عودة ثقافة الفقر: لغة باراك أوباما وفيلم المليونير المتشرّد
جهاد الزين
شهدت الاسابيع المنصرمة “حدثين” رئيسيين في مجال الثقافة السياسية على المستوى العالمي
الحدث الاول ظهور “لغة” باراك اوباما على مسرح التداول السياسي – الاقتصادي. انها لغة استخدام مصطلحات “الطبقة الوسطى” و”الاميركي العادي” ومؤخراً تهديد “اصحاب المصالح الخاصة” الذين – كما قال الرئيس الاميركي – “يستعدون لمحاربتي وانا كذلك” في رسالة اذاعية وجهها نهاية الاسبوع المنصرم. لغة رغم “وسطيتها” بسبب صدورها عن موقع المسؤولية الأول في الدولة الاميركية، إلا ان العين والإذن المشاهدة السامعة لا تخطئان مضمونها الاجتماعي المختلف، والذي يحمل معه – رغم انتمائه العميق الى الاستابلشمنت – شحنة طبقية مساواتية اعمق، تصدر اصلاً عمن يمثل مجرد وجوده حتى الآن تغييراً تاريخياً في سياق المسألة العنصرية في العالم.
صحيح… انهم “الديموقراطيون” عموماً العائدون الى السلطة مع باراك اوباما بعد سيطرة طويلة للقوى الاكثر يمينية على الحزب الجمهوري في بلد تسيطر اصلاً على ثقافة نخبته الحاكمة مفاهيم حرية السوق، لكن حجم الازمة المالية – الاقتصادية، اي في الاقتصادين المالي و”الحقيقي”، يحرك في نخبة “الحزب الديموقراطي” العائد مفاهيم اجتماعية قلقة من تفاوت المداخيل ونتائجه نزوعاً اكثر الى يسار الوسط من نزوع البقاء في منطقة الوسط كما كانت الموجة السابقة.
هكذا في “فريق اوباما”، ليس صدفة ان تذهب هيلاري كلينتون خارج “نطاق اختصاصها” شكلياً في جاكرتا عاصمة اندونيسيا لزيارة الاحياء الاكثر فقراً حيث المجارير المكشوفة وسط اكواخ الفقراء بمئات الالوف… او يذهب السيناتور جون كيري، احد “عرابي” دعم باراك اوباما والرجل النافذ حالياً في واشنطن كرئيس للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الى قطاع غزة لمشاهدة احد اكثر الامكنة اكتظاظاً وفقراً ليس في فلسطين وحدها بل في العالم العربي، في جو اميركي يعود فيه كتاب مثل “عقيدة الصدمة – صعود رأسمالية الكارثة” لنعومي كلاين ليكون في مقدمة المبيعات في نيويورك وواشنطن وسان فرانسيسكو وغيرها رغم صدور طبعته الأولى عام 2007.
الحدث الثاني الابرز في مجال الثقافة السياسية العالمية هو فوز الفيلم المصطلح على ترجمته بالعربية “المليونير المتشرد” بجائزة الاوسكار لافضل اخراج وهي الرئيسية بين ثماني جوائز نالها هذا الفيلم ذو الاخراج والتمويل البريطانيين والتمثيل الهندي.
لا اظن ان هوليوود خارج الموجة “الاوبامية” التي ساهمت اصلاً بوصولها.
هكذا نشهد في مرحلة الازمة المالية – الاقتصادية العالمية الضخمة عودة اعتراف بما يمكن تسميته “ثقافة الفقر”. كأنما ببعض المجازفة في التعبير، “غاب” الفقر سياسياً عن مسرح القيادة الثقافية وغابت معه لغته من يسار الوسط الى يسار اليسار. بدا المسرح في العقد المنصرم على الاقل تحت السيطرة الكاملة لثقافة ايديولوجية رأسمالية، ديناميكية جداً، بلغت حركة ومفاهيم، اعلى مستوياتها مع سيطرة رأس المال المالي، في ما اصبح يعرف بـ”الرأسمالية المتوحشة”.
الفيلم قاس ذكي لكن اهم ما فيه انه لا يشبه الا نفسه. شيء لم نشاهد مثله سابقاً، موضوعاً وتناولاً.
اننا هنا امام قاع الفقر في الهند. اي فعلاً في قاع العالم البائس. هناك احياء في مانيلا او جاكرتا او حتى بيروت (مخيم صبرا) او القاهرة او الرباط او ساوباولو تشبه الاحياء المعدمة حول وفي مدن الهند كمومباي (حيث صور معظم الفيلم) او كالكوتا او دلهي… لكن لا شيء يفوق الفقر الهندي.
… ولقد قام الفيلم بتصوير هذا الفقر في اعنف وابشع وأبأس صوره.
افهم ان يعترض عديدون، رسميون او مثقفون هنود على هذه الصورة للهند، لكن مثقفين ومعلقين آخرين مرموقين من الهنود ردواً ايضاً بعقلانية قائلين ان وجود فيلم مهم وكاشف وحقيقي (من حيث البيئة الاجتماعية) كهذا لا يمنع من كون الهند بلداً يتقدم على خطي الديموقراطية والاقتصاد كدولة ذات مستقبل. فأمام السبعماية مليون فقير تتسع الطبقة الوسطى الهندية الى اكثر من ثلاثماية مليون شخص بما اصبح اهم سوق داخلية في آسيا من حيث القدرة الشرائية تعادل العالم العربي كله! وبما دفع معلقاً في صحيفة “تايمز اوف انديا” للكتابة ان هذه الطبقة الوسطى باتت تربطها بالطبقة الوسطى الاميركية قيم ونمط حياة، اكثر مما ترتبط بجارتها باكستان… التي كانت قبل ستين عاماً ونيّف جزءاً من الهند! هناك من يكتب ذلك حتى لو ان مخرج الفيلم البريطاني قال بعد الفوز بالاوسكار انه في معرض التحضير لتنفيذ الفيلم زار احياء معدمة في مومباي حيث شاهد العلم الباكستاني مرفوعاً فيها!
الفيلم الذي يختار طفلاً من عائلة معدمة مسلمة، بل يعرض للحظات هجوماً من رعاع هندوس يؤدي الى قتل امه، ليس ابداً فيلماً حول المشاحنات الطائفية التي تملأ حياة الهند وتعيش مع تقدمها كبلد. انه فيلم الفقر… والفقر الاوحش والابشع والأبأس… وحسب. اما ذكاء الحوار فيتأتى من هذا التركيب الذي يجعل المخزون الثقافي للفتى الشجاع والعاشق حصيلة خبرته الحياتية… وهو الذي لم يتعلم في أي مدرسة… ففي اللحظة – الذروة للفوز بالسؤال الاخير من الجائزة التي ستجعله مليونيراً يخبر مذيع البرنامج ذا الاداء الناجح انه لا يعرف… القراءة.
• • •
بدا “الأغنياء” الكبار مسيطرين في العقدين المنصرمين لا فقط على الاقتصادات في العالم وسلطاتها… بل على الثقافة السياسية ايضاً. كانت “الثقافة” في القرن العشرين قد اصبحت في الحيز الاعتراضي على السلطات ومؤسساتها. اما في اواخر القرن العشرين والعقد الاول من هذا القرن شاهدنا المفاهيم السياسية تخضع ايضاً، من حيث هي ثقافة اقتصادية، اجتماعية، للمفاهيم الاكثر رأسمالية، حتى “علاج الفقر” بدا طويلاً وجهة نظر رأسمالية!
لن يذهب العالم الفعلي طبعاً الى الحد الذي ذهبت اليه “نيوزويك” الاسبوعية الاميركية (مدير تحريرها الهندي المسلم الاصل فريد زكريا) في عدد 16 شباط المنصرم عندما صدرت وعلى غلافها هذا العنوان: “كلنا الآن اشتراكيون”… وان كان السطر الثانوي من تلك المانشيت هو الذي بدأ يتحقق باضطرار كل (اميركا) للتسليم بـ”الحكومة الكبيرة” تبعاً للمصطلح الخاص الاميركي.
… حتى فتى الحي المعدم المتشرد في الفيلم… يرتبط بانجاز رأسمالي عندما يربح الجائزة الكبرى، لكن هذه “الجائزة” المحركة في الفيلم والتي تبدو ايضاً تحت رقابة “مافياوية”… وعنف سلطوي… يتراجع تأثيرها امام ما يبقى من قاع الفقر الاعمق في العالم… القاع الذي يفيض على ضمائرنا… ويغمر عيوننا التي تشيح عن الشاشة احياناً، استنكاراً و… خوفاً.
النهار