صفحات مختارة

العروبة وإشكاليات الوطني والإثني ـ المذهبي في العراق

فالح عبد الجبار ()
]أولاً: البدايات
من المتفق عليه عموماً أن ظهور أولى نماذج الدولة القومية اتخذ من أوروبا مسرحاً له (القرون السادس عشر حتى التاسع عشر)، وقد سبقت ورافقت هذا الظهور عملية تحولات عميقة، انتقالية من عصر إلى آخر، من المجتمع الزراعي التقليدي، أو الإقطاعي، إلى المجتمع الصناعي الحديث، أو الرأسمالي، وهو مجتمع أطلق تحولات اجتماعية-اقتصادية وثقافية ديناميكية ارتكزت على، وأدت إلى ابتداع تقسيم ديناميكي للعمل، وأسواق كبيرة موحدة، وثقافة (بالمعنى السوسيولوجي) معيارية موحدة، مع ما يرافقها من إبداع وتوحيد نظم تعليم، وتوطيد اللغات المحلية وسيطاً، والعلمنة، أي إضعاف السطوة الشمولية للكنيسة، الخ. وبإيجاز ثمة مجتمع جديد تجاوز الحدود الضيقة للتنظيم الزراعي.
خلاصة ذلك أن الدولة ـ القومية، والنزعة القومية، هما نتاجان تاريخيان، قريبا العهد، رغم تكونهما من عناصر يبدو بعضها وكأنه موغل في القدم، أو سابق للتاريخ!
لكن هذا المطّ التاريخي الذي يختلقه التخيل القومي عن وجود الأمم العابر للأزمنة، يميز معظم منظّري القوميات. وإن العرب والكرد ليسوا استثناء في ذلك.
ونجد أن المنظّرين القوميين العرب يزدرون، عموماً، التاريخ ويضعون ظاهرة الأمة والدولة القومية والقومية فوق التاريخ نفسه، مؤمثلين الزمان، أو متقدمين إلى المستقبل بحثاً عن ماض لم يكن. حسبنا تذكر الشعار المعروف: “أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة”.
في هذا التصور لوجود الذات القومي تبدو العلاقة بين الأمة والفرد بمثابة علاقة طبيعية، شأن امتلاك المرء عينين، وأذنين، ورأس وأطراف.
بالمقابل، نجد أن كتلاً واسعة من قادة التيار الإسلامي المعاصر، تنكر من جانب وجود مفاهيم أو نظم مثل القومية والدولة ـ الأمة، إلخ، في الإسلام، وتدعو من جانب آخر إلى بناء “الأمة الإسلامية” التي ينبغي أن ترتكز في معمارها على الدين لا الإثنية أو غيرها من المحددات والنظم الثقافية؛ أو تقول إن مثل هذه الأمة كانت قائمة في الماضي التليد، وأنها توشك على الانبعاث في القريب العاجل( ). وبذا نجد أنهم لا ينبذون السرمدية المتخيلة للقومية والأمة بما هي عليه، بل ينبذون أزلية صنف معين من القومية والأمة يقوم على الإثنية لا العقيدة الدينية.
ونقرأ في كتابات منظّري التيارين كليهما هجاء بيّناً: إن الغرب الكولونيالي أعاق وحدة الأمة العربية (عند المنظرين القوميين)، أو أنه زرع القومية لتدمير وحدة الأمة الإسلامية (عند المنظّرين الإسلاميين).
ويبدو أن المدارس القومية العربية والكردية تنزع إلى معارضة إدراج الدين كمميز أو محدد للأمة، أو إن أردنا التعبير عن ذلك من الجهة المقابلة، إن التيارات الإسلامية تعارض التعيين الإثني ـ اللغوي للقومية العربية أو القومية الكردية، ذلك أن أي محددات لادينية للجماعة القومية تبدو في نظرهم في تنافر مع العلامات الدينية الفارقة (الإسلام)، إن لم تكن تعد مناوئة لها.
إن هذا العيش المتوتر بين المعيّن الديني والمعيّن اللغوي ـ التاريخي قد ميّز مسار تطور النزعة القومية العربية، ومن شأنه أن يلقي بظلاله على مسار القومية الكردية في المستقبل مع استمرار صعود الإسلام السياسي في كردستان العراق في الأقل.
]ثانياً: القومية، العلمانية، الدين
إن معاينة العلاقة بين النزعة القومية العربية أو الكردية والإسلام، أو بوجه أعم بين النزعة القومية عموماً، والدين عموماً، تقودنا إلى وجوب البحث في دور الدين/ العلمنة في تعزيز أو إضعاف بناء الدولة القومية، مع علمنا بأن هذه العلاقة تبلغ من الخصب مبلغاً يجعلها تتبلور في صيغ وأشكال متنوعة تتحدى ثنائية الـ مع/ ضد المبسطة.
ابتداءً، تطرح العلاقة بين القومية والدين في الإطار التاريخي العام القائل بأن النقلة من التنظيم السياسي التقليدي إلى التنظيم الحديث، اقترنت بالعلمنة، أي فصل الكنيسة عن الدولة، وبحسب أندرسون، كان انبلاج فجر القومية الأوروبية يتوافق مع أفول المؤسسة الدينية. والمغزى واضح: إن العلمنة وبناء الدولة القومية صنوان لا يفترقان، كعنصرين من عناصر توليد الالتحام عبر خلق ولاءات جديدة تنبع من مجتمع صناعي حديث، ديناميكي، ذي ثقافة معيارية موحدة؛ وإن الولاءات الجديدة تقف فوق أشكال الولاء القديمة، سواء كانت الولاءات القديمة أكبر أو أصغر من الدولة القومية، أي سواء كانت الولاءات تُمحض لامبراطورية فوق قومية أو إلى دين عابر للقوميات (الإمبراطورية الرومانية المقدسة، آل هابسبورغ، آل رومانوف، إلخ) أم تُمحض لكيانات دون قومية (طائفة، مدينة، عشيرة، إلخ).
تقدم سوسيولوجيا القومية تحليلاً مغايراً يؤكد أن تحطيم تقسيم العمل الثابت في المجتمع الزراعي، وكسر احتكار رجال الكهنوت للثقافة، وتعميم الثقافة العليا عبر نظم التعليم واللغة المحلية، كان مستحيلاً من دون الإصلاح الديني. بتعبير آخر، إن الإصلاح الديني، والدين كمكون ثقافي وكمؤسسة، يعد حجر الزاوية في الوحدة السياسية الجديدة: الدولة القومية. هذا هو تحليل ورأي غيلنر.
إذا كانت الاستنتاجات الأولى المضادة للكنيسة (أندرسون) والاستنتاجات الثانية المؤاتية لها (غيلنر)، صحيحة سواء بسواء، فإن الاستنباط الوحيد المتبقي لنا من جمع هذين الضدين هو أنه من المستحيل إلصاق جوهر ثابت بالأديان العالمية التوحيدية، وبالذات بالمسيحية (والإسلام أيضاً كما نعتقد) باعتبارها، في ذاتها ولذاتها، معجلاً أو عائقاً لنشوء الدولة القومية. بكلمة أخرى، إن دور الدين في مسألة نشوء الدولة القومية ليس ثابتاً ولا موحداً، وإنه لا يمكن إرجاع هذا الدور إلى جوهر محدد ومعطى.
إن توحيد الثقافة (عبر نظم التعليم) يشكل عنصراً أساسياً من عناصر بناء الدولة/ الأمة، أو الدولة القومية، وتنطوي الثقافة على مكونات دينية بالنسبة الى العديد من الشعوب التي انتقلت إلى بناء الدولة القومية انطلاقاً من نقاط ما قبل المجتمع الصناعي.
يشكل الدين، في اندماجه بالمكونات الثقافية، عنصر تمايز خارجياً للقومية المعينة، وعنصر تماثل داخلياً لها. خذ روسيا الأرثوذكسية مقابل أوروبا الغربية الكاثوليكية مثلاً!
وفي المراحل الأولى من نشوء الدول القومية في أوروبا الغربية (النموذج المركزي- الأوروبي) نجد أن اللاهوت المعقلن، أي الإصلاح الديني، أسهم في خلق كنائس قومية، متحدياً السلطة الكونية، فوق القومية، للكنيسة الكاثوليكية، وناقلاً هذا التحدي إلى الميدان الثقافي: إلغاء اللغة اللاتينية، وترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات القومية (الانكليزية، الألمانية، إلخ)، هذا الوسيط الأساسي لتوحيد الثقافة القومية ذاتها.
وعلى أية حال، فإن الدور الذي تؤديه الثقافة، أياً كان الشكل الذي نراها به، هو وظيفة تماثل ومجانسة، وتشكل في الوقت ذاته وظيفة تمايز. إن التماثل يقوم على تعيين هوية موحدة، وتعيين الهوية لجماعة معينة يعادل تفريقها عن هوية جماعات أخرى. بتعبير آخر، إن التحديد (= التماثل) هو أيضاً نفي (= تمايز)، أو على غرار المنطق الشكلي آ هي آ وليس ب.
فحين يصف المرء شيئاً بأنه ليس أبيض (ليس ب)، على سبيل المثال، فلا يترتب على ذلك أن هذا الشيء أحمر، أو أزرق، أو أبيض، أو أخضر! (ليس ج، هـ، و، ز)، لكن تعيين هوية الشيء بأنه اسود، مثلاً، سينفي مطلقاً سائر الصفات الممكنة في الطيف اللوني نفياً قاطعاً (استخدم غيلنر: الأزرق).
(لمن ينزعجون من المماثلة بين التمايز القومي أو الهوية القومية واللون ـ الأبيض هنا ـ حسبنا أن نذكر أن لغة الأسكيمو، خلافاً للغات عديدة، تنفرد بوجود ما لا يقل عن 15 كلمة لأنواع متباينة من البياض. هذا يتيح الحديث عن التمايزات الأخرى داخل الأبيض = الأمة).
نورد هذا التفصيل ابتغاء الإشارة إلى محنة أولئك المنظّرين القوميين الذين يحددون التمايز بأسلوب مقلوب، أي يؤسسون الجوهر القومي على سبيل النفي (لا أبيض)، وهو تعيين هلامي، يشبه تعيين فيخته للعالم بأنه: لا أنا (Nicht Ict) .
خرج العرب والكرد من رحم الإمبراطورية العثمانية المقدسة. وتقاطعت مصائرهم السياسية والإقليمية والثقافية بفعل الانتقال من الإمبراطورية العلية، هذا الشكل السياسي فوق القومي، بل ما قبل القومي، إلى الدولة القومية الحديثة التي جمعتهم قسراً (في إطار العراق وتركيا) مع إثنيات أخرى.
]ثالثاً: العراق: أسئلة الانقسام البشري
ما الذي حصل، إذاً، حتى تكتسي الفوارق في المذهب كل هذه القوة التدميرية في الإقصاء، وكل هذه القدرة على توليد الغضب والقتل على الهوية؟
ليست المشكلة في الاختلاف، بل في طريقة النظر إليه، وفي تأويله، وفي حامله الاجتماعي – بقيمه وعقله.
علمتني الدراسات السوسيولوجية عن القوميات أن الجماعات تحدد نفسها ومعنى وجوده بسبلٍ شتّى، وأن الثقافة هي أداة هذا التحديد. ولعل من بين أقدم أشكال التنظيم الاجتماعي هو القبيلة التي تقوم ثقافتها على أيديولوجيا النسب الأبوي (أو الأمومي عند الطوارق)، وأن “صلة الرّحم” و “صلة الدم” هما من أقدم تعيينات الجماعة المنغلقة المسماة “قبيلة”، وأن هذا النسب هو ما يميّز جماعةً عن أخرى، على رغم معرفة الأنثروبولوجيين، بعد دراسات مستفيضة، أن القرابة هي إما حقيقية أو متخيلة: فغالباًً ما يكون الجوار، أو التصاهر، وسيلةً لخلق جماعةٍ جديدةٍ لا تتحدر من نسبٍ مشترك.
ولعل الأديان هي الشكل اللاحق للانتساب، وتعيين الهوية. ولا يقتصر الدين على تمييز جماعة المؤمنين عن جماعة أخرى تنتمي إلى حقلٍ ديني آخر، بل إن الدين الواحد ينقسم بفعل تطوره إلى مدارس نسميها في العربية الدارجة “شيعاً ومذاهب”. وليس ثمة دين يخلو من هذه الانقسامات القائمة على تنوّع التأويل، وتنوع الرؤى والمصالح والمشارب.
ولقد تأسست إمبراطوريات الماضي على الهوية الدينية العابرة للقبائل والأقوام (تجمعات غير قبلية). فالإمبراطورية الرومانية المقدسة حملت شعلة المسيحية وانقسمت لاحقاً إلى شطرين، مثلما انقسمت المسيحية إلى كاثوليكية (عقيدة التثليث) وأرثوذكسية (الطريق القويم)، ثم لاحقاً إلى بروتستانتية (احتجاجية) وكاثوليكية. ولم تتوقف الانشطارات حتى اللحظة.
[1 ـ العثمانيون والمِلل والنِّحَل
نشأت إمبراطوريات عدة على أساس الإسلام، كان آخرها الإمبراطورية العثمانية، السنّية الحنفية، المتسامحة مع المذاهب السنّية الأخرى (المالكية، الشافعية، الحنبلية). وفي هذه الإمبراطوريات يقوم التنظيم الاجتماعي على هرمية (تراتب عمودي) يقف المسلمون السنّة في قمته، يليهم المسلمون الشيعة، فالمسيحيون، فاليهود، فبقية الأديان. والفيصل الأساسي بين المسلم وغير المسلم هو دفع العشور من المسلم، والجزية من الذِّمّي. وقد تحوّل هذا النظام، تدريجياً، بعد الإصلاحات العثمانية (بين عامي 1840 و 1870)، إلى ما يُعرف بنظام المِلل، حيث تعيش كل جماعة دينية (عدا المسلمين) وفقاً لقانونها، وتختار ممثليها لدى الباب العالي. واحتفظ الدستور العراقي الأول ببعض هذه التنظيمات لجهة تمثيل المسيحيين (النصارى بحسب الدستور) واليهود (الموسويون بحسب تعبير دستور عهد ذاك). لكن الانتقال من عصر الإمبراطورية المقدسة إلى الدولة القومية الحديثة جاء مربكاً وفجائياً؛ فالدولة الحديثة تقوم على مبدأ المواطنة، أي مساواة أي فردٍ مع أي فردٍ آخر، مسلماً أو ذمياً. حسبنا الإشارة إلى أن كثرة من الإسلاميين ما يزالون يتمسكون بمبدأ أهل الذمة، أي الهرمية القديمة التي تلغي المساواة.
وما يصح على العلائق بين الرعايا المسلمين والرعايا من “أهل الذمة” يصح أيضاً على العلائق بين أهل المذاهب، أي المسلمين. فالدولة العثمانية كانت تستبعد من الإدارة والجيش كلّ من لا يتحدر تحدراً سنّياً.
[2 ـ الدولة الجديدة
ورثت الدولة العراقية الوليدة هذه المشكلة. فلحظة تأسيس الدولة العراقية (1921) في ظل الانتداب، كانت البيروقراطية والجهاز العسكري من أهل السنّة. أما الشيعة ـ والحديث هنا عن المدن ـ فكانوا أهل تجارة وأعمال، شأن الموسويين. وقد رفض المسلمون فكرة المساواة: فشيوخ العشائر والأشراف، مثلاً، كانوا يرفضون المساواة مع أتباعهم من الفلاحين، أو أبناء الحرفيين. ومعروف أن أول رئيس وزراء عراقي، الشيخ عبد الرحمن النقيب، وهو من عترة الكيلانية (أشراف)، كان يحتقر الضباط العراقيين من الجيش العثماني لأنهم كانوا “بلا أصل”، أي أبناء فقراء المدن.
وبهذا المعنى، فإن القيم الدينية، والقيم الاجتماعية، كانت ميالة إلى الانغلاق والمفاضلة والتفريق، لا إلى الانفتاح والمساواة والتوحيد. ومن هنا برزت الحاجة إلى أيديولوجيا أو نظامِ قيمٍ جديد، هو القومية (أو الوطنية)، التي تعلي شأن الأمة (القوم)، أو الوطن، الوعاء المادي للجماعة.
أدت الأيديولوجيات القومية هذا الدور في خلق الجماعة القومية، بتقويض مبدأ الرعايا، وإرساء مبدأ المواطنة. ويشكل هذا انتقالاً من مجتمع التراتب الهرمي (العمودي) إلى مجتمع التجاور المساواتي (الأفقي). ألم يكن شعار الثورة الفرنسية: “حرية، إخاء، مساواة؟”.
ولدت الوطنية العراقية خلال ثورة العشرين في المدن الكبرى، وبخاصة بغداد، على يد عدد من تجار المدن، وعلى رأسهم التاجر الشيعي جعفر أبو التمن، مؤسس الحزب الوطني. وعلى رغم أن المدن كانت ضعيفة (24 في المئة من سكان البلاد)، فإنها اضطلعت بدور صانع الأفكار، ومحرّك التمرّدات على سلطة الانتداب. وقد نظّم جعفر أبو التمن وأقرانه أول تظاهرات حديثة على شكل مولد نبوي (طقس سنّي) وموكب حسيني (طقس شيعي) في آن معاً، فكان هذا الطقس الجديد (المولد ـ الموكب) إيذاناً بولادة الوطنية العراقية وسط عرب المدن.
بموازاة ذلك كان الضباط الشريفيون ـ وهم الضباط العراقيون الذين تركوا الجيش العثماني والتحقوا بالأمير فيصل ملك سوريا، فملوك العراق ـ ميّالين إلى الفكرة القومية العربية، متطلعين إلى إنشاء دولة عربية كبرى. وكانوا، في جانب من عملهم ونشاطهم، يعززون استقلال العراق (النشاط الوطني) ويعملون في جانب آخر على تجاوز ذلك باتجاه كيان عروبي أوسع. هنا تكمن نقطة أخرى من المشاكل المقبلة على العراق الجديد، وهي التقاطع بين الوطني (العراقي) والقومي (العربي). ذلك أن العراق، كما رسمت حدوده الإدارة الكولونيالية البريطانية، كان يضم بين دفّتيه أقواماً عدة: كردية، آشورية، تركمانية، إلى جانب القومية الأكبر عدداً: العربية. وهو يضم مجموعة أديان وطوائف ومذاهب. وكان توحيده على الأساس العروبي يعني إقصاء ربع سكانه. أما توحيده على الأساس الديني ـ المذهبي، فيعني تقسيمه إلى نصفين.
كان العراق دولة إقليمية تبحث عن أمة، لا أمةً (جماعة قومية) تبحث عن دولة، وبوسعي المجازفة بالقول إن أزمة بحثه عن هوية عام 1921 لا تقل حدة عن أزمة بحثه عن هوية حالياً.
[3 ـ فيصل وكوكس
لعل أبرز تعبير عن أزمة الهوية عام 1921 ما دار بين الأمير فيصل (قبل تتويجه) والسير بيرسي كوكس (Cox)، المندوب السامي البريطاني، والحاكم الفعلي للعراق. شرح كوكس للملك المقبل فكرة التنظيم السياسي الجديد في المنطقة: دولة تركية شمالاً، ودولة كردية مجاورة، ودولة عراقية (لعرب العراق). اعترض فيصل بدبلوماسية قائلاً:أنت تعطيني دولةً محاطةً بالأعداء. فثمة الترك (الذين حاربناهم) شمالاً، والسعودية (أو ابن سعود المحارب) جنوباً. وأوضح فيصل أنه عربي شافعي (سُني)، وأن أغلبية عرب العراق من الشيعة؛ فإن ذهب الأكراد في دولة، وفقاً لمبدأ القوميات (من الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون إلى الرئيس الثوري الروسي فلاديمير لينين)، فإن فيصل سيجلس على عرش مملكةٍ ذات أغلبية شيعية لن تستقيم له. وافق كوكس على ذلك الرأي. وبهذا الترتيب بات العراق دولةً متعددة القوميات، وذات وزن سني مكافئ تقريباً للشيعة (45 في المئة للسُّنة مقابل 52 في المئة للشيعة، و3 في المئة لبقية المكونات).
ولكن كان على الدولة الجديدة أن تحل مشكلة الاندماج الصانع للأمة.
]رابعاً: قضايا الاندماج والتمزق
لا تنمو الأمم والقوميات في الحقول أو على الأشجار، فهي لا تنتمي إلى حقل الطبيعة، بل إلى ميدان التنظيم الثقافي ـ الاجتماعي، وهي تتأسس بأشكالٍ عدة.
دخل العالم عصر القوميات منذ الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر. ثم تبع فرنسا كل من ألمانيا وإيطاليا وأمريكا، فدول أمريكا اللاتينية, وآسيا وأفريقيا.
تنشأ الأمم من وجود جهاز سياسي مركزي، ووجود نظام اتصال ثقافي موحد (اللغة، الجرائد، الكتب، الجامعات) ونظام اتصال مادي (طرق وتجارة وأسواق)، متداخلة، متكاملة، متفاعلة، في إطار رقعة جغرافية محددة. العراق مرّ بهذه المرحلة التأسيسية بشكلٍ أولي خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بفضل الإصلاحات العثمانية التي أدخلت سكك الحديد، وخطوط التلغراف، والمدارس الرشدية، والخدمة العسكرية الدائمة، وتوحيد جهاز الإدارة في بلاد الرافدين ومركزته في بغداد. إلا أن فترة الانتداب والعهد الملكي كانا أكثر عنفواناً في ميدان التوحيد والمركزة. ولعل أهم عنصر في عملية الاندماج هو مشاركة السكان، ونعني بذلك: المشاركة السياسية (في الوزارات والبرلمان والانتخابات)، والمشاركة الإدارية (في الدوائر المدنية والقضائية للدولة), والمشاركة الاقتصادية (في عقود الدولة والريع النفطي)، والمشاركة الثقافية (في التعليم والإعلام والمعلومات).
لا نغالي إذا قلنا إن العنصر الكردي العربي السُّني أدى دوراً طاغياً في المجال العسكري والسياسي والإداري، بينما أدى العرب الشيعة والموسويون دوراً طاغياً في المجال التجاري والأعمال الحرة. وبهذا المعنى كانت المشاركة الشيعية في المجال السياسي (الوزارات، رئاسة الوزارة)، وفي الوظائف ضمن الجهاز الإداري، وفي البرلمان (بشقيه مجلس النواب ومجلس الأعيان) ضعيفة ومحدودة. ولم تأخذ هذه المشاركة في التحسن إلا في أواخر العهد الملكي.
ولم تبرز شكاوى أو اعتراضات على هذا التمثيل في العهد الجمهوري الأول، أو الجمهورية الأولى لعبد الكريم قاسم، على رغم أنها لم تحظ بشعبية تذكر في العالم العربي بسبب “قُطريتها”. واتّهم عهد الجمهورية الثالثة (عبد السلام عارف) بالانحياز، بل بالتحامل الطائفي. أما الجمهورية الرابعة (عهد البعث)، فتُعدّ جمهورية العائلة والعشيرة، جمهورية موزٍ من طرازٍ خاص.
ففي هذه الفترة تدنّى التمثيل السياسي للشيعة بسبب طغيان العسكر، وبسبب افتقار المؤسسة العسكرية إلى مشاركة شيعية ملحوظة (لعوامل كثيرة قسرية وطوعية)، هذا على الرغم من وجود مؤسسات تمثيلية (مجلس وطني)، بسبب احتكار نخبة قرابية لمقاليد الحكم في هيئاتٍ مثل “مجلس قيادة الثورة” و “القيادة القطرية” أو “مجلس الوزراء” أو “مجلس الأمن القومي”. ولما كانت الدولة العراقية دولةً ريعيةً نفطية، فإن توزيع الثروة، عبر الدولة، كان ينحى المنحى الاحتكاري نفسه. ولا أدري من قال إن الفوارق الاقتصادية بين المناطق أخطر من هذه الفوارق بين الطبقات، إذ من شأنها أن تهز أركان النظام السياسي ـ الاجتماعي، وتمزّق النسيج الوطني.
[ 1 ـ كيف يرى نشطاء الشيعة هذه الحرمانات؟
هناك عدة رؤى. فرجال الأعمال، مثلاً، ينسبون هذا الحرمان إلى الطابع “الاشتراكي”، أي الدولتي للاقتصاد، وهو اقتصاد أوامري، قسري، لا اقتصاد سوقٍ حرٌّ مفتوح. وهناك تفسيرات يسارية وليبرالية ترى أن المشكلة تكمن في الطابع التسلطي أو التوتاليتاري للنظام السياسي، أي نظام الحزب الواحد والأيديولوجيا الواحدية. ويميل حنا بطاطو، أكبر مؤرخ لتاريخ الطبقات الاجتماعية في العراق، إلى هذا التأويل. وهناك تأويل ثالث ينشر وسط طبقة رجال الدين، ويتأصل في الحركات الإسلامية الشيعية، ينسب الحرمانات إلى وجود طائفيةٍ سياسيةٍ مقصودة، بل تدميرية أيضاً.
بقيت هذه الرؤى، الاقتصادية والسياسية والدينية ـ المذهبية، متجاورةً، يصادفها المرء في النقاشات والسجالات، سراً وعلانية. ولعل الواقع الفعلي هو مزيج متفاوت من هذه التفسيرات كلها، يختلف باختلاف المراحل. لكن الثّابت هو وجود تذمر شيعي أعلن عن نفسه صراحةً وجهاراً خلال تمرّدات عام 1991 في إطار ما يعرف بـ “الانتفاضة العراقية ضد حكم البعث” بعيد هزيمته في مغامرة الكويت.
[ 2 ـ ما هي منابع التوتر الطائفي؟
هناك عدة منابع:
أ ـ لعل أقدم وأكبر منبع هو قانون الجنسية العراقي للعام 1924، الذي أرسى حقوق الجنسية على أساس “التابعية العثمانية” التي لم يكن كل السكان يتمتعون بها. فمثلاً كانت عشائر وعوائل وبلدات كثيرة تتهرب من التجنيد الإجباري، فتسجل تابعيتها لإيران القاجارية، الغريم الأكبر للباب العالي في اسطنبول.
وقد طُبق قانون الجنسية الجديد بشكل سياسي ضد المجتهدين الشيعة ممن عارضوا الاستفتاء أو أفتوا بوجوب مقاطعة الدولة الجديدة.
وتجدد تطبيق قانون الجنسية بطريقة لاإنسانية في عهد الجمهوريتين الثالثة (عارف) والرابعة (صدّام)، وبخاصة خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، وراح ضحيته نحو ربع مليون إنسان، اقتُلعوا اقتلاعاً، وجُردوا من جنى العمر، وأهينوا في أعمق أعماق انتمائهم. ولقد زرت معسكرات المهجرين في المنافي، فوجدتهم في غربة ثقافية عن المجتمع الإيراني، بل يهتفون بحياة الرئيس العراقي الذي طردهم أمام أنظار المخابرات الإيرانية الإسلامية، طمعاً في عفوٍ وعودةٍ إلى الديار. وكانت تلك أكبر حماقات الحكم التوتاليتاري القبلي.
ب ـ كان الشيعة ينعمون بمجال واسع في التجارة والأعمال. وقد سجل الدارسون نسبةً عاليةً منهم في غرف التجارة، واتحاد الصناعيين، والمقاولين. وهذا أمر طبيعي في ضوء اتجاه السنّة نحو الإدارة والجيش.
وجاءت الميول التنموية الدولتية، بصرف النظر عن أرديتها الأيديولوجية، أو نيات منفّذي هذه السياسات، لتمد سيطرة الدولة (تأميماً أو حرماناً) إلى المجال الاقتصادي، فأدى ذلك إلى تقويض نفوذ التجار ورجال الأعمال الشيعة. كما أن احتكار الدولة لتوزيع العقود وإجازات الاستيراد والتصدير أدى إلى احتكار ضيقٍ للمنافع الاقتصادية اقتصر على شبكات القرابة والشبكات الحزبية الموالية لشخص الرئيس المخلوع.
ج ـ أدت الإجراءات العلمانية المتشددة إلى تضييق الخناق على ممارسة الشعائر الدينية، وبخاصةٍ طقوس عاشوراء، من مجالس عزاء ومواكب وزيارات.
وشملت القيود أيضاً استضافة الطلاب والمجتهدين في المدارس الدينية (الحوزات العلمية). وأدى ذلك إلى تدهور المكانة العلمية للنجف، والى انهيار اقتصادها الذي يعتمد على تدفّق الزوار الى المراقد وتدفّق أموال الخُمس على الفقهاء.
د ـ لعل الحرمان الأكبر هو ضعف المشاركة في قمة القرار السياسي، بغياب أي تمثيل في القمة للمحافظات الشيعية (والكردية أيضاً). وهو ما أدى إلى قطع كل قنوات تمرير أو إثارة المشكلات والتوتّرات التي بقيت تتراكم من دون تنفيس.
]خامساً: الحلول
أدّت ميول الاحتكار السياسي ـ النفطي للنخبة الحاكمة (نظام البعث) إلى تمزّق النسيج الوطني، وجاء انهيار الأيديولوجيات الجامعة، مثل الماركسية أو الوطنية العراقية أو القومية العربية، بعد تآكل مشروعيّتها “الثورية” إلى تمزّق الأواصر الجامعة، والى نشوء هويات محلية، دينية وإثنية، لكأنّ العراق عاد القهقرى إلى عام 1921! وكانت هذه اللوحة واضحةً لنا، نحن المشتغلين في مجال العلوم الاجتماعية، فقد كنا نرى ذلك ونلمسه لمس اليد من خلال الأبحاث الميدانية الجارية في الخفاء بعيداً عن أنظار العسس. المشكلة أنّ العالم العربي لم يصحُ على هذه الحقائق إلاّ بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
إنّ تشظّي الهوية العراقية الى هويّات محلية ما كان ليكون سيّئاً لو أنّ التعبير عن هذا التشظّي جرى في إطار أحزاب مدنية، وبأسلوب سلمي، أي عبر المؤسسات. المشكلة أنّ صعود الهويّات المحلية، الناتج من تاريخ طويل من سياسات صهرٍ واحتقار حمقاء، جرى لحظة انهيار الأيديولوجيات العلمانية، ونشوء فراغ ثقافي ملأته الأحزاب الإسلامية. والحال أنّ الإسلام السياسي، بالتعريف، تقسيميٌّ في أيّ بلد متعدّد الأديان أو متعدّد المذاهب، إذا كانت أيديولوجيات الحزب المعني أو الأحزاب المعنية دينيةً خالصةً.
وبهذا المعنى اكتست الهويات المحلية طابعاً طائفيّاً بسبب صعود الأحزاب الإسلامية على الجانبين السنّي والشيعي. كما أنّ جانباً من البعث المهزوم كان يقاتل تحت راية الطائفية بشكل موارب. ثم إن تنظيمات “القاعدة” تعتبر الحرب الطائفية مقدسة؛ ومن هنا هجومها على الرموز الشيعية (طقوس عاشوراء)، ونسفها للمرقدين الشريفين في سامراء في شباط/فبراير 2006 ـ وهو نقطة التحوّل نحو الحرب الأهلية الطائفية الدائرة اليوم بين الميليشيات الشيعية (مثل جيش المهدي وفيلق بدر) والميليشيات السنّية/البعثية. أما الضحايا فهم المواطنون العاديون.
إن مشكلة العراق رباعية الأبعاد: فهناك الانتقال إلى وضع السيادة، أي الفكاك من الاحتلال؛ وهذا يتطلب استقراراً وبناء مؤسسات. وهناك مشكلة قبول المهزومين بالمشاركة على قاعدة الديمقراطية (لكل إنسان صوت واحد). مثلما أن هناك مشكلة قبول الفائزين بنظام توافقيّ يفتح الباب لمشاركة الجميع. وهناك مشكلة الجيران الكارهين لأيّ أفقٍ ديمقراطي محتمل، أو لأي تغييرٍ في البنيان السياسي.
المفارقة مثلاً أنّ شيعة لبنان يطالبون بالنظام التوافقي تحت راية “حكومة وحدة وطنية”، أما شيعة العراق فيميلون إلى النظام الأكثري، في حين أن السنّة يميلون الى توافقية على غرار المثال اللبناني.
هل أجَّج الأمريكان خطوط الانقسام هذه؟ نعم ولا. لا، لأن الأمريكان يجهلون تضاريس المجتمع العراقي، ولم يصنعوا خطوط الانقسام لأنها كانت قائمة وتتعمق منذ أمد بعيد. ونعم، لأن حماقات الأمريكان في احتلال العراق وإدارته لا تعد ولا تحصى، وبخاصة حلّ المؤسسات في بلد تهاوت فيه كل المؤسسات الاجتماعية وبات يعيش في فراغ مدمّر.
لن تزول الانقسامات الطائفية ـ فهي اختلافات ثقافية ذات بعد تاريخي مديد. لكن ما يمكن أن يزول هو تسييس الإسلاميين والمتعصّبين لهذه الاختلافات. المَخرج من عنق الزجاجة الطائفي الذي بلغ حدود القتل على الهوية، هو الوسطية السياسية، المزاج الأرأس وسط الطبقات الوسطى المتعلمة، والمالكة، العابرة للمذاهب والطوائف والإثنيات. إن أصوات هذه الوسطية خافتة الآن بسبب طغيان لغة السلاح، لكنها ليست خرساء

() سوسيولوجي عراقي، مدير المعهد العراقي للدراسات الاستراتيجية
[ القيت في مؤتمر “العروبة في القرن الواحد والعشرين” الذي نظمه “تيار المستقبل” في بيروت (25 ـ 28 شباط 2009)
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى