صفحات سورية

مـا بعـد المحكمـة ..

طلال سلمان
تنفس اللبنانيون الصعداء، أمس، وهم يتابعون وقائع الاحتفال بمباشرة المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري أعمالها في لاهاي، بهولندا، التي تجرّأ البعض فوصفها بأنها «عاصمة العدالة الدولية».
ذلك أن اللبنانيين المنقسمين الآن من حول البديهيات يتفقون على أمر واحد: ضرورة جلاء الحقيقة حول الجريمة المهولة التي أودت بحياة «رجل العرب الذهبي» وأحد أبرز رجال الدولة والإنجازات وأعمال الخير، ومعه نائب بيروت الأستاذ الجامعي باسل فليحان وكوكبة من المرافقين الذين لم يتجاوزوا مرة حدود واجبهم المباشر، وكان «أبو طارق» يحيى العرب قدوتهم.
فغياب أو تغييب أو العجز عن كشف الحقيقة، ومَن خطّط ومَن أشرف على التنفيذ ومَن نفّذ هذه العملية المعقدة، وبكفاءة استثنائية، بحيث لم يترك خلفه دليلاً، كل ذلك فتح الباب للتخمين وللتقدير ولاستخدام الغرض في الاستنتاج، ومن ثم استغلال الاستنتاج سياسياً، في الخصومة أساساً كما في التحالفات، حتى صار الانشقاق مطلقاً: مَن هو بريء عند طرف مدان عند الطرف الآخر ومدان معه من تجرأ فبرّأه، ومن هو ظنين أو متهم صدرت الأحكام مبرمة ضده لأن المستفيد من تجريمه يخاف أن يدهمه الوقت قبل أن يستكمل استثماره في الاتهام.
وعبر النتائج السياسية التي تجاوزت أي تقدير لجريمة اغتيال الحريري فقد انقسم التاريخ السياسي للبنان إلى ما قبل الاغتيال وما بعده. تمّ التشهير بكل من كان مسؤولاً قبله، وبكل قرار صدر، حتى لو كان يحمل تواقيع بعض مستثمري الجريمة ممن أفادوا بغير حدود من «عهد الوصاية»، نيابات ووزارات ورئاسات ومنافع واستثمارات ومصادر نفوذ غير محدود ليس أسهل من تحويله إلى أرصدة محترمة بالدولار أو باليورو وصولاً إلى الين الياباني.
وزاد الأمر تعقيداً مع تحويل التحقيق في الجريمة إلى لجنة تحقيق دولية أولى رئسها مَن أثارت حركاته المسرحية واستنتاجاته المتسرعة بعض الشكوك حول حيدته، حتى لا نقول حول نزاهته… وهو ما مكّن بعض المستفيدين من استغلال الجريمة من توظيفه سياسياً في معسكرهم واستخدام بعض تصريحاته وتقاريره (التي سمع منها اللبنانيون نسختين سرعان ما سحبت أولاهما من التداول) لأغراضهم الخاصة التي ليس أسهل من أن تدخل في السياسات الإقليمية ومن ثم الدولية.
في عهد الرئيس الثاني للجنة التحقيق الدولية ساد جو من الرصانة بما أعاد الاعتبار إليها، وإن أثيرت إشكالات ما تزال مستمرة حتى اليوم حول طبيعة العلاقة بينها وبين القضاء اللبناني، لا سيما أن «المعاهدة» التي عقدها لبنان، آنذاك، مع اللجنة الدولية كانت عرضة لانتقادات جمة أبرزها أنها تتضمن تساهلاً في أمور «السيادة»، بما يكاد يلغي الدور اللبناني، حتى في مجال الرأي أو التقدير.
أما في عهد الرئيس الثالث للجنة والذي تحوّل منذ الأمس، رسمياً، إلى مدعٍ عام مع احتفاظه بمنصبه كرئيس للجنة التحقيق، فقد ساد جو من الرضا عن عمله، وإن برزت قضية اعتقال الضباط الأربعة وإشكالية المسؤولية عن استمرار احتجازهم، مع تواصل تأكيد اللجنة أن هذه المسؤولية تقع على عاتق القضاء اللبناني وحده.
ولعل هذه القضية قد اتخذت أبعاداً إضافية الأسبوع الماضي، عندما قرّر قاضي التحقيق، فجأة، ومن دون تمهيد، إطلاق سراح ثلاثة من الموقوفين على ذمة التحقيق منذ ثلاث سنوات أو يزيد، والذين بوغتوا بهذا القرار المفرح، خصوصاً أنهم لم يكونوا قد تقدموا بطلبات لإخلاء سبيلهم… في حين رُدت جميع طلبات إخلاء السبيل التي تقدم بها وكلاء الضباط الأربعة.
المهم الآن أن المحكمة قد انتظمت بكامل هيئتها، وإن كان التحقيق لمّا يكتمل… بل هو يحتاج مزيداً من الوقت. وبالتالي فنحن أمام سنوات قبل اختتام المحاكمة وإصدار الأحكام، اللهم إلا في ما يعني الضباط الأربعة الذين انتقلت المسؤولية في قرار توقيفهم (أو إطلاق سراحهم) إلى المحقق الدولي، والذي سيبت فيه خلال الشهرين المقبلين.
والأهم أن اللبنانيين عموماً قد سلّموا بأن تكون المحكمة الدولية هي المرجع القضائي للبت في هذه الجريمة السياسية الكبرى… وقد تراجعت التحفظات مع ابتعاد المحكمة عن الساحة المحلية بكل ما تضمه من تناقضات ومخاصمات ومشاحنات تنحدر من السياسة إلى الطائفية فالمذهبية فتكاد تتسبّب في اغتيال ثان للشهيد الكبير، بل وإلى اغتيال لبنان كله بدولته ومؤسساته.
ولعل قيام هذه المحكمة «الأولى ضد الإرهاب» والتي كانت مطلباً سياسياً فباتت مرجعاً قضائياً دولياً لا يطاوله الاعتراض أو التشكيك، يساعد في تهدئة الجو عشية الانتخابات النيابية، فتتم بما يحمي مستقبل اللبنانيين في وطنهم بحيث يمكن القول إن الشهيد رفيق الحريري قد أكمل جهده في حياته من أجل لبنان كوطن عربي مستقل في دولة ذات سيادة يحميها انتماؤها قبل الضمانات الأجنبية وبعدها.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى