أمريكا وتوسيع الحلف الأطلسي: شيفرة متجددة وأجندة عتيقة
صبحي حديدي
ما دامت كيمياء تصدير الديمقراطية إلي الشرق الأوسط لم تشتغل معادلاتها كما شاءت رغائب الرئيس الأمريكي جورج بوش، ومن خلفه رهط المحافظين القدماء والجدد علي حدّ سواء، وبالتالي لم تعلّق أيّ نجمة فخار علي صدر هذه الإدارة طيلة فترتين رئاسيتين، فلِمَ لا تُطبّق الكيمياء علي الثورة البرتقالية في أوكرانيا، وجارتها الثورة الوردية في جورجيا…
ليس عن طريق صندوق الاقتراع واقتصاد السوق فقط، بل علي ظهر دبابة أطلسية ترفع راية حلف الـ ناتو ؟ ألم يسترجع خطبته التي ألقاها في جامعة وارسو صيف 2001، وكانت مبكّرة في تبيان مسارات رئاسته مثل تباشير فلسفته للعلاقات الدولية، وطالب فيها بطيّ تراث يالطا المرير ومنح جميع ديمقراطيات أوروبا الجديدة، من البلطيق إلي البحر الأسود حقّها في الأمن والحرية؟
وسوي هذا الاحتمال، كيف يمكن تفسير حميّة بوش وحماسه المشبوب لضمّ البلدين إلي الحلف (وكان يريد مقدونيا أيضاً، لولا شبح الفيتو اليوناني)، رغم أنّ قراراً كهذا سوف لا ينقل الأطلسي إلي عمق الفضاء الروسي الجيو ـ سياسي الأمني والعسكري والديمغرافي فحسب، بل سيجبر الحلف علي الإنحياز إلي فريق ضدّ فريق داخل البلد الواحد ذاته (أوكرانيا الناطقة بالروسية ضدّ أوكرانيا اللغة الأمّ؛ وجورجيا ضدّ إثنياتها الإنفصالية التي لا تقتصر علي أبخازيا وحدها)؟ ومن جانب آخر، ألا توصف قمّة الحلف، التي انعقدت في العاصمة الرومانية بوخارست، بأنها الأشدّ مغزي طيلة 59 سنة من عمر اتفاقية شمال الأطلسي، الآن إذْ تنضمّ إليها كرواتيا وألبانيا، فيرتفع عدد الدول التي كانت إشتراكية سابقاً وأعضاء في حلف وارسو المندثر، إلي 12 دولة… من أصل 28؟
صحيح أنّ الهواجس الألمانية ـ الفرنسية (التي، للإيضاح، لا تنطلق بالضرورة من الرغبة في عدم إغضاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو خَلَفه ديمتري مدفيديف، بل تُبقي عيناً علي المشكلات الداخلية في أوكرانيا وجورجيا، وأخري علي الغاز الروسي والأعمال والإستثمارات الأورو ـ روسية) قد أفشلت رغبة بوش في ترصيع رئاسته الثانية باختراق تاريخي داخل الباحة الروسية. غير أنّ عزاء هذه الإدارة قد يكتفي باسترداد فرنسا إلي حظيرة القيادة العسكرية الداخلية للحلف، خصوصاً وأنّ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يعد بالمزيد من الإنضواء في السياسات الأمريكية داخل الحلف، أو قطع المزيد من الخطوات بعيداً عن النهج الذي اختطه الجنرال شارل دوغول في النأي ببلاده عن المقاربة الأمريكية لدور الحلف، أو عن أمْرَكة الأطلسي في عبارة أخري.
وفي مثل هذه الأيام، ولكن قبل أربع سنوات، في حديقة البيت الأبيض خلال حفل تسليم وثائق عضوية الحلف الأطلسي إلي سبع دول جديدة، لم يكن هوس بوش منصبّاً علي رعاية ديمقراطيات البلطيق والبحر الأسود، بل كان يكرّر المكرور الذي صنع ويصنع تسعة أعشار تراث إدارته في الشؤون الدولية: الإرهابيون يكرهون كلّ ما يمثّله هذا الحلف. إنهم يحتقرون حرّيتنا. إنهم يخشون وحدتنا. إنهم يسعون إلي تقسيمنا. إنهم سيفشلون. سوف لن ننقسم. سوف لن ننحني لعنف فئة قليلة .. ما الذي كان يخيف قائد القوّة الكونية الأعظم، لكي يعزف المزيد من أنغام هذه البلاغة الإستباقية و اللغة الوقائية ؟ هل كان أسامة بن لادن يهدد أمن تلك الدول المنضمة حديثاً إلي الحلف الأكبر والأكثر نجاحاً في التاريخ ، حسب وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول؟ أم أنّ بوش استخدم الفزّاعة الكلاسيكية ذاتها لكي يغمز من قناة أعضاء أصلاء في الحلف، مثل فرنسا وألمانيا، والتذكير بأنّ الدول حديثة العهد بالحلف تساعد أمريكا في العراق لا كما تفعل دول أخري مؤسسة وسبق للولايات المتحدة أن شاركت في تحريرها؟
والحال أنّ اهتياج بوش الرهابي آنذاك يستكمل اهتياجه العاطفي بالأمس في بوخاست، لأنّ المناسبة لم تكن عادية بدورها: الأطلسي يتوسع من 19 إلي 26 دولة، بينها ثلاث جمهوريات سوفييتية سابقة (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا)، وثلاث دول أعضاء سابقة في حلف وارسو (بلغاريا، رومانيا، سلوفاكيا)، وأمّا الدولة السابعة فقد كانت أصلاً جزءاً من يوغوسلافيا، وهي استطراداً بمثابة عضو سابق في الحلف الأحمر المنحلّ. أسباب البهجة الأخري، بالأمس القريب كما اليوم، ذات صلة بالتبشير الإيديولوجي السياسي والعسكري والثقافي، الذي اعتنقته هذه الإدارة بعد نقله بالحذافير عن رهط المحافظين الجدد وصقور الحرب الباردة التي وضعت أوزارها في كلّ مكان، إلا أدمغتهم.
فالحلف ليس الوحيد العسكري في عالمنا المعاصر فحسب؛ وليس التذكرة الكبري بأنّ البشرية عاشت عجائب الحرب الباردة طيلة حقبة كاملة متكاملة، فحسب أيضاً؛ بل هو أساساً حلف جغرافي ـ حضاري ـ ثقافي… لمَن ينسي، أو يتناسي! هذا ما كانت الإنسانية قد فهمته من كلام الرئيس التشيكي السابق فاكلاف هافيل، الذي احتضنت بلاده في سنة 2002 قمّة للحلف الأطلسي لم تشبه سواها من القمم، لأنها ببساطة كانت قمّة التحوّل . التحوّل العسكري؟ نعم، ولكن ليس تماماً، وليس حصراً!
قال هافيل، في نبرة تحذير لا تخفي، إنّ علي الحلف أن لا يتوسّع خارج مضمار محدّد للغاية من الحضارات التي عُرفت عموماً باسم الحضارات الأورو ـ أطلسية أو الأورو ـ أمريكية، أو الغرب ببساطة . هل كانت تركيا هي المقصودة بذلك التعريف المضماري ، الذي لا يبدو نقياً تماماً من الرائحة العنصرية؟ أم هي الدول التي ما تزال تعيش فيها جاليات مسلمة كبيرة؟ وما الدافع إلي إطلاق ذلك التحذير، والقمّة تناقش توسيع الحلف شرق وجنوب أوروبا، وضمّ سبع دول جديدة إلي النادي؟ أيّ من هذه الدول (نفسها التي تسلمّت وثائق عضويتها في الحلف من جورج بوش قبل أيام: إستونيا وبلغاريا وسلوفينيا وسلوفاكيا ورومانيا ولاتفيا وليتوانيا)، لا تنطبق عليها معايير المضمار الحضاري الأورو ـ أطلسي؟
البعض يقول، بحقّ، إنّ أسئلة كهذه تظلّ نافلة كائناً مَنْ كان طارحها، ما دام جوهر الحلف علي حاله عسكرياً وسياسياً، وما دامت الولايات المتحدة هي الدولة الأهمّ في مدّه بأسباب الحياة، وفي تعزيز شوكته العسكرية ـ التكنولوجية. صحيح أنّ المغامرة الأطلسية في أفغانستان هبطت برجال الطالبان من الجبال والجحور إلي السهول والمدن، واحتلال العراق يضع حليفات أمريكا في المستنقع ذاته الذي يغرق فيه البيت الأبيض، كما يضعها في اصطفاف اشدّ وأخطر مع واشنطن في الملفّ الإيراني، فضلاً عن تحييد أوروبا في ملفّ المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية أو تقزيم دورها إلي ما يمارسه توني بلير من ألعاب بهلوانية بين حين وآخر…
ولكن من الصحيح، أيضاً، أنّ الولايات المتحدة لم تتسوّل قرار الحرب من الحليفات الأطلسيات، لا في أفغانستان ولا في العراق، ناهيك عن طلب المساعدة العسكرية من بلدان اعتادت المماحكة (ألمانيا، ثمّ فرنسا في عهد شيراك). ألا تعرف جميع الدول الأعضاء أنّ هزّة 11/9 منحت الولايات المتحدة أكثر من ترخيص عسكري واحد، وجنّبت واشنطن حرج التشاور مع الحلفاء، أطلسيين أم غير أطلسيين، كلما قُرعت طبول الحرب؟ وإذا كانت قمم الاطلسي تكتسب صفات تفخيمية، كأن يُقال إنها تاريخية أو فاصلة أو نوعية ، فليس ذلك لأسباب عسكرية أبداً (بمعني عملياتي صرف)، وإنما بسبب نجاح الحلف في اختراق المزيد من المواقع التي كان يشغلها حلف وارسو، وبلوغه ظهر روسيا، بل بطنها وخاصرتها كذلك، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً!
من الصحيح، كذلك، أنّ التوازن داخل الحلف ليس مختلاً لصالح الولايات المتحدة فقط، بل هو يفتقر بالفعل إلي جملة العناصر التي تتيح استخدام مفردة التوازن وفق أيّ معني ملموس. الولايات المتحدة تنفق، وحدها، مليار دولار أمريكي يومياً علي شؤون الدفاع، في حين أنّ مجموع الدول الأوروبية الـ 15، من الأعضاء المؤسسّين، لا تنفق إلا قرابة 500 مليون دولار. وأمّا قوّة التدخّل السريع (قوامها 21 ألف مقاتل) فإنها، حسب توصيف وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رمسفيلد، جاهزة للتدخّل الفوري ضدّ الدول المارقة وضدّ الإرهاب ، وكأنها في الحساب الأخير مجرّد وحدة أخري إضافية تابعة للجيش الأمريكي. وفي هذا الصدد، كان الأمين العام السابق للحلف، اللورد روبرتسون، قد تغنّي بمشروع القوّة الجديدة، علي نقيض الأمين العام الحالي، ياب دي هوب شيفر، الذي يضمر ـ ولكنه لا يعلن ـ الإعتقاد بأنّ الأمريكي سوف يقاتل من قاذفته في السماء، والأوروبي هو وحده الذي سيخوض في أوحال الأرض!
ومن الصحيح، أخيراً، أنّ الرئيس الأمريكي يصرف معظم الوقت في تعداد أخطار الإرهاب علي السلام والأمن العالميين، ويخصّص القليل فقط من أوقات لقاءاته الرسمية للحديث عن مستقبل الحلف الأطلسي، وعن طبيعة مهامّه القادمة، وما إذا كان أيّ توسّع كفيلاً بتطوير عمل الحلف أم تحميله المزيد من الأثقال والأعباء. لا شيء اليوم سوي ما يسمّيه الإرهاب ، بمصطلح مطلق عامّ غائم معمّم، ثمّ ضرورات الوقوف إلي جانب الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، إذْ لا أخطار نوعية وعاجلة يمكن أن تهدّد العالم إلا في بغداد وكابول (وربما طهران، قريباً). وإذا شاءت أوروبا، كلّها أو بعضها، السير في ركاب أمريكا، فأهلاً بها وسهلاً. إذا لم تشأ، فالأمر سيّان!
والحال أنّ الضغط الأمريكي لتوسيع نطاق الأطلسي نحو العمق الروسي ليس نزعة طارئة تنفرد بها إدارة بوش عن سواها، حتي إذا كانت الفلسفة هنا تتقنّع بالحملة علي الإرهاب تارة، وبتعزيز ثورات القرنفل أو البرتقالي أو الوردي طوراً. والمرء يتذكّر رسالة الردع المبطنة في دعوة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون إلي خطة مارشال من أجل إنقاذ أوروبا الشرقية، حين أكملت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت الدعوة تلك باشتراط صريح: ما لم تنتسب الديمقراطيات الجديدة في أوروبا الشرقية إلي النظام، فإنّ الشراكة الأطلسية علي مستوي التجارة والأمن لا يمكن أن تتمّ .
والشيفرة المبطّنة في رسالة أولبرايت كانت تقول ببساطة إنّ أمريكا أنقذت أوروبا من غائلة الجوع عبر خطة مارشال الشهيرة، وأوكلت إلي الحلف الاطلسي مهمة الحفاظ علي أمن القارّة العجوز طيلة الحرب الباردة، وعلي أوروبا أن تتحمّل اليوم أعباء التركة الثقيلة لانهيار المعسكر الإشتراكي، وتَخَبُّط هذه الديمقراطيات الجديدة بين اقتصاد السوق وأغلال الماضي. وهكذا، ليس مسموحاً لأوروبا الغربية (الرأسمالية، الحرّة، المعافاة نسبياً بسبب من جميل الولايات المتحدة) أن تزدهر أكثر من ازدهار الولايات المتحدة نفسها، أو أن توحّد صفوفها بالإنتقاص من مبدأ الهيمنة الأمريكية علي النظام الدولي.
وهكذا فإنّ توسيع الحلف الأطلسي من 12 دولة مؤسسة، في سنة 1949، إلي 28 اليوم، لا يتمّ لاعتبارات دفاعية كما هو واضح لكلّ ذي بصيرة، بل لأسباب ترتدّ بجذورها إلي المال والأعمال والتجارة والصناعة، وتعود بالحلف القهقري إلي ما قبل التأسيس. وأمّا توزيع فزّاعة الإرهاب، وقبلها الفزّاعة العراقية، وبعدها تعزيز ديمقراطيات غادرت أنظمتها السابقة دون أن تفلح في تأسيس أنظمة بديلة لاحقة، أو الترهيب بالخطر النووي الإيراني الآتي، فهو من قبيل ذرّ الرماد في العيون، المستعدّة أصلاً للانخراط في إغماض ذاتي طويل.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
04/04/2008