سورية (جمهورية الخوف والصمت )..الطريق نحو المستقبل
محيي الدين اللاذقاني
أود بداية أن ألفت انتباهكم الى مقابلة نادرة نشرتها صحيفة وول ستريت جورنال قبل أيام 27-3-2008 مع رامي مخلوف ابن خال الرئيس السوري والوكيل التجاري للعائلة الحاكمة في سورية اشتكى السيد مخلوف خلالها من ان الولايات المتحدة الاميركية لم تكن عادلة في معاملته حين أمرت بتجميد أمواله واوصت الشركات الاميركية بعدم التعامل معه لأنه جزء من مافيا الفساد السورية
ةالتي احتكرت معظم المشاريع المربحة و صادرت حقوق الشعب السوري وحرمت السوريين من فرص المنافسةالشريفة في كافة مجالات العمل والانتاج .
وقد أخترت أن أبدأ بالاشارة الى هذه المقابلة للتأكيد على خطأ شائع في تناول الحقوق فنحن دوما نبدأ بالحقوق السياسية وذكر المعتقلين ووضع السجون وأساليب التعذيب ونغرق في تقارير أمنستي وهيومان رايتس ووتش وارتيكل19 وننسى أن هناك عشرات بل مئات الألوف وربما ملايين البسطاء من السوريين الذين تهدر حقوقهم يوميا في التعبير والسفر والتوظيف والترقي والعمل واختيار المهنة التي تتناسب مع مواهبهم ومؤهلاتهم واستعدادهم النفسي في بلد صادر نظامه السياسي مبدأ تكافؤ الفرص قبل أن يصادر الحريات السياسية ومنع أهله من العيش الكريم بالغاء حق المواطنة من أساسه ففي سورية الناس درجات ومراتب أوفرهم حظا واقدرهم على تحقيق طموحاته هو الأقرب الى مركز صناعة القرار الذي انحصر في حدود مافيا عائليةضيقة وهناك توزع الاعطيات لا على أساس الأحقية بل لقاء اعلان الولاء المطلق لنظام سياسي أشبه ما يكون بأنظمة القرون الوسطى .
في سورية جمهورية الخوف والصمت لايوجد مساواة أمام القانون لأن القانون لاوجود له الا على الورق أما في التطبيق فتتداخل السلطة التنفيذية مع السلطة التشريعية ويتلقى القضاة ومعظمهم من حزب البعث الحاكم تعليماتهم من قادتهم الحزبيين أو من رجال الأمن الذين يمارسون الاعتقال التعسفي في غالب الأحيان دون أذن قضائي ويحتفظون بالسجناء لسنوات عديدة تبلغ أحيانا ربع قرن من الزمان دون توجيه أي تهم لهم وفي المحيط الضيق لكل أسرة سورية عشرات القصص الواقعية عن أشخاص اعتقلوا لسنوات ثم اطلق سراحهم دون أن يعرفوا الى اليوم لماذا اهدروا أعمارهم خلف القضبان .
لقد وضع تقرير الخارجية الأميركية الصادر في الاسبوع الثاني من آذار – مارس الماضي سورية بين أسوأ عشر دول في العالم في مجال انتهاك حقوق الانسان ووضعتها منظمة مراسلون بلاحدود الفرنسية في المرتبة 155 من أصل 166 دولة في مجال انتهاك حرية التعبير واحتفظت منظمة مراقبة الشفافية في العالم في برلين دوما وفي كافة السنوات بمرتبة متدنية جدا للنظام السوري في مجال الشفافية ومكافحة الفساد وهذا طبيعي جدا ولا يحتاج ولو لنظرة استغراب فالاستبداد يأتي دوما مصحوبا بالفساد وقد عاشت سورية تحت قوانين الطوارئ منذ عام 1962الأمر الذي مكن جميع الأنظمة السياسية التي تتالت على حكمها منذ ذلك الوقت من انتهاك أبسط حقوق المواطن السوري وقد جرت عدة محاولات لالغاء قوانين الطوارئ أو تخفيفها لكن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل لأن جميع الأنظمة التي حكمت خلال تلك الحقب وجدت في ذلك القانون الوضع المثالي لحماية استبدادها مع انها كانت تدعي عكس ذلك وتحاول الايحاء بأنها تعمل على الغاء تلك القوانين الجائرة.
في شهر آذار – مارس عام 1990 ألقى حافظ الأسد والد الرئيس الحالي خطابا علنيا طلب فيه من الحكومة الحد من تطبيق قوانين الطوارئ وعدم اللجوء اليها الا في حالة تهديد أمن الدولة لكن هذا لم يمنع الأجهزة من أعتقال جميع الناشطين في لجان الدفاع عن حقوق الانسان والحريات الديمقراطية وكان قبل ذلك وفي مجال الايحاء بالاصلاح قد خطب مطالبا باستقلالية القضاء واحترام أحكامه وقام بعد أيام من ذلك الخطاب بحل نقابة المحامين واعتقال ستين من أعضائها ثم قام بحل كافة النقابات المهنية في سورية ليعيد تشكيلها بمايخدم استبداده واستبداد خليفته لذا لاتستغربوا حين نقول لكم أن المشكلة الأساسية للمواطن السوري هي أن تمثيله يراوح دوما في منطقة الصفر منذ مجئ الأسد الأب الى السلطة وصولا الى سنوات حكم ابنه وخليفته .
أن الفرق بين الأسد الأب والأسد الابن في حكم سورية هو فرق في النسبة وليس في النوع أو هو كما قال فلاينت ليفريت مؤلف كتاب ( وراثة سورية …اختبار بشار بالنار) فرق في فجوة الوحشية فقط لاغير .
صحيح أن الرئيس بشار الأسد لم يدمر مدنا وقرى ولم يرتكب كوالده مجازر جماعية لكن سجل حقوق الانسان في عهده مايزال كما كان في عهد والده موضع الكثير من التساؤلات فقانون الطوارئ لم يلغ او يعدل وقانون تعدد الاحزاب لم يصدر وقانون الاعلام لم يتحسن والاعتقال التعسفي لم يتوقف وآخر دفعة من المعتقلين المنتمين الى اعلان دمشق للتغيير السلمي الديمقراطي أضيفت الى قائمة طويلة يعتقد باتريك سيل كاتب سيرة الأسد الأب انها قد تصل الى خمسة آلاف معتقل سياسي في مناخ دولي غابت عنه معظم الأنظمة الشمولية الأمر الذي يجعل سورية تقاس باسبانيا ايام فرانكو ورومانيا أيام تشاوشيسكو أما في المجازر الجماعية فلا يتقدم عليها في ذلك المضمار الا نظام الرئيس العراقي السابق و حقبة الخمير الحمر في كمبوديا .
لقد أحصت أمنستي في أحد تقاريرها 38 طريقة للتعذيب في السجون السورية معظم هذه الطرق ما تزال سارية المفعول الى اليوم وقد سبق لي أن قدمت في برنامج المعارضة السورية ( موعد مع المستفبل ) حلقة في صيف عام 2005 عن التعذيب في السجون السورية بثت فيها شهادات مرعبة لسجناء اعتقلوا وعذبواوفق تلك الاساليب في عهد الرئيس الحالي بشار الاسد مما يؤكد أن التغيير في رأس النظام لا يعكس بالضرورة تغييرا في الواقع الميداني للسجون والمحاكم ذات الصبغة السياسية وخصوصا محكمة أمن الدولة العليا التي ما تزال تمارس عملها بالطريقة ذاتها وما تزال تحكم بالاعدام على قضايا الانتماء السياسي للاخوان المسلمين عملا بالقانون 49 لعام 1980
ان هذا القانون من أغرب القوانين في العالم اذ لا يوجد سابقة تجرم الانتماء السياسي بعقوبة من هذا النوع الفظيع الا في سورية والأخطر في قضية محكمة أمن الدولة العليا أن أن احكامها قطعية وغير قابلة للاستئناف وهذه مصيبة أخرى تواجه المطالبين بخطوات تصحيحية لهذا المسار الوحشي في القانون السوري الذي يعتمد على دستور لم تثبت السلطة التنفيذية يوما واحدا أنها تحترمه مع أنه صنع باسلوب الخياطين المحترفين خصيصا لها فسورية محكومة نظرياهذه الايام بدستور عام 1973 الذي فصله الرئيس السابق على مقاسه ومقاس خلفائه من بعده .
أن المادة 28 مثلا في ذلك الدستور تنص على منع التعذيب لكن التعذيب لم يغب يوما عن السجون السورية رغم توقيع سورية منذ عام 1969 على الميثاق العالمي للحقوق المدنية والسياسية وتنص المادة 39 من دستور 1973 على حق الشعب في التظاهر السلمي وانشاء التنظيمات السياسية لكن النظام السوري لا يسمح بوجود أي تنظيم غير تنظيمات الجبهة الوطنية التقدمية التي شكلها الأسد الاب كديكور مكمل لنظامه أما التظاهرات السلمية المعارضة فلم يمنح لها أي ترخيص لا في عهد الاسد الاب ولا عهد الاسد الابن على العكس من ذلك كانت تلك التظاهرات تقمع بقسوة منقطعة النظير من قبل الأجهزة الأمنية وبعض ( البلطجية) الذين دربهم النظام على الفتك بالمتظاهرين كما جرى في التظاهرة التي قامت أمام قصر العدل في دمشق عام 2007 للمطالبة بالغاء قانون الطوارئ ولا يخفى الخطر الذي يمثله هذا الاسلوب على الوحدة الوطنية فحين يعتدي مدنيون محميون من النظام على متظاهرين مسالمين يتعرض السلم الاجتماعي للخلل ويصاب المجتمع المدني بآفات يصعب التخلص منها .
ولا بد مع هذا السجل الاسود للنظام السوري في مجال حقوق الانسان من الاشارة الى قضية الأكراد السوريين المحرومين من الجنسية السورية نتيجة احصاء جائر حرم عام 1962 قرابة نصف مليون سوري من جنسية الوطن الذي ينتمون اليه لاسباب ايديولوجية وتلك قضية سيسهب زميلي من حزب الوحدة الديمقراطي الكردي في توضيحها ومع هذا الملف أود أن ألفت انتباهكم ايضا الى أن النظام السوري لا يعتقل السوريين فقط ففي السجون السورية معتقلون فلسطينيون واردنيون ولبنانيون وسعوديون يحتفظ المرصد السوري لحقوق الانسان واللجنة السورية لحقوق الانسان بعشرات الملفات عن معاناتهم ومعاناة سجناء الضمير السوريين مع نظام يمتد قمعه الى دول الجوار والى ما هو ابعد منها .
وليس هناك مايبررداخليا كل هذا القمع ولا سياسة العصا الغليظة التي يتبعها النظام فكافة فصائل المعارضة السورية ملتزمة نظريا وعمليا بنبذ العنف وبالتغيير السلمي الديمقراطي الذي زعم الرئيس بشار الأسد في اول عهده أنه يدعمه ويشجعه لكنه لم ينفذ حرفا مما وعد به في خطاب القسم الاول في حزيران – يونيو عام 2000 فهو الذي أجهض ربيع دمشق واجهزته هي التي اقفلت المنتديات الاصلاحية وقمعت الموقعين على بيان ال99 ثم بيان الألف لتنتقل الى اعتقال الموقعين على اعلان بيروت- دمشق ولما تجمعت كافة طيوف المعارضة السورية السلمية تحت مظلة اعلان دمشق كان نصيب قادة الاعلان واعضاء المجلس الوطني لاعلان دمشق التنكيل والاعتقال على مدار عدة سنوات منذ تشكيله في خريف عام 2005 الى اليوم .
وقد أصابت آخر موجة اعتقالات قادة ذلك التحالف السلمي الديمقراطي أواخر العام الماضي حين عقد مجلسه الوطني اجتماعا سنويا في مطلع كانون الاول – ديسمبر لانتخاب أمانة عامة جديدة ومجلس وطني وقد تمت الانتخابات في جو ديمقراطي سليم يؤكد على قدرة المعارضة السورية وصدقيتها وبعد اسبوع من ذلك الاجتماع الهام في تاريخ المعارضة بدأ النظام حملة اعتقالات لقيادات اعلان دمشق واعضاء مجلسه الوطني المنتخب وبقيت مجموعة من هؤلاء لفترة طويلة في ظروف اعتقال سيئة دون توجيه اية تهم بينما وجهت لاخرين تهم اضعاف الشعور الوطني ونشر أنباء كاذبة للنيل من هيبة الدولة وصمود الامة وهناك تقارير تؤكد تعرض ثلاثة من المعتقلين للتعذيب في اقبية المخابرات وهم ياسر العيتي واحمد طعمة وعلي العبدالله .
وفي وقت لاحق لاعتقال قيادات اعلان دمشق قامت السلطات السورية بترحيل زوج فداء الحوراني رئيسة المجلس الوطني لاعلان دمشق من سورية وضمت النائب السابق رياض سيف الى المعتقلين واساءت معاملته رغم حالته الصحية الخطرة وكانت السلطات قد منعت رغم المناشدات الدولية سفر رياض سيف للعلاج في الخارج من مرض سرطان البروستات الذي دخل مرحلة متقدمة صارت تهدد حياته بالخطر كما أن الحالة الصحية لفداء حوراني كما ورد في تقارير حديثة ليست على ما يرام أما الحالة الصحية الاخطر بين المعتقلين السياسيين فهي حالة عارف دليلة الذي يعيش في زنزانة انفرادية منذ اعتقاله قبل عدة سنوات .
أن هؤلاء المعارضين الشجعان الذين قد نفقد بعضهم أن لم يكن هناك تحرك دولي فاعل ومنظم للضغط في سبيل تسريع اطلاق سراحهم يدفعون ثمن معارضة نظام متخلف يرفض الاصلاح السياسي ولا يريد ان يجرب الا الحل الأمني الذي أثبت فشله في كافة الحقب وعند جميع الشعوب .
أن بريطانيا ومعها الاتحاد الأوروبي يستطيعان فعل الكثير لاجبار النظام على الحد من استبداده ومنح الشعب السوري حقوقه المنتهكة و التعامل باسلوب آخر مع المعارضة الوطنية الديمقراطية الممثلة في اعلان دمشق وأقل ما نطالب به في هذه المناسبة أن تتعاملوا مع الممثلين الحقيقيين للشعب السوري وترفضوا التعاون والتعامل مع الذين يمثلون مصالح نظام فاسد مستبد فهناك جمعية بريطانية سورية يرأسها السير اندرو جرين بالمشاركة مع الدكتور فواز الاخرس والد زوجة الرئيس بشار الأسد وتضم هذه الجمعية أعضاء في البرلمان البريطاني من حقنا أن نسألهم كيف يقبلون وهم الممثلون للديمقراطية البريطانية العريقة أن يتعاملوا براحة ضمير مع نظام هو الأسوا في العالم في مجال انتهاك حقوق الانسان ..؟
وهنا اسمحوا لي أن اطلب منكم الكف عن التعامل مع المعارضة السورية كمجرد حالة من حالات حقوق الانسان والتعامل معها كقوة تغيير سياسية تملك الهدف والبرنامج والرغبة والارادة لتحقيق اصلاح حقيقي في سورية .
في مقابلة رأمي مخلوف المنشورة قبل ايام في ال (وول ستريت جورنال )والتي أشرت اليها في مطلع هذا الحديث ينتقل الذراع الاقتصادي لبشار الأسد من الشكوى الى التهديد فيقول بالحرف الواحد :الآن يرتبط اسمي علنا بشركات اعترف بملكيتي لها اما في الغد فسيكون هناك شركات لا يستطيع أحد أن يثبت انها لي ) .
أن الأمر ذاته المرتبط بالسرية واخفاء المعلومات ينطبق على انتهاكات حقوق الانسان في سورية فنحن لا نعرف عنها الا السطح الذي لا تستطيع السلطات السورية اخفاؤه أما تحت ذلك السطح فهناك ألوف الجرائم والانتهاكات التي لانعلم عنها شيئا ولن نستطيع التوصل الى حل ألغازها ومعرفتها الابضغوط دولية مشددة ومنها على سبيل المثال ملف المفقودين السوريين فهناك 17000 سبعة عشر ألف سوري في عداد المفقودين منذ أكثر من ربع قرن ويرفض النظام الحالي كما رفض النظام السابق تحديد مصيرهم وماذا جرى لهم في مراحل الاعتقالات التعسفية والمذابح الجماعية التي فتت النسيج الوطني السوري الذي لن نستطيع اعادة لحمته وترميمه الا بعد أن يرتفع سوط القمع ويستعيد الشعب السوري حقوقه المنتهكة وتبدأ سورية رحلتها المؤجلة منذ وقت طويل على دروب التقدم والحرية .
*دكتور/ رئيس لجنة إعلان دمشق في بريطانيا
** مداخلة ألقيت في ندوة عقدت في مجلس اللوردات البريطاني بمشاركة لجنة الإعلان وأعضاء من المجلس وناشطين حقوقيين وكتاب وصحفيين، تاريخ 1/4/2008