مطلوب مثقف خصوصي
عبد الرحمن حلاق
ماذا لو تخلى المثقف عن دوره؟
سيبتسم البعض فور قراءة السؤال ويسخر قائلاً في سره: وهل يوجد مثقف؟ ومن هو المثقف أصلاً؟ ومتى نقول عن شخص ما إنه مثقف؟ بكل تأكيد هذه أسئلة مشروعة، ومهما بلغت المرارة أو السخرية في طرحها إلا أنها تحافظ على أهميتها، وتشير إلى تلك الغصة في الحلق المتولدة عن ضياع الحلم بمثقف حقيقي صاحب دور فاعل، فهي في أحد جوانبها إحساس مرير بالفقد، وإن لم يتصد «المثقفون» لحسمها فسنبقى في دوامة البحث عن الذات الضائعة.
أما من هو المثقف؟ فأعتقد أن بوسع الكثيرين الإجابة عنه، وخاصة أن اثنين من عمالقة الفكر الإنساني المعاصر قد أشبعاه بحثاً ودراسة، فقد تحدث سارتر عن المثقف الكوني كثيراً، وعن دوره في أداء واجبه الأخلاقي «الكانطي»، وكذلك تحدث ميشال فوكو عن المثقف الخصوصي ودوره في توضيح المخاطر انطلاقاً من اختصاصه المعرفي، وقد جمع عالم الاجتماع الفرنسي «بيار بورديو» بين النظرتين ووحد بين مثقف سارتر (الكوني) ومثقف فوكو (الخصوصي) معتبراً إياهما مكونين أساسيين لشخصية المثقف منذ بداية وجوده التاريخي.
في مطلق الأحوال يبقى المثقف هو ذلك الإنسان العارف باختصاصه معرفة شاملة ودقيقة، وفي الوقت ذاته يمتلك الجرأة على قول الحقيقة وكشف الزيف والدفاع عن القيم التي تحاول السلطات القائمة طمسها أو تزويرها، فالمثقف ناقد اجتماعي بطبعه وساع إلى نظام أكثر إنسانية وأكثر عقلانية، إنه يمارس وظيفة غير وظيفته (القانونية) وظيفة لم يطلبها أحد منه، وقد تسبب له الكثير من المشاكل أو تعرضه لمخاطر جسيمة، مدفوعاً بشعور ذاتي محض هو شعوره بضرورة القيام بالواجب، واجب إظهار الحقيقة وتنوير الرأي العام بها، إنه يمارس دور السياسي دون أن يمتلك غاية رجل السياسة، فغاية المثقف تنحصر فقط بالكشف والتنوير والانتصار للقيم الكونية الإنسانية من خير وعدل ومساواة و… و…. إلى آخره. ولأنه كذلك فهو يعد على رأس قائمة المغضوب عليهم (سلطوياً) ولذلك يعيش في حالة من الصدام المستمر، ولأن «المثقف» إنسان في نهاية الأمر، فهذا يعني أنه يمتلك قدرة محددة في تحمل الضغوط والإغراءات، فمنهم من يستغل طاقاته إلى أبعد مدى، ومنهم من يتخاذل، ويتهاون، ويسارع من أجل المكاسب إلى اتخاذ مواقف لا تليق بسمعته «كمثقف»، ومن هنا تنشب الكثير من المعارك الثقافية، وأجمل ما في هذه المعارك أنها على الورق وبلا دماء، لكنها تعكس في نهاية الأمر مواقف «المثقفين» ويرى الناس عندها أيّ المثقفين أقرب إليهم وأيهم يدعو إلى نظم أكثر إنسانية، حتى لو كانت المعارك ذات طبيعة أدبية، لأن السياسة في المحصلة هي محاولة تحقيق ذلك العالم الإنساني النبيل الذي نتلمس جوانبه في الأدب، والسياسة في المحصلة هي محاولة تجنب المخاطر التي يلمح إليها الأدب، فالأدب في نهاية المطاف هو المرشد الروحي للسياسة، ومن دونه ستغدو السياسة في قمة وحشيتها تماماً كما نرى في كثير من بلدان العالم اليوم.
فهل تخلى المثقف فعلاً عن دوره؟ على المستوى الإنساني العالمي بكل تأكيد مايزال المثقف يلعب ذلك الدور وبفعالية كبيرة، ذلك أن البيئة التي يعيشها تمنحه من الحرية والأمان متسعاً عظيماً، وبالتالي فقد غدا المثقف أكثر قدرة على الإدلاء برأيه لأنه أكثر حرية. أما في بلادنا الناطقة (بالضاد) فالأمر أصبح حلماً، ولا أدري بالضبط متى حدثت آخر معركة ثقافية ربما في خمسينيات القرن المنصرم أو على الأغلب ستينياته، لهذا نستطيع في بلادنا الحديث عن غياب المثقف أصلاً فهو غائب بالضرورة في بعض بلداننا ومغيب في سجون بعضها الآخر، وإذا أردنا أن نجيب عن السؤال المطروح في بداية المقالة «ماذا لو تخلى المثقف عن دوره؟»، فيكفي أن نلقي نظرة بسيطة على الواقع العربي بكل ما فيه من تردّ أو تخلف لنرى ما يمكن أن ينجم عن هذا الغياب.