المحكمة الدولية… حاجة للسوريين أيضاً!
زين الشامي
منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، قبل نحو أعوام أربعة وإلى اليوم، مازال النظام السوري ينفي أن تكون له علاقة بالجريمة التي أودت بالحريري وعدد من مرافقيه، إضافة إلى الوزير والنائب السابق باسل فليحان الذي توفي لاحقاً متأثراً بإصابته. وعلى خلفية هذا النفي السوري، سعت وسائل الإعلام وماكينة الدعاية الرسمية الى تسليط الضوء على الروايات كلها التي تشكك باتهام مسؤولين سوريين،ولعل أبرزها كان الكتاب الذي أعده الألماني يورغن كاين كولبل تحت اسم «اغتيال الحريري – أدلة مخفية»، لا بل إن السلطات السورية استضافت يورغن في دمشق عام 2006 وفتحت له «مكتبة الأسد» الوطنية ليتلو على حشد من المسؤولين «البعثيين» والضباط الصغار في أجهزة الاستخبارات، كذلك أساتذة الجامعات وكودارها، ما توصل إليه من خلاصات ونتائج واحتمالات. في ذلك الوقت كان الحشد سعيداً بالكاتب «الغربي» وبالخلاصة النهائية للكتاب الذي يوجه فيه أصابع الاتهام إلى احد أطراف المعارضة اللبنانية في المنفى في ذلك الحين، وهي «اللجنة الأميركية من أجل لبنان الحر» المرتبطة وفقاً لادعاءات الكاتب يورغن بـ «مؤسسة واشنطن لسياسة الشرق الأوسط» ، ويزعم فيه أن رئيس لجنة التحقيق الدولية في ذلك الحين القاضي الألماني ديتليف ميليس هو موظف لدى تلك المؤسسة، وبالتالي فهو موظف لدى المتورطين في الاغتيال!
النظام السوري في ذلك العام، لفّ وجال بالكاتب والكتاب على اكثر من محافظة سورية، بدوره احتضن حلفاء النظام في لبنان الكاتب وكتابه وقاموا بالترويج له في وسائل اعلامهم. لكن رغم تلك التكاليف المالية وغيرها من الجهود مازالت الأكثرية الصامتة في سورية تشك بادعاءات النظام ونفيه لتورطه، كذلك مازالت الغالبية الصامتة من الطوائف التي تسيطر عليها الأحزاب والمنظمات والقوى السياسية اللبنانية، تشك بالنفي السوري أو ادعاءات الكاتب الألماني. لكن لماذا هذه الريبة والشكوك كلها بنفي النظام ولماذا هناك شبه إجماع دولي على تورطه؟
بغض النظر عما وصل إليه التحقيق من أدلة جنائية وما أفاد به الشهود حتى الآن وما سيدلون به لاحقاً، بغض النظر عن ذلك كله، دعونا نقف عند بعض الحقائق التي تسبب الريبة بالنفي الرسمي السوري.
قبل كل شيء، الجميع بات يعرف أن الجيش وأجهزة الاستخبارات السورية كانوا في لبنان منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي وحتى لحظة خروجهم في أبريل عام 2005، أي بعد نحو شهرين من تنفيذ عملية الاغتيال، ووقتذاك، كان الجيش والاستخبارات السورية يعلمون بالشاردة والواردة، وإضافة الى ضباطهم وعناصرهم، كان لهم الكثير من «الحلفاء» و«الأصدقاء» اللبنانيين، الذين يزودونهم أولاً بأول عن التحركات والمواقف كلها، وهذا بحد ذاته يحمّل الاستخبارت السورية مسؤولية أمنية اتجاه الجريمة، باعتبارها القوة الوحيدة الموجودة فعلياً على الأرض. أما الجيش والاستخبارات اللبنانية فهم كانوا يعملون تحت أمرة القيادات السورية السياسية والأمنية وتنسق معها. وهذا بدوره يزيد ويؤكد مسؤولية دمشق كجهة مسؤولة عن أمن وحماية شخصية مثل رفيق الحريري.
من ناحية أخرى، التحقيقات التالية كلها عن الجريمة، وما اعترف به لاحقاً أصدقاء وحلفاء الرئيس الحريري، مثل النائب وليد جنبلاط، أقروا بوجود خلافات عميقة بينه وبين القيادة السورية الجديدة في ذلك الوقت. وبالتالي لابد من التوقف بإمعان عند عدد من المحطات التي لا يمكن عزلها عن جريمة الاغتيال وما حصل في الساحة اللبنانية، لعل أبرزها «انتحار» وزير الداخلية السوري غازي كنعان، وهو انتحار مشكوك بدوافعه وبالرواية السورية التي نقلتها وعممتها، نظراً إلى علاقة كنعان الطيبة بالحريري، ونظراً للوضعية التي كان يشغلها كنعان سابقاً، حين كان يرأس منصب «رئيس جهاز الأمن والاستطلاع» في القوات السورية العاملة في لبنان. وفي هذا الصدد ثمة اعتقادات وتحاليل سياسية تفيد أن كنعان كان أحد العارفين بملف الاغتيال، لكنه لم يكن في دائرة صنع قراره ومن غير الموافقين عليه لاحقاً.
ومن جانب آخر، إن قراءة هادئة في تاريخ وجود القوات السورية في لبنان، حيث تم تنفيذ عدد من جرائم الاغتيال، لعل أبرزها، اغتيال الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، يفيد بتسليط الضوء على جربمة اغتيال الحريري.
وبغض النظر عن القرائن والمؤشرات، فإن وقفة عند طريقة التعاطي السورية مع الحادثة تثير الكثير من الأسئلة والريبة، وعلى سبيل المثال، لماذا لم تنفذ الاستخبارات السورية تحقيقها الخاص عن الجريمة إذا لم تكن هي من وقف وراءها ولا علم لها بها، وكلنا يعرف أنه وحتى ما بعد الاغتيال، كانت القوات والاستخبارات السورية هناك في لبنان تسيطر على المفاصل الحيوية كلها وتلك الثانوية في الدولة اللبنانية، وكان لها جيش من «الأصدقاء» اللبنانيين. بمعنى آخر، إذا كان النظام السوري المعروف عنه قوة وكثرة مؤسساته الاستخبارية ليس له علاقة بالجريمة، فيما العالم يتهمه بها، فلماذا لم يسعَ إلى إجراء ذاك التحقيق لدرء تلك الاتهامات ونفيها؟ ثم ألا يعلم ذلك النظام أن الشعب السوري، وهو أيضاً، يدفعون حتى الآن ثمن تلك الجريمة حصاراً وعلاقات سيئة مع دول الجوار الإقليمي كلها والغرب؟ وأيضاً علاقات سيئة مع الشعب اللبناني وطائفته السنية تحديداً التي أصبحت من ألد أعداء النظام في دمشق؟ وإذا كان النظام ينفي أن يكون له علاقة بالجريمة، فلماذا لم يعترف بالمحكمة الدولية التي أنشئت لأجل كشف الحقيقة؟ ولماذا أعلن أن تلك المحكمة «شأن لبناني»، ولماذا أعلن أنه سيرفض مدها بملفات أو وثائق على خلفية عدم اعترافه بها؟
أيضاً فإن إعلانه أنه «سيحاسب أي شخص تثبت إدانته وفقاً للقوانين السورية» يزيد من الشكوك أكثر مما يوحي بالتزامه بتطبيق العدالة، لأن ما وراء هذا الكلام، يعني أن الجريمة «ليست دولية أو سياسية». وبمعنى آخر هو لا يعترف بأهمية وخطورة ما حصل، إذ اغتيلت شخصية لبنانية عربية معروفة على المستوى الدولي سياسياً واقتصادياً. وأيضاً فإن الموقف السوري هذا، ربما، تقف وراءه خشية من تسليم متهمين سوريين إلى القضاء الدولي، وحينها لن يستطيع النظام التحكم في مجريات التحقيق، وربما تقود التحقيقات إلى فك الأحجيات عن الكثير من الجرائم المرتكبة في لبنان.
أمام النفي الرسمي لارتكاب الجريمة، ربما أشهر جريمة اغتيال في العالم العربي والعالم خلال العقود الثلاثة المنصرمة، ونظراً إلى الأيام القليلة التي تنتظرنا، إذ إن المحكمة الدولية ستفتتح أعمالها بعد أيام في لاهاي، من المهم جداً أن يعرف الجميع وبالأدلة القاطعة من يقف وراء الجريمة ومن أعطى تعليمات تنفيذها. ولعل أول المنتظرين، وأكثرهم حاجة، هم أولئك الشرائح الصامتة في سورية ولبنان. لذلك فإن إدانة محتملة ستكون لها أهمية كبيرة لناحية كشف حقيقة خطاب عربي انتهت مدته الفعلية ولم يعد صالحاً للمنطقة برمتها منذ نهاية التسعينات.
كاتب سوري
الراي العام