صفحات ثقافية

بيت المتنبّي!

null
خيري منصور
لنسلّم أولاً بأن المتحف هو الأقنوم الثالث في كيانية الدولة الحديثة، فهو ليس مجرد تأصيل او تجذير، انه شهادات على ولادات متعاقبة وقيامات، والتفريط بفكرة المتحف قبل ان يتحول الى مبنى هو المعادل الموضوعي للافراط في التعويل على ما سلف، فالمتاحف لا تصلح للاقامة والنوم وتناول الأطعمة، الا اذا كان الحاضر فقيرا ومعدما وينحني كالمتسول على قدمي التاريخ الغابر، وتحويل بيوت الخالدين من المبدعين الى متاحف هو المنتج البكر لثقافة تتأسس على العرفان لا على العقوق، وعلى فضيلة احياء الأب وليس جريمة قتله، ومن زار من المثقفين العرب بيوت مبدعين في شتى عواصم العالم لا بد انه شعر بالحزن المشوب بالغيرة، خصوصا اذا عرف ان احفاد نهضوي مثل الكواكبي لم يعثروا على قبره حتى الآن، او ان بيوت شعراء ومبدعين تحولت الى اطلال ثم أزيلت كالنّدبة كي تنهض عليها الأبراج. وحين قرأت عن نيّة أحفاد ابي الطيب في تحويل بيته الحلبي الى متحف تذكّرت على الفور موقفين على الأقل، أحدهما في بيت الشاعر بوشكين في شارع أرباط بموسكو والآخر مقهى كوبي علقت عليه يافطة تقول ان ارنست همنغواي لم يجلس هنا، وهذا النفي الاعلاني هو أقصى الاثبات عندما يتعلق الامر بالترميز المعرفي والجدل الذي يلحق عربة السياحة بجواد التاريخ وليس العكس ..
ان العثور على بيت عاش فيه المتنبي الان وبعد كل تلك القرون له دلالتان، الأولى ان الرجل لم يكن في الذاكرة المثقوبة ذا شأن يكفي للبحث عن مكان اقامته قبل اليوم، والدلالة الثانية اعتذارية، فأن يحدث شيء كهذا خير من ان لا يحدث على الاطلاق . لكن ما الذي تبقى من المتنبي غير شعره ؟ أين سيفه وحصانه وعباءته وريشته ونعاله وأين ما خطّه وما ارتداه وما صال له وجال حتى لحظة المنيّة التي أنشبت له ويغير تلك القاعدة التي أحدثت طلاقا بائنا بين ما يقول الشعراء وما يفعلون. لكن هذا ليس وقته الآن، ما دمنا قد حددنا منذ البدء عنوانا هو بيت المتنبي، فالعربية الثرية بالمترادفات، قد تفقرها هذه المترادفات اذا استخدمت على نحو مجاني، وهذا ما قاله ميشيل بوتور الذي عني بالعربية زمنا بسبب اقامته في مصر، وبيت الشّعر وبيت الشَعر لا يفرّق بينهما سوى حركة على الشدّة فوق حرف الشين، لكن التوأمة بينهما مُتاحة لناقد يقرر مغادرة متردم الجُمحي وحتى الجرجاني، ما دامت القصيدة التقليدية في مبناها تمتاز بوحدة البيت وبالتالي خسران عضوية السياق للقصيدة، ولعلّ هذا ما اتاح للذاكرة العربية ان تستلّ بيتا من هذه القصيدة او تلك، ثم تفاضل بين الأجمل والأحكم بين أبيات بعينها، وبيت الشعر الذي أقام فيه العربي زمنا في صحرائه كان قابلا للهجرة مع صاحبه سواء بحثا عن الماء والكلأ او لأي سبب آخر هو من صميم البيئة، لهذا تحولت اللحظة الطللية من واقعة الى طقس شعري، ثم تسللت الى اللاوعي العربي، فأصبحت ملازمة له، وهذا ما يفسر ازدهار النوستالجيا والحنين الى الحب الأول والمنزل الأول، رغم ان كل ما قد جاء بعدهما قد يكون الأبهى والأجمل. واذا تخيلنا ان هناك من يفكرون باقامة متحف لامرئ القيس او لبيد او زهير فإن اول ما يخطر ببالنا هو ذلك البيت المتنقل الذي يحمله صاحبه على ظهره كالسلحفاة وهو يرحل من مكان الى آخر، وكم كنا نتمنى لو ان لامرىء القيس بالتحديد متحفا، بحيث يكتب تحت الحلّة المسمومة التي اهداها اليه القيصر وتقرّح جلده بسببها حتى الموت على سفح جبل عسيب … لقد أهدى القيصر هذه الحلة للملك الضلّيل بعد ان استجار به وطلب العون ضد ذويه، لكن الحلة ذهبت مع صاحبها، ولم يبق من الضلّيل غير شعره الذي لا يحلّ في اي متحف غير متحف الذاكرة والكتاب .

* * * * * * * *
بيت المتنبي كما يقول من عثروا عليه في حلب، هو قاب قصيدتي مديح او أدنى من قصر سيف الدولة، فهو كان قريبا اليه، حتى في مسكنه ذلك لأن للطبقات في تاريخنا على اختلاف تحولاتها وأنماطها تضاريس، وهذا ما يعطي للمكان احيانا قوة الزّمان، وقبل ان يشرع احفاد أبي الطيب في تدشين بيته أو ما تبقى من اطلاله نتساءل: أين هي قبور وبيوت مئات الشعراء والمبدعين العرب في القرنين الاخيرين وليس في الزمن العباسي؟ أذكر انني زرت ذات يوم ضريح الحلاج في علاوي الحلة ببغداد وجلست مع حارسه العجوز الذي كان يشكو من تصدّع السقف واهمال المكان لأن الدولة كما قال لي لا تحب الحلاج، لأنه الصوفي الذي خلع الخرقة ومضى في الشوارع يعلن انحيازه للفقراء والمظلومين، لهذا أحرق جسده وحملت الريح رماده الى سماء ملبدة بالغبار ومحرومة من الزرقة الى الأبد !
وقد يكون لأسلافنا العرب عذرهم في تشريد مبدعيهم، لأسباب تتعلق بالبيئة وعدم تشكّل الدولة، لكن ما يعجّ به عالمنا العربي من أبراج اليوم، لا نجد حمامة واحدة تهدل فوق الحديد والاسمنت، لأن البُناة القدامى تشرّدت حتى عظامهم بعد ان اصبحت رميما. وحلب التي عاش فيها المتنبي زمنا وهو المقرّب من سيف الدولة، شهدت ذات يوم نهاية تراجيدية للسهروردي الذي حكم عليه بالسّجن محروما من الزاد والماء حتى مات، لكنه كتب قبيل الزفير الأخير عبارته الخالدة وهي ‘ أرى قدمي أراق دمي’، ومن أراقت أقدامهم دماءهم في تاريخنا الادبي والسياسي كثيرون، لعلّ لبيد بن ربيعة هو الناطق الشعري باسمهم عندما حمل رسالة موته وسعى بها على قدميه …
كلاهما، الحلاج والمتنبي، لا تليق بهما البيوت، فالاول يشفق على حارس قبره العجوز لأن قبره فارغ، ولا يحرس الحارس الا غياب ابي منصور. أما المتنبي الذي قال بأن الفتى نصفان هما اللسان والفؤاد، فلم يعبأ بصورة اللحم والدم، فاللسان والفؤاد لا قبر لهما ولا يمكن لمتحف ان يضمهما بجوار الجرار الفارغة وبقايا السيوف الصدئة والمحاريث! والشاعر الذي شطر الكائن الآدمي الى نصفين هما اللسان والفؤاد عاد ليقول بأن لسانه فقط من الشعراء اما فؤاده فهو من الملوك، وهذا سرّ حلمه المزمن بالولاية وبالتالي التقرّب من سيف الدولة او سواه ممن يوزعون الألقاب والملكوت .

* * * * * * * * * *
ان متحف أبي الطيب هو ديوانه، ما دام كل ما يخصه من أشياء ومقتنيات هذه الدنيا قد تلاشى، ورغم وفرة ما كتب عن المتنبي الا ان هذا الكثير ظلّ متشابها، وكأن ما يقال عن وقع الحافر على الحافر نقديا هو أضعاف ما يمكن ان يقال عن حوافر الشعر ذاته. وهذا الشاعر ظفر بما لم يظفر به سواه لكن انتزاع أبيات من شعره وتداولها كحكم منطقية مخلوعة من سياقاتها الشعرية اساء اليه اكثر مما احسن اليه، وقد لا يكون السائد والمقرر والاكثر تداولا من شعره افضله، لهذا تتطلب قراءته مجددا مغامرة في التحليل وعدم التهيّب من نفوذ اسمه على ديوان العرب، فنحن لا نزال نعيش زمنا وثنيا بمعيار نقدي ما دامت الأيقنة ترى بأن هناك من هم عصيّون على التفكيك والنقد، وان كل ما صدر عنهم معصوم!
أحد النقاد العرب المعاصرين قرأ عبارة بالغة الكثافة ومقطّرة من رحيق عمر ‘لأمبرتو ايكو’ هي هكذا هي الوردة.. لا تفرطها، فاعتقد ان بعض النصوص يجب ان تشم فقط، وان لا تلامسها الاصابع، وبذلك من حيث لا يعلم حوّل وردة ايكو الى مومياء !!
ان شاعرا احترف التجوال حلما او خوفا او بحثا عن ملاذ لن يطيق المكوث حتى في ديوانه الشعري… فلندع البيوت لأصحابها ونمض ِ في عالم طرقه كلها موحشة وقد انعدم فيها كما يقول ازرا باوند الزاد والماء والرّفيق !!!
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى