الأغنيــة السياسيــة بــين الشــرق والغــرب، نحن نغنّي ملاحم وبطولات وهم يغنون ضد الحرب والجندية
منيرة ابي زيد
يصعب تحديد حركة التفاعل بين الأغنية السياسية الشرقية والغربية بشكل دقيق. فبين أناشيد البطولة وأغاني شجب العنف، ترتفع الألحان الموسيقية وتتمازج مع صراخ ضحايا الحروب لتؤلف سيمفونية دامية، ثائرة تارةً وسلمية طوراً.
تجرف الألحان الموسيقية الحرف لتحكي قصص الشعوب وآلامهم وانتصاراتهم عبر القرون. أحداث دامية وثورات رُويت على الأوتار الحزينة. طُربت الأجيال على إيقاع موسيقى الحروب، جنود ثائرة في الملاهي الليلية تسكر على ألحان القنابل. السلام قيثارة. في السبعينيات، تمايلت أجساد الهيبيين العارية لتطفئ برغبتها الجامحة نيران حرب فيتنام. الأجساد الراقصة تتآكلها النار لتصبح أشلاء. أهي أشلاء الراقصين أوالجنود الضالين أوالأطفال الذين يولدون في أكفانهم؟ يلقي عازف العود اليساري نظراته الخائبة على المجازر. فمن وودستوك الى حائط برلين، من ثورة الـ68 الى انتفاضة الأقصى، هناك العديد من المغنّين ما زالت ألحانهم تملأ فراغ الفضاء الواسع. فبات العالم يرقص حين يموت، ويغنّي على الجثث لتنبعث منها رائحة الجمال العابر في الخراب. »نحن الثورة والغضب… من هون، من عنّا انطلق تاريخ الأبطال«، يحفّز الإيقاع المتصاعد في أغاني جوليا بطرس على القتال والصمود، وكأنّ فنّها بركان من الطاقة الموسيقية المتفجّرة. إنه النمط المقاوم الذي يسمح للمستمع العربي أن يتنفّس الصعداء في زمن الحرب والويلات. على العكس، تفتقر أجواء الموسيقى الغربية السياسية الى المنحى البطولي. تدخلنا أغنية »تخيّل« (Imagine) لفرقة البيتلز في حالة من الاسترخاء المسالم، لحنها هادئ يفتح أبواب الأحلام، إيقاع يدعو الى التأمّل في مرج من الخضار، رائحة الحشيش تنبعث من أجساد شبه عارية، يغنّي جون لينون: »تخيّل أن الجنّة غير موجودة، هذا سهل إن حاولت، وما من جحيم تحتنا، فوقنا السماء فقط… تخيّل البلدان غير موجودة، لا يصعب عليك أن تفعل ذلك، ما من شيء لنقتل أو نموت من أجله، وما من دين كذلك، تخيّل كل هؤلاء الناس يعيشون بسلام، قد تقول انني حالم ولكنني لست الحالم الوحيد«. يدعو هذا المغنّي الهيبّي الى تحطيم قيود الواقع والهروب الى عالم مثالي، وهو يسعى الى إلغاء الحدود التي تفصل بين الشعوب بغية إيجاد حالة انسانية كونية موحّدة. فيخلق جون لينون في أغانيه جواً رائعاً مبني على التخلّي عن القواعد والأفكار المسبقة والأديان بهدف بلوغ حلم الحرية المطلقة.
وثيقة تاريخية ملحنة
لا يقتصر الفن الغنائي على الوظيفة الجمالية، بل يتعداها ليتحوّل الى أداة للتأريخ. فباتت الأعمال الموسيقية الشرقية والغربية تسمح للمستمع ان يتعرّف على ماضيه وحاضره. الأغاني المصرية التي صحبت الثورة المصرية منذ انطلاقها ليلة 23 أيلول 1952 وحتى وفاة القائد والزعيم جمال عبد الناصر هي تاريخ كامل لتلك الحقبة الهامة في تاريخ مصر والأمة العربية. نستطيع من خلال الاستماع لتلك الأغاني الوطنية أن نؤرخ لثورة 23 أيلول وما تلاها من أحداث تاريخية. هكذا، يشارك المغنّي الذي يعبّر عن المآسي الجماعية والموت والحروب في صناعة الحدث والتأريخ له. فهل يمكن فصل صوت جوليا بطرس الرائع عن الانتصار الذي حقّقه حزب الله على إسرائيل في جنوب لبنان؟ نجحت هذه الفنانة بإيصال رسالتها الوطنية الثورية في أغنية »أحبائي« المقتبسة عن كلمات رسالة السيد حسن نصر الله الى مجاهدي الحزب: »وأنتم أنتم القادة وتاج رؤوسنا، أنتم وأنتم أنتم السادة، أحبائي، أقبل نبل أقدام بها يتشرف الشرف، بعزة أرضنا انغرست فلا تبكوا وترتجفوا، بكم سنغير الدنيا ويسمع صوتنا القدر، بكم نبني الغد الأحلى بكم نمضي وننتصر«. نلحظ في هذه الأغنية تمجيد لصورة المحارب، يكاد يلامس القداسة. كما تحمل هذه الأغنية في جوهرها بعداً ديموقراطياً، إذ أنها لا تقتصر على تعظيم القادة، بل تجعل من كل مقاوم قائدا. لكن إذا قارنّا »أحبائي« ببعض الأغاني السياسية الغربية، نلحظ تفاوت هائل على مستوى تقييم البطولة. فبعض الأغاني الأميركية تنعت جنود بلادها بالخنازير. إذاً، البعد الملحمي الخاص بالأغنية الشرقية غائب بشكل كامل في الأغنية الغربية، لا بل هو مُستبدل بالشجب والإدانة لكل اشكال العنف. ربما لأن الشعوب الغربية لا تعيش الحرب بشكل يومي على أرضها فلا تختبر ذلك الشعور بالغيظ المستمر الذي يتفجّر في الألحان الساخطة. كما أن أغاني جوليا بطرس حماسية تعكس حالة الجماهير العربية الثائرة. قد تُشبّه بعض حفلاتها بالمظاهرات السياسية. ففي مهرجانات بيت الدين، ترافق ظهور جوليا بطرس على الجماهير بجو وطني، فقد جاء الشباب حاملين الأعلام اللبنانية ليسمعوا أغانٍ مثل »أنا بتنفس حرية«، »قوة محبّة« و»منرفض نحنا نموت« بالإضافة الى الأغنية السياسية الساخرة التي تهزأ من الوضع العربي الأليم.
الغضب الساطع آتٍ…
في هذا السياق، يمكن إدراج جوليا بطرس في نفس الخانة مع ماجدة الرومي والسيدة فيروز، أي أنهن الأصوات النسائية الثائرة. فحتّى لو حاولن التجرّد من أي صفة سياسية، يفرض عليهن الجمهور الإنحياز الى جهّة ما. فالسيدة فيروز على سبيل المثال أبت أن تكون رمزاً سياسياً. معظم أغانيها التي تنخرط في جو المسرح الرحباني تدعو الى الإلفة والسلام، وهي تحمل في طيّاتها الرقة والبساطة، إيقاعها هادئ حتى لو كان قتالياً في بعض الأحوال كما نلحظ في أغنية: »بيّي راح مع العسكر، حمل سلاح، راح وبكّر، بيّي علّى، بيّي عمّر، حارب وانتصر بعنجر«. كما أن السيدة فيروز واكبت الرأي العام العربي في الأوقات الحرجة حين غنّت »زهرة المدائن« إثر نكسة 5 حزيران 1967 يوم سقوط مدينة القدس، وهي لحظة الفاجعة الكبيرة والصدمة في العالم العربي: »الغضب الساطع آتٍ وأنا كلّي إيمان، الغضب الساطع آتٍ، سأمر على الأحزان… وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية وستمحو يا نهرالأردن آثار القدم الهمجية«. غنّت فيروز للحرب وللسلام وللوطن، للبنان وفلسطين والشام، ولكنّها أصرّت على الالتزام برسالتها الفنية غير المسيّسة. وبالفعل، أثار توقيت ذهاب هذه الفنانة الكبيرة الى العاصمة السورية حفيظة فريق واسع من اللبنانيين الذين يعتبرون أنها رمز وطني، فلا يجوز أن تلبي دعوة النظام السوري الذي حملوه مسؤولية الاغتيالات في لبنان. ولكن فريق آخر اعتبر فيروز فوق أي توظيف لخدمة مصالح سياسية. أما الفنانة الكبيرة فقد فضّلت أن تكون سلمية. يؤكد المقربون منها أنها ليست صاحبة موقف سياسي، هي تخاف على لبنان، تشعر أنها معنية بهموم الناس ومعاناتهم لأنها فنانة قريبة من جمهورها الممتد من المغرب الى الخليج. ولكن الفن بالنسبة لها لغة كونية وليس رسالة سياسية مرتبطة بظرف أوجهة معيّنة. إنما، لا يمكن أن ننكر أن بعض أغانيها تعبّر عن بعد بطولي ورغبة في الانتصار، على غرار أعمال ماجدة الرومي الفنية التي أبدعت في اتّباع النمط الأوبيرالي الغربي في أعمالها الفنية الوطنية. غنّت ماجدة الرومي قصائد أهم الشعراء العرب بصوت يرتفع بشكل تدريجي: »فأنت الآن حرّ وحرّ وحر، حاصر حصارك لا مفرّ، أضرب عدوك لا مفر، أضرب عدّوك بي«، تذكّرنا هذه العبارة بأغنية جوليا بطرس: »بكم سنغير الدنيا«، فهاتان المغنيتان تتشاركان تمجيد استخدام الجسد البشري في القتال. الإنسان هو السلاح. إنما من ناحية أخرى، تدعو ماجدة الرومي بكلامها الى السلام، فهي تقول: »أحزن على وطني الذي ضاع فيه الحب والحلم وكثر فيه الخراب والدمار واليأس«. لذلك، في هذه المنطقة، يصعب للفنان أن يتجرّد بشكل كامل من السياسية. وفي بعض الحالات، يساهم العنصر السياسي في انجاح العمل واكساب الفنان الشهرة. يعتبر البعض أن الالتزام السياسي في مجمل أشكال التعبير الفني واجب، أي حين يستطيع الفنان أن يبلغ الجمهور على المستوى الواسع، فمن واجبه أن يبلغ رسالة ما.
إنما بعكس هؤلاء المغنيات اللبنانيات اللواتي تعبّرن عن الغضب والسخط والثورة، نعرض فنانين غربيين يدعون الى نبذ العنف من خلال الغرق في بحر اللذة كما نلحظ في أغنية البيتلز، All Together Now »كلنا معاً الآن«: »أسود، أبيض، أخضر، أحمر هل يمكنني أن أصحب صديقي معي الى الفراش؟«. وإذا كانت بعض أغاني البيتلز مثل »ثورة« Revolution تدعو الى التغيير، فهي خالية من التحريض على العنف ولا تتضمن أي بعد بطولي: »كلنا نريد تغيير العالم… إنما إذا كان ذلك سيتم بشكل تدميري فلا تعتبرني جزء من هذا المشروع«. البطل مفقود في عالم الأغنية السياسية الغربية، لا بل هو أكثر من ذلك موقع إدانة وسخرية في بعض الحالات. في العديد من الأغاني، يُشبّه المحارب الأميركي بالحيوان، فيفقد صفته الإنسانية كما يدل عنوان أغنية فرقة الروك الموسيقية بلاك سابات »خنازير الحرب« War Pigs: »الموت والكراهية للبشر، تسمّم أدمغتهم المغسولة«. أما في أغنية الحرب الأهلية لفرقة »المسدسات والورود«، (Guns’ N Roses) ذات النبض الثائر، فينحدر الجندي الأميركي الى مرتبة الفواكه والخضار المعروضة في دكاكين البقالة، فيتناول أكسل روز، مغني هذه الفرقة، دورة الموت المستمرة وكأنها تكرار ممل لا يصل الى نتيجة: »أنظر الى الشاب يقاتل، أنظر الى الإمرأة تبكي، أنظر الى الشاب يموت، كما كانوا دوماً يفعلون!«، »لم أرد قط حرب فيتنام، وهذا حائط د.س. يذكرنا بكل شيء، لا تستطيع الوثوق بالحرية، فالحل ليس بين يديك، الجميع يقاتل لأرض الميعاد، أنا لست بحاجة الى حربك الأهلية! فهي تطعم الأثرياء وتدفن الفقراء، تبيع سلطتك الجائعة الجنود في متجر بشري«. في هذا السياق، نذكر فرقة الـPink Floyd التي انتُقدت بقساوة لدى صدور أسطوانتها The Animals (الحيوانات)، التي تتطرّق الى مواضيع مُقتبسة من رواية Animal Farm لجورج أورويل: فالخنازير، الكلاب والخراف هي صور مجازية لمجتمعنا الحاضر. بالفعل، تهدف الرواية الى نقد المجتمع الستاليني الشيوعي، إنما الأسطوانة استخدمت مضمونها لنقد المجتمع الرأسمالي والدين. الساكسوفون والصوت النسائي غائبين في هذا العمل الفني. على الرغم من طغيان الغيتار، ظلّت الآلات الموسيقية الإلكترونية تلعب دوراً هاماً في Animals The فنتج عن ذلك موسيقى صاخبة وثائرة. على غلاف الأسطوانة، يبرز خنزير ضخم يكاد ينفجر. بالإضافة الى ذلك، ينتقد الـPink Floyd صناعة الموسيقى في إسطوانة »Welcome to the Machine« . في »World War II«، تسخر هذه الفرقة من الوجوه السياسية كمارغرات تاتشر وماري وايتهاوس. أكثر رقّة ورأفة، تنتقد فرقة كرامبوريز العنف بحزن وأسى. فأغنية »بوسنيا« مسمتدة من أجواء التراتيل المسيحية وكأنها صوت أم ترثي أولادها: »بوسنيا أليمة جداً، ساراييغو جعلتني أبدّل رأي«، »قد تتغير الأوضاع إذا أردنا لها فعلاً ذلك، لا نريد مزيد من الدموع للأطفال، الأولاد في أسرّتهم والإرهاب في رؤوسهم«، أما في أغنية »طفل الحرب« لنفس تلك الفرقة فنلحظ العبارة التالية: »تطلق النار لتقتل، فتقتل حبيبك!«. يتمازج الحب مع القتل، فتصبح الولادة عودة الى الموت، ويتحول المهد الى كفن. ويمكن إدراج بعض أغاني زياد الرحباني في الفن الموسيقي الرافض للعنف والخالي من تمجيد الملاحم البطولية. بالفعل، تتميّز اغاني زياد بالواقعية، وهي مستمدة من تفاصيل الحياة اليومية. لا يؤمن زياد الرحباني بالبطولة بل برداءة الكائن البشري. نذكر على سبيل المثال أغنية »بهنّيك« التي تشجب مجازر حرب الجبل. تبدأ الأغنية بخطاب وليد جنبلاط، وتختلط فيها كلمات الأغنية مع أصوات الناس الذين يندبون موتاهم: »أنا وله فكري هنّيك ويعني هنّي أهلك فيك، عالنظافة بالمواقف، عالمواقف بالسياسة، وعلى كل شي إسمو تاك تيك، بهنّي بهنّي نفسي فيك!«. تتصف أغاني زياد الرحباني بالتهكم على المستوى السياسي والاجتماعي كما نلحظ في أغنية »عالنظام«: »شايفو عالنظام مش عميمشي، غيرلو النظام، بركي إذا غيرتلو بيمشي عالنظام!… على كلٍ وينك، فتحلي عينك، بستصعب يفهم بالكلام«، من ثم تتداخل أصوات ناس من قبائل ما قبل التاريخ مع الموسيقى في هذه الأغنية: »هيده مش نظام، هيده شي قريب من أول قبيلة طحشت عقبيلة، ما قبل الميلاد، أوبعده بشي قليلي، أنا قلبي داهيلي«. يختلف نمط زياد عن أسلوب الأخوين رحباني على مستوى الإنتاج المسرحي، حيث اتخذت مسرحيات زياد الشكل الواقعي، بعد أن كانت مسرحيات الأخوين رحباني تغوص في المثالية وتبتعد قدر الإمكان عن الواقع فيعيش فيها المشاهد في الخيال. هذا ما لم يقبله زياد لجهموره، لم تقتصر أعمال زياد الرحباني على الكتابة المسرحية وكتابة الشعر والموسيقى فكان الوجه الثاني لزياد هو »السياسي« وقد تميز بجرأة منقطعة النظير، وفي مهرجان الذكرى الثانية والثمانين لتأسيس »الحزب الشيوعي اللبناني«، ألقى كلمة إلى جانب كلمة الأمين العام وتتطرق فيها لإعادة هيكلة الحزب الشيوعي اللبناني قائلا إنه لم يخرج من الحزب الا من كان يجب ان يخرج وعبر عن انتمائه العميق قائلا الشيوعي لا يخرج من الحزب الا إلى السجن أو البيت. أما زياد الرحباني الصحفي الذي كتب في أكثر من جريدة لبنانية، فقد تميزت كتاباته بالجرأة والقدره الهائلة على التوصيف. ينخرط زياد الرحباني في خانة الفنان العربي ذات الانفتاح على الغرب على مستوى النظرة الاجتماعية وتقنيات الابداع الفني. هو يواكب تطوّر الفن الغربي محافظاً على المضمون الشرقي السياسي.
إذاً، في القرن العشرين، كثرت نقاط التشابه بين الأغنية السياسية الغربية والشرقية. فقد شكّل عالم موسيقى وودستدواك والأجواء اليسارية الأوروبية والعربية فسحة مشتركة ثائرة ضد العنف والرأسمالية. أما في القرن الحالي، فقد خبتت الثورة على مستوى الأغنية الغربية كما نلحظ على مستوى الأعمال الفنية الفرنسية. إنما ظلّت بعض الفرق الموسيقة تعبّر عن رفضها على المستوى السياسي والاجتماعي. فانتقدت فرقة »Noir Désir« (الرغبة السوداء) الفرنسية، التي انطلقت في التسعينيات، النيوليبارالية الاقتصادية وهيمنة النموذج الغربي على باقي العالم، بالرغم من أنها تنتج أسطواناتها في شركات المولتيناسيونال. نلحظ في هذا الإطار نوعاً من التكبيل على مستوى الانتاج الفني الغربي. لا تسمح شركات الانتاج المرتبطة بنظام العولمة لهذه الفرق بالتمادي في انتقاد العولمة الاقتصادية، فبات الفن يحظى بحرية نسبية. تعالج هذه الفرقة الفرنسية هذا النوع من المسائل من خلال محاولةً المزج بين الالتزام السياسي والوظيفة الترفيهية للغناء. إنما، العنصر السياسي ساهم في انجاح هذه الفرقة، فالألبوم 666.667 Club هو الذي جعل فرقة Noir désir تلقى نجاحاً من خلال طرح المواضيع الاجتماعية والسياسية؛ نهاية القرن العشرين، الانبهار بالمال والسلطة، خيبة أمل العديد من الفرنسيين حيال السياسة. تمزج هذه الفرقة الروك السوداوي بالجاز والبلوز، فاندرجت في نسق الموسيقى الثائرة الـpunk attitude. يبرز التمرّد على العولمة في أغنية Noir désir التالية: »بلد يريد أن يحمينا من المآسي، يريد أن يلعب دور الشرطي ونحن اللصوص، يجب فضح العولمة الأميركية، وانتقادها لأنها جعلت من الحلم الأميركي موقع سخرية فهو يخبئ وراءه حقيقة غير مجيدة«. أما في أغنية »Les Gagnants et les perdants« فتفضح هذه الفرقة نتائج الأزمة الاقتصادية بصوت متألّم يعبّر عن غضب خانق يصحبه انتظار مشوش. يعبّر إيقاع الأغنية عن نوع من حذر وتردد في نظام اقتصادي عالمي يفتقر الى إصلاح جوهري، سياسة شعبية ومساعدات للمؤسسات الناشئة. يدفع الشعب، العمال والطبقة الوسطى ثمن باهظ لهذه السياسة. تزيد هذه الأغنية شعور الثورة والإشمئزاز المتراكم منذ سنوات. إذاً، نجحت فرقة Noir désir في خلق علاقة متوازنة مع النظام الاقتصادي السائد، فهي تثور من دون أن تدمّر نفسها، تغيّر من دون ان تُثير غضب العولمة. هكذا، تنجح بإيصال رسالتها السياسية والاجتماعية والحفاظ على استمراريتها في نفس الوقت.
الغناء والعقاب
إذا كانت فرقة Noir désir الموسيقية قد حقّقت هدفها من دون أن تتضرّر، فالعديد من الفنانين من حقبات أخرى دفعوا ثمناً باهظاً لأنهم تجرؤا على انتقاد الوضع السياسي. فاقترنت الأغنية في بعض الحالات مع فكرة العقاب. تعرض عدد كبير من المغنّين المتمردين للانتقادات والملاحقات. فما هو الخط الفاصل بين الفن والسياسة؟ غير موجود بالفعل. تتخطّى الأغنية كل الخطوط الحمراء وغالباً ما ينتهي بعض الموسيقيين في السجن، فيصبحون رموزاً، يفقدون طبيعتهم البشرية ليتحولوا صوراً معلّقة في الأذهان. مارسيل خليفة، المؤلف الموسيقي وعازف العود اللبناني، يناشد جمهوره ان يجرّده من رمزيته حين يغني: »لا تجعلوني عبرةً مرّتين«. يعتبر مارسيل خليفة من أهم الفنانين العرب الملتزمين بالقضية الفلسطنية. انتماؤه للحزب الشيوعي اللبناني وإيمانه بالقضية الفلسطينية رافقاه في أغانيه. في أواخر السبعينيات والثمانينيات، لحّن مارسيل خليفة قصائد الشاعر محمود درويش، مطلقاً ظاهرة الأغنية الفلسطينية التي تمتزج فيها الأم والوطن: »بين ريتا وعيوني بندقية، والذي يعرف ريتا ينحني ويصلي لإله في العيون العسلية«، وأروع اغانيه تحفّز على الثورة: »منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمشي، في كفّي قصفة زيتون، وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي، وأنا أمشي، قلبي قمر أحمر، قلبي بستان«، »بالأبيض كفّناه، بالأخضر كفّناه، بالأسود كفّناه، بالأحمر كفّناه، يا دمه، يا دمه، يا دمه«. لم يحضر مارسيل خليفة دفن والدته لأسباب سياسية، لكنه غنّى للأمومة: »أحنّ الى خبز أمي وقهوة أمي«، »أجمل الأمهات التي انتظرت إبنها، فعاد مستشهداً، فبكت دمعتين ووردة«. شكّل مارسيل خليفة ومحمود درويش ثنائياً، وقد لحّن مارسيل لشعراء آخرين كحبيب صادق وطلال حيدر. استطاع إدخال السكسفون في الأغنية العربية في أغنية »يعبرون الجسر«. عام 2003، تعرّض مارسيل لدعوى قضائية في لبنان لأنه استخدم تعبير قرآني في أغنية »أنا يوسف يا أبي«، وهي قصيدة تتناول قصة يوسف عليه السلام من القرآن في اسقاط على القضية الفلسطينية، لاحقاً تمت تبرئة مارسيل خليفة: »وهم أقفلوا باب بيتك دوني، وهم طردوني من الحقل، وهم سمّموا عنبي يا أبي! يا أبي! يا أبي!«. في 13 آذار 2007، صوّت نواب البرلمان البحراني على تشكيل لجنة للتحقيق في عرض مارسيل خليفة »مجنون ليلى«، اتهم العرض بانه يتضمن إيحاءات جنسية. ومن أهم الفنانين العرب الذين عبّروا عن ثورتهم من خلال الأغنية فنالوا قسطهم من العقاب والسجن والتنكيل هو الشيخ إمام. تسجّل أغانيه السياسية اللحظة التاريخية وتصرخ في وجه السلطة، تترجم حالة الفقراء والمحتاجين لرغيف الخبز ونور الحرية. ولد الشيخ إمام في ريف مصر في كنف عائلة فقيرة، فقد بصره حين كان عمره 4 أشهر، فتحوّلت كل إمكانياته الفكرية الى حاسّة السمع. حين بلغ الـ12 من عمره التحق بالكتّاب وحفظ القرآن الكريم كلّه، ثم ذهب الى القاهرة حيث تعلّم تجويد القرآن تجويداً صحيحاً ومكث يقرأ القرآن في البيوت والحوانيت حتى التقى بالشيخ درويش، الذي لقّنه أصول الموسيقى من خلال الموشحات الأندلسية والدينية. توالت تجاربه مع الشعراء الملتزمين وكان يلحّن لهم جميعاً. عام 1967، إثر الانفعال العام، بدأت أغاني الشيخ إمام تخرج من نطاق البيت الى الشارع، وبات الناس يتكلمون في القاهرة عن ظاهرة فؤاد نجم والشيخ إمام. وكانت المخابرات تأتي وتسجّل أغانيهما التي تهاجم المسؤولين عن حفلات موسيقية. بما أنهما فشلا باحتوائهما بهذه الطريقة، الذين لفّقوا ضدهما دعوى مخدرات. بعد ذلك بشهرين، صدر قرار باعتقالهما، تابعا عملهما الموسيقي داخل السجن حتى خرجا. يحكي الشيخ إمام عن هذه تجربة: »السجن كان له بعض التأثيرات النفسية لأنها كانت أول خوضي للتجربة، فكانت تعتريني في بعض الساعات لحظات رفض بحكم أننا بشر، وكانت حالة القنوط سرعان ما تزول عندما يبلغني بعض السجانة بسلام من نجم ويبعثوا لي بالكلام الذي يكتبه فكنت أحفظه وأتغنى به وهو مصدر التسلية عندي، وكان يتعاطف معي السجانون الصغار الذين نسميهم عندنا: العسكر والشاويشية. كانوا يتعاطفون معنا تعاطفا عظيما وكانوا دائما يفتحون الحجرة عليّ دون غيري ويجلسون معي وأغني لهم ويعملون الشاي لي حتى يحين موعد القفل فيقفلون عليّ. ومكثنا على هذه الحال مدة ثلاث سنوات حتى مات عبد الناصر، وبعد وفاته بسنة واحدة خرجنا من السجن. ثم بعد ذلك بدأ السادات يسجننا ويخرجنا، فصرنا بين السجن والخارج كالأرجوحة. وبعد مروري بالتجربة في المرّة الأولى كان السجن عندي لا تأثير له لأنّي تعودت عليه. أنا أستطيع أن أقول لك أن معظم ألحاني كانت من ضجيج وصخب الشعب في حيّنا الذي نسكنه. وهذا كان له صداه في الأوساط العربية التي كان يصلها هذا على ما أعتقد«. كانت أغاني الشيخ إمام ساخرة ومتهكمة وناقدة للحكام الغربيين: »فاليري جيسكار ديستان والست بتاعه كمان، حيجيبو الديب من ديلو ويشبع كل جعان«، »شرفت يا نكسون بابا يا بتاع الووتر غايت، عملولك قيمة وسيمة سلاطين الفول والزيت، فرشولك أوسع سكة من راس التين على مكة، وهناك تنزل على عكا ويقلولو عليك حجيت، مهو كلو داير شللاه يا صحاب البيت، مهو كلو داير داير شللاه يا صحاب البيت، جواسيسك يوم تشريفك على كيفك نصبو الزار تتقصع فيه المومس والقارح والمندار«.
اللغة المشتركة
يخاطب الشيخ إمام العامل بلهجته العمّالية معبّرا بلحن يتجاوب مع وجدانه، وهو أيضا يخاطب الفلاّح بلهجته الريفية، ويخاطب المثقف بطريقة تسخر منه، يصفعه لأنه كان سببا في سرّ الهزيمة التي كانت للأمة العربية بوجه عام ولمصر العربية بوجه خاص، فيقول: »كنت أخاطب الذين يدّعون أنهم ينتسبون إلى اليسار زوراً وهم بعيدون كل البعد عن الشعب ويتكلمون بألفاظ لا تتفق مع العامل والفلاّح، يعني كيف للعامل أن يفهم ألفاظ مثل: فسيولوجية وتكنولوجية«. إنما طُرحت إشكالية التوجه الى الطبقات العاملة والمثقفين في الغرب والشرق. قد عالج فريق »زيبدا« الفرنسي ذات النزعة اليسارية في التسعينيات نفس هذه الإشكالية التي طرحها الشيخ إمام حين غنّى: »أريد تحمّل عبئ البؤس واحترام قواعد اللغة الفرنسية«. يتساءل »زيبدة«: كيف نحاكي أولاد الشارع العرب المهاجرين الى فرنسا والطبقات المثقفة بنفس اللغة الموسيقية؟ يرفض أولاد أحياء المهاجرين الى فرنسا الاستماع الى أغاني »زيبدا«. فبالنسبة لهم، هؤلاء ليسوا سوى زمرة من المثقفين المميزين. لا تعتبر هذه الفرقة أنها الناطقة باسم أولاد المهاجرين لأنها لا تتبنى خطاب: »فرنسا بلد التمييز العنصري«، على الرغم من أن أغانيها تهاجم البورجوازية والرأسمالية. يمكن القول أن »زيبدا« فرقة موسيقية تتبنى وجهة نظر اليسار الفرنسي، أي أنها تنتقد فرنسا وكأنها جزء منها وليست غريبة عنها، ويتجاوب معها الجمهور الفرنسي على هذا الأساس. إنما تبدي هذه الفرقة الموسيقية تعاطفاً كبيراً مع القضايا العربية. عام 1992، أصدرت »زيبدا« أول مجموعة غنائية لها نلحظ عليها صورة طفل الإنتفاضة يحمل مقلاع في يده. صدر عملها الغنائي الثاني بعنوان »الضوضاء والروائح« كرد على جملة جاك شيراك التي تندّد »بالأجانب« في فرنسا. أما أغنية »Tomber la Chemise« من ألبوم Essence Ordinaire، فكان لها نجاح كبير عام 1999، يقول مغني هذه الفرقة الموسيقية: »نحن نرمي بأنفسنا في هذه المعركة السياسية، نعرف أننا لن نغيّر المجتمع ولكن علينا أن نحاول. يجب ان نفكر، أن نعي الأشياء، بالرغم أننا نعرف أن ذلك لا يصلح للكثير. هدفنا الترفيه، ولكننا نقوم بمعركة سياسية في نفس الوقت ضد حكم الاعدام ونرفض قدوم جان ـ ماري لو بان الى تولوز«. فبات الغناء في مختلف المراحل والبلدان وسيلة للبحث عن الحرية وعنوان التمرّد. العصافير تغرّد، غناؤها رقيق، ومن ثم تطير لتحلّق في السماء. لا ينتمي العصفور الى بلد أو دين أو طائفة، هو كائن كوني، يجسّد حالة من الحرية المطلقة، لا يسمح للأرض أن تقيّده، بل يرتفع في الفضاء، وكأنه روح العالم الموسيقية: »عصفور طل من الشباك وقلّي يا نونو، خبّيني عندك خبّيني دخلك يا نونو…».