“جنّة” السّلطة الأبديّة.. وجنونها!
ماجد الشيخ
أن يجري تطييف أو مذهبة قضايا النّاس السّياسيّة والإجتماعيّة، وتحويلها إلى موضوع للمنازعة وللمترسة التّعصّبية والعقيديّة، فذلك يعني أن آفاقا للصّراع الضّاري قد فتحت أبوابه، ولم يعد بالإمكان إغلاقها، ذلك أن الصّراعات الدّينية أو التي تتوسّل الدين أو توظيفه وإستثماره في الصّراعات والمنازعات الدّنيويّة، كل هذه لا تحيل إلى إمكانيّة الإنحياز للسّياسة؛ أولضرورة إنجاز تسويات عقلانيّة عبرها.
لقد حوّلت المنازعات السّياسيّة والدّينيّة مجتمع الوطن الواحد، إلى مجتمعات متناحرة، بل إنّها في فلسطين حوّلت وفي ضوء الإنقسام السّياسي والجغرافي والدّيموغرافي، حتّى المجتمع الوطني الواحد، المفترض أن يكون موحدّا ومنسجما إلى حدّ ما في مواجهة الإحتلال، إلى مجتمعات فئويّة فصائليّة – للأسف –، تزاحم بعضها البعض على سلطة بلا قرار، سلطة بلا سلطة، سلطة الإقرار بالهيمنة التّسلّطيّة على المشروع الوطني، حتّى ولو كانت تلك الهيمنة تتوسّل “سلطة الإله”، في إضفاء شرعيّة ومشروعيّة مزعومة على سلطة طرف فئوي؛ أكثر نرجسيّة وإستبداديّة من طرف فئوي أو أطراف فئويّة مماثلة، رغم أنّ لكلّ أيديولوجيّته الإستبعاديّة المتغايرة.
كما أنّ الإحتلال الأميركي للعراق، أدخل المنطقة برمّتها؛ أجواء تمترس طوائفي وتمذهب سياسوي وديني جديد، تدخل على خطّه الآن؛ أو تنضوي في إطاراته النّاشئة راهنا، علاوة على تلك القديمة، كلّ قوى التّمذهب السّياسي والدّيني، وذلك عبر رموز “المتمذهبين الجّدد” النّافخين في نار الفتنة التي يجري تحضير الكثير من المراجل لتكون مسرحها؛ ليس إنطلاقا من العراق، بل وفي فلسطين وفي لبنان؛ ومن هذه السّاحات على إمتداد العالم.
إنّ تلطّي “المتمذهبين الجدد” السّياسويين خلف رموز التّمذهب الدّيني، أو العكس أحيانا، سوف يؤدّي دون شك إلى نتائج تمذهب على الطّريقة العراقيّة، بل وإمتدادا لما يجري هناك، وهنا خطورة تحوّل الصّراعات السّياسّية إلى صراعات مذهبيّة أو متمذهبة؛ فئويّة وعنيفة، باتت العديد من السّاحات المتأثّرة بالصّراعات الإقليميّة – الدّوليّة بشكل مباشر مهيّأة لها، ليس بفعل حدث ما أو أحداث معزولة هنا أو هناك، بل وبفعل التّحريض السّياسوي والثّقافوي، إلى جانب ذاك الضّخ الدّيني الفتنوي؛ الآخذ بالإمساك بأعنّة الصّراعات القائمة ولجاماتها المنفلتة في أحيان كثيرة من أيدي المحليّين، إلى أيدي أخرى قادرة على إدارة الصّراعات ولجمها حسب المصلحة المباشرة لفرقاء الصّراع الإقليمي – الدولي.
إنّ هيمنة الثّقافويّات الطّوائفيّة المتمذهبة، بدأت تبلور أيديولوجيّاها الخّاصّة، الإستبعاديّة بطبيعتها، وهي التي لا ترى ذاتها إلاّ على حق، ولا ترى في الآخر إلاّ الباطل أو العدو، حتّى ولو كان هذا الآخر الشّريك في الوطن وفي المواطنة وحقوقها وواجباتها المتعاقد عليها دستوريّا وقانونيّا، هذا الشّريك الوطني، وفق الرؤى الإستبعادية، ليس له أي موقع في الدّولة المتخيّلة – الدّولة اللاوطنيّة – دولة التمذهب الطّوائفي ذات البُعد الواحد، بُعد “الأيديولوجيا المقدّسة” التي باتت تميمة سياسويي الإستبداد الطّوائفي المتمذهب، المتمحور حول الّذات “المقدّسة” هي الأخرى في نظرتها لأعمق أعماق ما يبقيها نرجسيّة عند حدود أيديولوجيّاها الخّاصّة.
من هنا شكّل سقوط المشروعات الليبراليّة بفعل تغوّل سلطة أو سلطات دينيّة طائفيّة متمذهبة، أو بفعل أنظمة إنقلابيّة عسكريّة أو مدنيّة – حزبيّة – أو فئويّة إجتماعيّا وطبقيّا، الحصيلة التّاريخيّة التّي تردّت في ظلّها بلادنا، جرّاء غياب أو تغييب المجتمع الوطني، وإقتسامه فئات طوائفيّة متمذهبة، لم تعد تنسجم أو تتمحور حول سياسة وطنيّة جامعة، أفتقدت أو أفقدت أي مرجعيّة موحّدة أو واحدة، أو تعدّدية يحترمها الجميع، حيث باتت الأخطار الدّاهمة لا تطال المجتمع الوطني، بل وجماعات المجتمعات الطّوائفيّة والمتمذهبة، التي شكّلت وتشكّل وقود الصّراعات المتمادية لمشاريع القوى الطّائفيّة التي تنيخ بكلكلها في فضاء الوطن كلّه، دون أن يستطيع أيّ توجّه تسووي لجمها، قبل أن تنفجر تناقضات متناسلة تتمادى أو تتطاول أزمات تتناسل بدورها أحداثا ذات طابع انفجاري.
لذا.. لم تعد الحروب الأهليّة يقتصر خوضها على إستخدام السّلاح على الدّوام. إن مجرّد الإختلاف أو حتّى أيّ علاقة يتدنّى مستواها ما دون ما يمكن تسميته بـ “الإئتلاف البيني”، أمست أو أمسى ما ينتج عنها أقرب إلى أنماط العنف الأهلي، بما تشيعه من منازعات ومترسة تعصّبيّة، تعتمد أفعالا وردود أفعال متناسلة من بعضها، دون العودة الى أيّ مرجعيّة دينيّة أو دنيويّة. المرجعيّة الوحيدة لهكذا منازعات وحروب أهليّة تلك الممارسات العنيفة الهابطة، أو النّاتجة من تنظيرات ثقافويّة هي إلى الفاشيّة أقرب.
وإذا كانت التّشوّهات الدّيمقراطيّة، أو آليّاتها المتّبعة، قد برهنت على أنّها قد تجلب المصائب للدّولة الوطنيّة، بما أفرزته ويمكن أن تجلبه، أو يتجلبب في ظلّها من قوى إستبداديّة إستخدمت الدّيمقراطيّة وآليّاتها وسيلة صعود إلى السّلطة، بما هي أو كونها “جنّة السّلطة الأبديّة”. وهنا فإنّ الحرب الأهليّة كما الإنقلابات، كما العمليّات الإنتخابيّة المشوّهة، ليست أكثر من “مطهّر مقدّس” يتوسّل إمتلاك زمام السّلطة أو القفز إليها للإحتفاظ بها قسرا، وعدم التّخلّي عنها أبدا!! ووفق بعض “المؤمنين” بالسّلطة الدّينيّة التي يدعونها “إلهيّة”، فإنّ على القوى الدّينيّة العمل بكلّ الوسائل للوصول إلى السلطة بمزاعم “تكليفيّة” لبناء سلطة دينيّة تحكم بإسم “المقدّس الدّيني” حتّى لو إرتكبت من الموبقات والدّنس اليومي ما ليس من الدّين في شئ، أو ليس فيها من الإسلام من أشياء.
عموما.. وفي أجواء التّمذهب الرّاهن، وما يستدعيه من صراعات مكشوفة ومستترة في واقع الجّماعات والمجتمعات، من الإستحالة أن تنمو الدّيمقراطيّة كثقافة وكمسيرة تاريخيّة وكمسار يتشكّل كإطار من مصلحة الأكثريّة الشّعبيّة حراسته والدّفاع عنه. ولهذا تطلب الحرّيّة حيث يوجد الإسترقاق، ولا تطلب الدّيمقراطيّة إلاّ حيث يوجد الإستبداد والأنظمة الشّموليّة على إختلافها. وإذ يزداد الطّلب على السّياسة في بلادنا؛ فلإنّ هنالك تطلّبا متزايدا لحضورها، ولأنّ سياسويّو الإستبداد التّسلّطي والطّوائفي المتمذهب؛ يحتلّون الفضاء العام، وبالقوّة الغاشمة أحيانا، وفي أوقات أمست كثيرة. هذا “الإحتلال” المدمّر لمجتمعات لم تتأصّل فيها السّياسة كممارسة مدنيّة بالمعنى الحديث، قدر ما أدّى بها موارد تهلكة ما فتئنا نشهد فصولها المتغيّرة والمتحوّلة من نظام إلى آخر ومن عهد إلى آخر، وحيث لا شئ تغيّر أو يمكن أن يتغيّر؛ إلاّ بقدرة قادر لم تأذن له بعد رياح أو أرواح البطركة الأبويّة المهيمنة – شموليّا – في بلادنا.