صفحات العالم

البشير مرتكب… ولكن ؟

امين قمورية
غداً من المقرر ان تبت المحكمة الجنائية الدولية مسألة اصدار مذكرة توقيف في حق الرئيس السوداني الذي يتهمه المدعي العام الدولي لويس مورينو اوكامبو بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية في اقليم دارفور السوداني المنكوب. وهكذا سيكون عمر البشير رابع رئيس دولة يلاحقه القضاء الدولي بعد الليبيري تشارلز تايلور، واليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش، والصربي ميلان ميلوتينوفيتش. لكنه الاول الذي يُلاحق وهو يمارس السلطة بينما كان الثلاثة الاوائل خارجها.
في دارفور تتحدث التقارير الدولية عن حملة ابادة جماعية سقط ضحيتها في غضون ست سنوات 30 الف ضحية في القتال المباشر و200 الف بسبب الظروف المأسوية الناجمة من الحرب، فضلا عن نزوح اكثر من مليوني دارفوري عن ديارهم، واغتصاب البنات والنساء، وتدهور الحياة المعيشية. في حين تستغرب الخرطوم هذه الارقام وتصر على ان عدد ضحايا القتال لايتجاوز العشرة آلاف فقط !
وفي اي حال فان النسبة الاكبر من الضحايا هي من الدارفوريين الافارقة، اي ابناء قبائل الفور والمساليت والزغاوة الذين كانوا هدفا لهجمات “الجنجويد” ورعاتهم الحكوميين من جيش البشير وحزبه. اذن ثمة مسؤولية اساسية عن هذه الحصيلة المفجعة تقع على عاتق نظام الخرطوم، وبما ان البشير هو راس النظام الفعلي بعد “طلاقه” السياسي مع شريكه في الانقلاب حسن الترابي وجبهته الاسلامية التي يتغير اسمها بحسب المواسم، فهو اذن لم يُظلم عندما وُضع في دائرة الاتهام. غير ان ذلك لا يعني تغييب المسؤولية عن الآخرين، وإن بنسب اقل، وخصوصا عن حركات التمرد الدارفورية التي جبلت ايديها ايضا في عمليات القتل الجماعي ودماء القبائل العربية المعادية لها، فضلا عن مسؤولية دول الجوار ولاسيما تشاد التي تورطت في القتال حتى اذنيها، وكذلك المجتمع الدولي الذي تأخّر كثيرا قبل ان يرفع الصوت لوقف المجازر ويقبل بنشر قوة لحفظ السلام.
هذا التغييب المتعمّد لمسؤولية الآخرين في قرار المحكمة الدولية من شأنه ان يشكّل في يد سلطة الخرطوم اثباتا على ان العدالة الدولية عرجاء وتكيل بمكيالين، وان المحكمة تحرّكها السياسة وليس العدالة، وخصوصا ان السودان مثل اسرائيل والولايات المتحدة لم يوقّع ميثاق روما الذي أنشئت بموجبه المحكمة، وتاليا يفترض الا تسري عليه احكامها تماما مثلما ترفض المحكمة لهذا السبب بالذات طلبات اجراء تحقيق في الجرائم الاسرائيلية والاميركية في فلسطين ولبنان والعراق. وازاء هذا “الخلل” ستجد الحكومة السودانية ثغرة للتمسك بالسلطة والقول ان القرار الدولي وهو محاولة غربية – اميركية لفتح باب التدخّل الخارجي في السودان طمعا بثرواته الهائلة التي لا تزال مدفونة، وسعيا استعماريا جديدا الى تناتش هذا البلد وخيراته. وستجد في ذلك دعم بعض الزعماء العرب والاجانب الذين يخشون ان يشكّل قرار محاكمة البشير سابقة لن ينجوا بأنفسهم منها في المستقبل.
السودان بعد القرار الجديد، يرسم صورة عراقا آخر في الافق. فالاتهامات المسوقة ضد النظام السوداني لم تأت من العدم مثلها مثل القبور الجماعية في عهد صدام التي لم تظهر من فراغ، فالجرائم حصلت فعلا ولايمكن التغاضي عن بشاعتها، ولا بد من محاسبة مرتكبيها، أياً كانوا، حتى يشكلوا عبرة للانظمة القمعية التي تقتل وتشنّع من دون حسيب او رقيب. ولكن في غياب آليات المحاسبة الداخلية واستبدالها بآليات اقتصاص خارجية، بعد صحوة ضمير دولية مفاجئة، يوضع السودان في الاشكالية نفسها التي وجد فيها عراق صدام: الرضوخ للامر الواقع الذي يفرضه النظام القائم، او ازاحة هذا النظام بالقوة، او بتأليب المتمردين عليه من دون توافر بديل ديموقرطي وطني جامع جدي وقادر على الامساك بالسلطة، وتاليا ترك البلد اسيرا للفوضى اوالاحتلال الخارجي او التقسيم.
هذا البديل الديموقراطي كان يمكن التأسيس له عبر اجراء الانتخابات التعددية المقررة هذه السنة والتي توافق على المشاركة فيها الاحزاب الجنوبية واحزاب المعارضة الشمالية الى جانب حزب البشير كخطوة نحو الوفاق الداخلي. ولكن هل جاء توقيت القرار الدولي خدمة لهذا الهدف ام ضربة قاصمة له حتى لاتقوم للسودان قيامة؟
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى