صفحات سورية

لم يبقَ كلام لدى “المعارضين” اللبنانيين إلا وقالوه في المحكمة الدولية.

زياد ماجد
أفرغوا ما في جعبتهم من اتهامات وتساؤلات على مدى السنوات المنصرمة، ثم راحوا بعد أن حذّروا من خطر التسييس المحدق بها والمستهدف “نظام الممانعة السوري” يبشّرون بصفقة على حسابها نتيجة الانفتاح الأوروبي على دمشق المرافق لمفاوضات الأخيرة مع تل أبيب، والتي لا بد ستفضي – بحسبهم – تطبيعاً أميركياً مع “القيادة الممانعة” يُبعد عنها الكأس المُرّة!
ولفرط ما استُخدمت، في الكلام المُعارض المذكور، تشبيهات وقُدّمت مقارنات بين المحكمة “الافتراضية” وكل ما يمكن أن يخطر ببال من أمور وأشياء وحالات واحتمالات، لم يجد أحدهم في إسفاف معهود، سوى حذاءه يستعين به عليها، مكتشفاً شبهاً ما بين “واحدة من فردتيه” وبينها…
ثم قامت المحكمة.
انطلق عملها وافتَتحت أقواسُها مرحلةً جديدة سيكون القفز فوق مدلولاتها ومؤدّياتها، ولو بعد حين، ضرباً من ضروب دفن الرؤوس في الرمال أو الهروب من رؤية ملامح تبلورت وتكوّنت على شاكلة قضاة ومحقّقين ومدّعين عامين ومترجمين وحراس ومباني وقاعات وملفات وإفادات وشهود وقوانين… وزنزانات. ملامح صارت جميعها واقعاً سنعتاد عليه في الأشهر القادمة وسنعتاد على مصطلحات قد تنبثق منه لتشكّل بعضاً من يومياتنا وصخبنا ووعينا الجديد.
ذلك أنها المرة الأولى التي سنشهد، نحن المولودون في هذه المنطقة من العالم، محكمة تحاسب قتلة نشأنا على رؤية ضحاياهم ورثاء طرائدهم، ولكننا لم نقع يوماً على سفور وجوهم. لم نرَ يوماً أثراً لهم خلف قضبان تحبس عنهم الحرية التي سرقوها من أعمار من صرعوا.
وبهذا، سنتحوّل نحن المولودون هنا شهوداً على حقبة بدأها “الفاتح من آذار” هذا العام، وعنوانها طيّ صفحة التعايش البديهي بين الاغتيالات السياسية والحصانة للقائمين بها…
على أن قيام المحكمة لا يعني نهاية المطاف في المواجهة المفتوحة انتزاعاً لاستقلال لبنان واستقراره. فأمام اللبنانيين محطّات كثيرة وانتظارات طويلة قبل الرسوّ على ما يشتهيه أكثرهم من حياة طبيعية بعيدة عن الدماء والقلق الدائم من الغد القريب وذاك البعيد.
لكنه تتويج لمسار شاق، وتأكيد على أن الإرادة والصمود اللذين عبّر عنهما شهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام، مئات الألوف من الناس المتظاهرين والصابرين رغم القتل والتنكيل والتهديد والتخوين، يشكّلان عاملاً أساسياً في الدفع نحو تبنّي العالم للقضايا المرفوعة في وطن صغير ودعمه لها، ويثبتان أن لمس الإنجازات ممكن وأن التضحيات ليست دائماً نهباً للريح.
فبعد المساهمة في إنهاء هيمنة النظام السوري على لبنان عام 2005، وبعد الوقوف في وجه هجومه المضاد أعوام 2006 و2007 و2008، ووضعه تحت ضغط المحكمة المتحققة عام 2009، لا مفرّ اليوم من الاستمرار على نفس الإرادة والصمود، وبالمثابرة إياها، لحماية ما أُنجِز والتصدي للإستحقاقات القادمة: بدءاً من الانتخابات النيابية وصولاً الى ضرورة صون السلم الأهلي.
لعله يمكننا الطموح بعد ذلك، تأسيساً للمستقبل، الى بعض الراحة والى عمل جديد في فيء دولة وقانون…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى