لماذا ترجمة الشعر؟ في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية: هل هي خيانة نبيلة أم نوع شعري جديد؟
صفوان حيدر
مساء الأربعاء الماضي، بدأ منتدى الشعر العربي الألماني أعماله في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في زقاق البلاط، بحضور حشد من المهتمين بقضايا الترجمة الشعرية. بداية، كانت الكلمة الترحيبية التي ألقاها شتيغان ليدر، مدير المعهد الجديد، الذي اعتبر ان الترجمة الشعرية اقتراب من الأصل. وفي الطريق من لغة الأصل الى لغة الهدف يفقد النص بعضا من معالمه الجوهرية او الهامشية، وتأتي المعاني اللغوية الجديدة لتتناسب مع الاصل بشكل دقيق او أقل دقة. اما شتيغان فايدنر رئيس تحرير مجلة فكر وفن العربية التي تصدر في ألمانيا والذي لعب دورا محوريا في أعمال هذا الملتقى، فطرح أسئلة عدة منها: ماذا يمكن ان توصل إلينا الترجمة؟ كيف يتلمس المترجم نسيج المعاني الذي هو ماهية الشعر وينقله إلى لغة أخرى؟ هل ترجمة الشعر نوع شعري جديد ومختلف؟ هل ترجمة الشعر فن أدبي ثانوي أم هي شعر في حد ذاته، يبدعه الشاعر المترجم؟ كيف يتقبل الشعراء الترجمة؟ هل يجدون فيها مساهــمة لفهم الثقافات «الأجنبية»؟ هذه الأسئلة وغيرها ناقشها على مدى ثلاثة أيام ستة شعراء ألمان وعرب بمناسبة صدور أول أنطولوجيا للــشعر الألماني الحديث التي قام بترجمتها الى العربية الشاعر فؤاد رفقة. شارك في أعمال هذا المنتدى بول شاوول، فؤاد رفقة، شوقي بزيع، خوسيه ف. أوليفر، عادل كرشولي، إلما راكوسا، ميشال روس وجرجس شكري.
شاوول ورفقه
في جلسة الافتتاح قدمت إيناس داينريش بول شاوول وعددت اسهاماته المتعددة في عالم الثقافة والمسرح والترجمات الشعرية. ثم ألقى شاوول محاضرة بعنوان «الترجمة من التفاعل الى الفعل الثقافي» ربط فيها مفهوم الترجمة بفكرة خروج الذات الفردية او الجماعية او التاريخية نحو الآخر الذي يفتقده تراثنا وشخصيتنا. سرد شاوول تاريخ الترجمة في منطقتنا والعالم وعلاقتها بمفهوم النهضة وصولا الى الحداثة وعالج أبرز القضايا التي عانتها الترجمات الأدبية منذ أكثر من قرن ونصف. وجوابا عن سؤال: لماذا يترجم الشاعر؟ قال: أنا أحب أن أحلم بعدة لغات. ان أنام بعدة لغات. ان أصمت بعدة لغات. ان أحكي بعدة لغات. ان أحب بعدة لغات. ثم تحدث عن تجربته مع اللغة الفرنسية وترجماته عنها. وختم بالقول: الترجمة هي الخصب والانفتاح والمجهول الذي لا ينضب.
ثم قدم المدير الجديد للمعهد الشاعر فؤاد رفقه مثمنا عاليا ترجماته عن الأدب والفكر الألماني. وجوابا عن السؤال لماذا ترجمة الشعراء الألمان؟ قال رفقة: انه يتعايش في حياته الفلسفي مع الشعري. كما في أعمال نوفاليس وعفته وشيلر وريلكه فالشعر والفلسفة في ألمانيا يعيشان تحت سقف واحد. هناك العالم الشعري يفكر والعالم الفكري ينبض بالشعر. واستنتج رفقه ان هناك فجوة مستمرة بين المضمون الإبداعي والنص المترجم. فترجمة الشعر هي تفسير لتفسير. وبما ان العالم الشعري هو وطن الحقيقة فان رؤية القمر من خلال مسافة افضل من عدم رؤيته على الاطلاق. هذه المسافة هي الترجمة.
قصائد وقراءات
في مساء اليوم الثاني، الخميس، كانت قراءات شعرية. فاستمعنا إلى مجموعة من القصائد التي تتفاوت قيمتها الفنية مع ترجماتها الى العربية. تميزت قصائد جرجس شكري (مصر) بطرافتها وجدتها وبالسخرية المضحكة أحيانا. كما ألقت الشاعرة إلما راكوسا قصائد بالألمانية قدم الشاعر رفقه ترجماتها إلى العربية، وهي قصائد تعبر عن تجربة راكوسا الشعرية الفنية بتنوع هوياتها (هنغاريا، سلوفاكيا، وألمانيا). وألقى ميشال روس قصائد ومقتطفات من النثر الشعري تحكي تجاربه في اليمن والجزائر والصين. ثم ألقى الشاعر شوقي بزيع مجموعة من القصائد المترجمة الى الألمانية. وخص بزيع المنتدى بقصيدة جديدة مهداة الى الشاعر الراحل بسام حجار، كما ألقى قصيدة مهداة الى توماس مان تجلت فيها مقدرة بزيع على التوأمة بين مدينة اللاذقية ومدينة البندقية، مسرح رواية مان «موت في البندقية» وبرز فيها تداخل الرؤى والمواقف العاطفية بين مان وبزيع بلغة شعرية متينة وعميقة مشبعة بضبابية الفكر الألماني وجرأته في آن.
ويوم أمس الجمعة، انعقدت ندوة النقاش النقدي لقضايا الترجمة بحضور الشعراء أنفسهم، أدارها شتيغان فايدنر. تحدثت فيها الشاعرة إلما راكوسا عن تجربتها مع الترجمة خصوصا الى الروسية.. وعقب فايدنر على مداخلة راكوسا فتناول قضايا الترجمة بين الروسية والألمانية. وهنا تدخل الشاعر بزيع فأشار الى ان الشعر ليس أفكارا فقط، وأشار الى تجربته مع المترجمة لسلي تارانتولي وكيف انها اختارت قصائده السهلة ذات الطابع السردي. ثم دار نقاش حول مفهوم السخرية في الأدب. وهنا ميز بزيع بين السخرية والتورية (السخرية المبطنة) حيث الأخيرة هي السائدة في عالمنا العربي لأسباب سياسية قمعية اولا. ثم قرأ بزيع مداخلة بعنوان «خيانة المعرفة أم وفاء الجهل» اعتبر فيها ان الترجمة تشير وتهدي وتدل ولكنها لا تصيب بالضرورة قلب الهدف. وسرد بزيع تاريخ معنى مصطلح الترجمة في أمهات الكتب اللغوية العربية التراثية مستشهدا بعبد الله العروي الذي يرى لكل لغة مسارها وتكوينها ومنطقها الخاص فالمتكلمون بالفرنسية يستعملون منطقا عقليا وتجريديا والمتكلمون بالانكليزية يميلون الى منطق تصنيفي تجريبي، اما المتكلمون بالعربية فينحون الى الخطابة والتوصيف الانشائي والافاضة البلاغية. ولأنه من الأسهل ان تفكر بلغة أجنبية من ان تشعر من خلالها، حسب إيليوت، فما من فن يتسم بالقومية اتساما عنيدا كما الشعر. وختم بزيع بالقول: «لقد قيل كل ترجمة خيانة. وهذا صحيح. ومع ذلك فان خيانة المعرفة افضل بكثير من وفاء الجهل». أما ورقة الشاعر عادل قارشولي وهو شاعر سوري باللغتين العربية والألمانية فكانت بعنوان «تحولات القصيدة في طريقها من لغة الى لغة او الخيانة النبيلة» أكد فيها ان لغة الترجمة ليست مفردات قاموسية او جملا وقواعد لغوية وحسب بل هي كذلك لغة خطاب خاص، لها منطقها وفكرها وتاريخها. انها لغة تواصل تحمل، اضافة الى المدلولات المعرفية، الايقاعات والمدلولات الحسية والايحائية. والكلمة الشعرية ليست محض اشارة لشيء محدد خارجها بل هي تشبه الرموز الرياضية والموسيقية، لكنها رموز مشحونة بالأبعاد الحسية والانفعالية. والقصيدة المترجمة عمل ابداعي جديد لا يطابق الأصل بل يوازيه وقد ينجح في منافسته وقد لا ينجح.
السفير