وفي ردود على كتابات في الموضوع نفسه. وكنت أجمع ملاحظاتي من الصحافة الورقية والسمعية – البصرية، ومن مواقع إلكترونية.
شيء يبدو غريباً، مثلما هو يبدو بدون أهمية استثنائية. وفي الحالتين معا أجدني ألتقط الملاحظة تلو الملاحظة. وهو ما أوصلني إلى طرح السؤال عما لا يمكن أن يكون موضع سؤال، بالنسبة لقارئ يهمه موضوع ما يقرأ ولا يعنيه شيء بعد ذلك. له الحق، أقول. مسألة أنماط الكتابات التي أصبحت تسود عربية اليوم (أتذكر أبا عمرو بن العلاء) ليست دائما من شأن القراء. هي، ربما، من شأن الكُتاب بالمعنى العام. شأن المبدعين والباحثين والصحافيين، أو شأن مجمع اللغة العربية.
مع ذلك، ما زلت أعتبر الحوار المفتوح على القراء يسمح بتقاسم الرأي. عربية اليوم تلمس شيئاً ما لدى كل واحد ما. ولا شك أن غيري لاحظ كثيرا أو قليلا مما لاحظت.
نحن، من جهة، أمام افتقاد ضوابط الكتابة بالعربية الفصحى، لدرجة أني لا أعرف ما هذا الذي يحدث. لكن هذا التهاون بدون مراقبة يتكامل، من جهة أخرى، مع انتشار موقف سلبي من العربية الحديثة.
ذلك أن الكتاب العرب الحديثين أنتجوا لنا لغة جديدة. هذا رأيي. منذ العشرينيات حتى اليوم غامر الكتاب في اتجاهات متنوعة من أجل إعطاء دم جديد (كما كتب دانتي) للغة العربية. فكان لها أن أخذت تكتسب خصائص لا تنـزاح بها فقط عن العربية القديمة، بل تخلق قيمها الجديدة، وفي مقدمتها الطرائق الكتابية. هي لغة جديدة مكتوبة من طرف نخبة النخبة. عدد ضئيل من الكتاب أصبحوا يمارسون عربية جديدة، من الكتابة الأدبية إلى الصحافة الرياضية.
انتشار الموقف السلبي من العربية الحديثة يدلنا على أن نرى هذه العربية الجديدة، المكتوبة لزمننا، تكاد تختنق في وحدتها. إن ما يلحق التعبير بالعربية من تهاون يتكامل مع النفور من العربية الحديثة.
تهاون، أو عدم احترام، أو لا مبالاة، أو جبر خاطر العربية يعثر، في المقابل، على تبرم من أي بحث في تحديث العربية. هذا الصنف من الكتاب والقراء تحسه يستريح كلما وجد نفسه يكتب أو يقرأ أساليب تقليدية، حتى لا أقول قديمة، لأني أميز بين التقليدي والقديم. وهو تمييز لا أريد الآن تناوله ولا تحليله.
يخيفني هذا الطغيان المتمادي للانتصار للأساليب التقليدية، دون امتلاك أي معرفة متعمقة بالأساليب العربية القديمة. لا أخفي عن نفسي ولا عن غيري أن هذا الذي ألاحظه يخيفني. يخيفني لأننا لا نحسه في الحياة اليومية، بسبب أننا لا نتكلم الفصحى في التخاطب اليومي بيننا، إلا في مجالات تتضاءل يوما بعد يوم، كما أنه لا يعنينا في وقت أصبح الفرد يجري والسرعة في حياته تتضاعف. ويبدو لي أن جانبا من المشكل يكمن في هذه النقطة بالذات.
أغلب الناس لا يلاحظون ما يمكن أن يلاحظه كاتب، ومن ثم فالرأي العام لا يبالي بما يقول ولا يولي ملاحظته أي اعتبار.
أليس هذا وجهاً من وجوه محاصرة الحداثة في مجتمعاتنا العربية؟ حصار منظم، بدون قمم ولا إصدار قرارات جماعية؟ هي وضعية عفوية تأخذ صفة الرسمية. من فم لفم. استنكار لاستعمال عربية تعطي صورة جديدة للغة والحياة في آن. هكذا نحن إذن. الذين يبحثون عن لغة حديثة يقرأون لغات أوروبية، عرفت في تاريخها الحديث كيف تبني علاقة جديدة بين اللغة وبين الحياة.
والذين يجهلون لغات أخرى هم عادة أولئك الذين يحاصرون العربية الحديثة بأحكام لا تختلف في شيء عن الفتاوى التي لا تتوقف عن تكفير المثقفين الحديثين باسم الثقافة العربية التي يجهلونها.
أطرح هذا السؤال، لأن حدود القول كانت هي الحرب الإسرائيلية على غزة. وملاحظاتي اقتصرت على ما تم بين كتاب وقراء من خلال اللغة. سؤال ينتج عنه سؤال آخر: أليس الانتصار لعربية تقليدية انتصاراً لوعي تقليدي بالحرب الإسرائيلية على غزة؟
سؤالي هنا ليس سؤال البعد الواحد لممارسة الكتابة، بل هو سؤال البعد المتعدد، حيث الكتابة كتابة في الآن وإعادة كتابة لما قبل الآن. وفي حاضر كل واحد منا ينتفي الماضي عندما ينتـفي المستقبل.
القدس العربي