رواية الأميركي بول أوستر الجديدة “وحيداً في العتمة”: حربٌ أهلية تجرى في الولايات المتحدة الأميركية
كوليت مرشليان
“وحيداً في العتمة” عنوان الرواية الجديدة للكاتب الأميركي بول أوستر التي تشكل ظاهرة في مبيعاتها في باريس حالياً ويعود الأمر الى سببين رئيسيين أولهما أن قرّاء بول أوستر في فرنسا في تزايد سنة بعد سنة وهو المفضّل لدى الفرنسيين بين كل الأميركيين المعاصرين وقد اكتشفوا إبداعه منذ تعرفهم الى الثلاثية النيويوركية التي كتبها في نهاية الثمانينات وجاء بعدها قرابة العشرين كتاباً. وفي كل مرة كانت الاحتفالية في باريس على مستوى مؤلفاته المقروءة بشدة عبر العالم. أما السبب الثاني للإقبال الشديد على “وحيداً في العتمة” فهو أن المؤلف غاص في موضوع شديد الحساسية ومن وحي واقع سياسة أميركا ومجتمعها اليوم: يتخيّل أوستر في روايته هذه أن حرباً أهلية وقعت في الولايات المتحدة الأميركية وتحديداً عبر شخصيته الرئيسية أوغست بريل وهو ناقد أدبي شهير ومتقاعد يتعرض الى حادثة تصيبه بإعاقة معينة، فيلزم منزله ويتوقف عن العمل وبالتالي في هذه الراحة الإجبارية يعاني أرقاً متواصلاً. وكل ليلة، ما أن تحل العتمة أو الظلمة يركن الى ذكرياته ويسترجع الإحباء والأصدقاء الذين ماتوا. وليتمكن من السيطرة على الأفكار السوداء يلتجئ الى التخيّل وإلى إعادة كتابة التاريخ على هواه. إنما هو يختار الزمان الذي يناسبه والظروف الملائمة لذكرياته وتخيله ويمضي معه القارئ في رحلة عبر العالم الذي اخترعه، فهو يحدد تاريخ الحاضر إنما في أميركا لم تتعرض الى حادثة 11 أيلول وتحت حكم جورج بوش الإبن وحيث أن حدث وصول أوباما الى الحكم لم يحدث بعد. في هذا الإطار ينطلق بطله أوغست بريل في رحلة ما في الواقع والخيال.
والجدير ذكره أن قرابة 80 ألف نسخة صدرت منذ نحو الأسبوعين في باريس من رواية “وحيداً في العتمة” بالفرنسية وخلال أيام قليلة نفدت بكل أعدادها، ودار “آكت سود” التي تولت نشر الرواية تعمل على إصدار نسخة جديدة في غضون أيام أو أسابيع ومن المتوقع أن يصل مبيع الكتاب الى أرقام قياسية لهذا العام. وقد صرحت الدار “آكت سود” أخيراً أن رواية أوستر المقبلة صارت ما بين أيدي المسؤولين في الدار وتحمل معالم رواية مختلفة عن الحالية وتصدر في العام المقبل وعنوانها “غير مرئي”.
وفي “وحيداً في العتمة” يقول أوستر كل أفكاره السياسية والاجتماعية والإنسانية أيضاً حيال عدد كبير من القضايا التي شغلت العالم في الآونة الأخيرة، عبر بطله أوغست وهذا الأخير أيضاً يستعين بشخصية ثانية يستعيض فيها إعاقته وعدم قدرته على التجوّل فيمشي هذا الآخر بدلاً منه وهم أوين بريك.
يستفيق ذات يوم أوين ويجد نفسه محشوراً في فجوة عميقة أو نفق ما ببدلته العسكرية من دون أن يتمكن من تحديد المكان. هو لا يتذكر شيئاً ولا يتذكر المكان. وحين يتمكن من الخروج من الفجوة التي كان محشوراً فيها يجد نفسه في شارع يخرج منه الى مدينة مهشمة حيث تدور معارك وحروب ولا سيارات في الطرقات. وحين يسأل عن أحداث 11 أيلول وأيضاً عن حرب العراق يفهم أن الحدثين لم يحصلا، بل أن حرباً أهلية تجري في الولايات المتحدة الأميركية…
نقتطف من الرواية بعض الفصول وننقلها الى العربية:
وحيداً في العتمة
بول أوستر
“وحيداً في العتمة، أدير وأدير العالم في رأسي محاولاً ومستجدياً ليلة جديدة من الأرق حيث أمضيها في الصحراء الأميركية الكبيرة. في الطابق العلوي، تنام إبنتي مع حفيدتي وحيدتين، هما أيضاً وكلّ واحدة في غرفتها: ميريام، 47 عاماً هي ابنتي الوحيدة وتنام وحدها منذ خمسة أعوام، وكاتيا، إبنة ميريام الوحيدة أيضاً، 23 عاماً وهي نامت فترة طويلة الى جانب صديقها الشاب تيتوس سمول، غير أن تيتوس مات وكاتيا تنام وحدها الآن وقلبها ممزّق.
ضوء ساطع ثم تليه عتمة. الشمس تلقي بشعاعها من كل زوايا السماء ثم تليها ظلمات الليل، والنجمات الصامتة وتمتمات الهواء فوق الأغصان. إنه أمر روتيني. مضى عام كامل على سكني هنا في هذا المنزل أي منذ أن غادرت المستشفى. أصرّت ميريام على مجيئي الى هنا ولم يكن هناك أحد غيرنا نحن الإثنين مع ممرضة النهار التي كانت تعتني بي حين تكون ميريام في العمل. وبعد نحو ثلاثة أشهر، هبطت السماء على رأس كاتيا فتركت دراستها في نيويورك في مجال السينما وعادت لتسكن عند والدتها في فيرمون.
كان والداه قد أعطياه إسم إبن الرسام رامبرنت، ذاك الصبي الصغير في اللوحات، ذاك الولد الذي يضع قبعة حمراء فوق شعره الذهبي، وهو أيضاً ذاك التلميذ الذي يحاول ان يفهم دروسه وهو ايضاًُ ذاك الشاب الصغير الذي افترسه المرض ومات في العشرين تماماً مثل تيتوس كاتيا.
انه اسم قدري، اسم علينا الغاء استخدامه من الآن فصاعداً ! افكر دائماً في موت تيتوس، في قصة ذاك الموت الرهيب في صور ذاك الموت، وفي نتائجه الهائلة على حفيدتي المسكينة، ولكن لا اريد ان امضي في تفاصيل هذه القصة الآن، لا استطيع ان امضي في هذه القصة وعلي ان ازيحها غير قدر المستطاع.
الليل في بدايته، وانا ممدد فوق سريري ونظري تائه في العتمة من فوقي، عتمة كاملة تجعل السقف غير المرئي رحت اتذكر القصة التي كنت قد بدأتها في الليلة السابقة. هذا ما أفعله حين اعصى عن النوم او حين يرفضني النوم. وانا ممدد في سريري رحت أسرد على نفسي القصص. هي ليست ربما قصصاً ذات قيمة غير انها تمنعي من التفكير في امور اريد ان انساها ما ان اغوص فيها. مع هذا، فان التركيز يبقى من الامور الصعبة اذ غالباً ما اجد نفسي منساقاً تلقائياً خارج اطار القصة التي احاول ان ارويها متجهاً صوب المواضيع التي احاول نسيانها. لا شيء ينفع. وها انا امضي من فشل الى فشل، ونسبة الفشل تتغلب دائماً على النجاحات لكن هذا لا يعني ان اتخلى عن قوتي وارادتي.
لقد وضعته في حفرة. اجد في هذا التفصيل بداية حسنة او اسلوباً واعداً لأضع الامور في نصابها. ان نضع رجلاً نائماً في حفرة ثم مراقبته ومعرفة ما سيحصل حين يستيقظ ويحاول الخروج. اتحدث عن حفرة كبيرة في الارض، عميقة الى حدود الثلاثة امتار ومحفورة بطريقة تشكل منها دائرة كاملة مع جوانب مالسة من الطين السميك والمكدس بعناية، وهي جوانب قاسية وكأنها من زجاج. اقول هذا لاشرح كيف ان هذا الرجل حين فتح عينيه لم يتمكن من الخروج. على الاقل تلزمه معدات متسلقي الجبال من مطرقة ومسامير فولاذية مثلاً او حبل ليتمكن من الصعود والتمسك بشجرة كبيرة، غير ان الرجل لم يكن مجهزاً وما ان استعاد وعيه حتى فهم صعوبة وضعه…
واليكم ما جرى. عاد الرجل الى وعيه ووجد نفسه ممدداً على ظهره وعيناه شاخصتان بسماء قاسية لا غيوم فيها.
اسمه اوين بريك وهو لا يملك اي فكرة عن السبب الذي ادى الى تواجده في هذا المكان ولا اي ذكرى حول كيف وقع في هذه الحفرة الدائرية التي يصل قطرها الى اقل بقليل من الاربعة امتار. جلس. وكانت المفاجأة حين وجد انه يرتدي لباساً عسكرياًَ ضخماً رمادي اللون ويعتمر قبعة على رأسه وينتعل حذاء عسكرياً ضخماً من الجلد الاسود مربوطاً ما فوق كاحليه بربطة معقودة بشكل قوي. وعلى كل واحد من كمي الجاكيت رمزان يشيران الى ان البدلة تخص عسكرياً برتبة عريف.
قد يكون هذا الرجل في الحفرة اوين بريك، لكن اوين بريك لا يتذكر انه خدم في الجيش ولا انه شارك في القتال في اي حرب وفي اية مرحلة من حياته. وحين لم يجد تفسيراً آخر اقتنع انه لربما تلقى ضربة على رأسه افقدته ذاكرته لفترة معينة.
وحين راح يمد بيده على جمجمته بحثاً عن جروح او ندبات لم يعثر على اثر لجروح او تورم او ندبة توحي او تؤكد بأنه اصيب بمكروه.
اذاً ماذا؟ هل تعرض لصدمة كبيرة جعلت جزءاًَ كبيراً من دماغه لا يعمل؟ ربما.
وبانتظار ان تعود ذكرى هذه الصدمة بسرعة اليه، هو لا يجد اي وسيلة ليعرفها. بعد ذلك راح يدرس امكانية ان يكون في منزله نائماً في سريره مأخوذاً بحلم يتمتع بوضوع فائق الطبيعة، حلم واقعي الى درجة وضخم الى درجة ان الحدود ما بين الحلم والوعي قد اختفت.
واذا كان الوضوح كذلك، فليس عليه سوى ان يفتح عينيه. ويقفز فوق السرير ليذهب الى المطبخ ويحضر قهوة الصباح. ولكن كيف سيفتح عينيه اذا كانت اساساً مفتوحتين؟ اغمض جفنيه مرات عدة على امل ان ينتهي هذا السحر، ولكن ما من سحر لقطعه والسرير المسحور لا يمكن ان يتحول مادة.
مرّ رف زرازير من فوق رأسه وقطع امام ناظريه لمدة خمس او ست ثوان ثم اختفى في افق المغيب. وقف بريك ليستكشف الامكنة وخلال قيامه بذلك تحسس غرضاً ما في جيب بنطاله الامامي. في الجيب محفظة، محفظته الخاصة، وفيها الى جانب مبلغ 76 دولاراً اميركياً، اجازة سوق اعطيت من نيويورك الى مواطن يدعى اوين بريك وهو مولود في 12 حزيران 1977.
وهذا يؤكد ما صار يعرفه بريك وهو انه شاب يقارب الثلاثين عاماً يسكن في جاكسون هايز في “الكوينز”.
وهو صار يعرف ايضاً انه متزوج من امرأة تدعى فلورا وانه يمارس مهنة ساحر منذ حوالي السبعة اعوام خاصة في مناسبات اعياد ميلاد الاولاد الصغار في المدينة حيث يظهر باسم خاص بالخشبة وهو “غرايت زافيللو” او “زافيللو الكبير”. هذه الوقائع لا تزيد شيئاً سوى انها تجعل الوضع اكثر تأزماً وتزيد الغموض. فاذا كان قد صار اكيداً من هويته فلماذا يجد نفسه في قعر هذه الحفرة مرتدياً زياً عسكرياً برتبة عريف من دون ان يحمل أوراقاً او وساماً أو هوية تثبت انتماءه العسكري؟
تأكد ان الخروج من الحفرة مسألة مستحيلة (..) وحتى اللحظة كان يعتبر انه في مكان موحد أو في منطقة جبلية غير مأهولة لأنه لم يكن يسمع شيئاً وكل شيء من حوله كان صامتاً ماعدا بعض اصوات الطيور وصفير الريح.
ولن ما ان اطلق صرخته الأولى للنجدة حتى سمع رشقاً نارياً وفي السماء من فوقه رأى ما يشبه المذنبات المتساقطة وكأن الأمر حصل في معادلة الفعل ورد الفعل. سمع بريك طلقات الرشاشات النارية وايضاً دوي بعض القنابل المتفجرة، وبالتأكيد انه كان على بعد كيلومترات عدة من ذاك الصوت الجماعي لعويل اناس يطلبون النجدة. انها الحرب، قال في نفسه وانه مقاتل في تلك الحرب ولكن من دون سلاح ومن دون اي وسيلة دفاعية في حال تعرض لهجوم ما، وللمرة الأولى منذ ان استيقظ في هذه الحفرة شعر بخوف حقيقي.
بقيت أصوات الرشاشات اكثر من ساعة تلعلع ثم ما برحت ان خفتت تدريجياً وعاد الصمت من جديد. بعد قليل، سمع بريك في البعيد اصوات صفارات الاسعاف واستنتج ان سيارات رجال الاطفاء والمسعفين تتجه مسرعة صوب المباني المتضررة خلال الهجوم. ثم صمتت صفارات الاسعاف ايضا وعاد الهدوء. شعر بريك بخوف وبرد فظيعين، واضافة الى ذلك، كان يشعر بالارهاق بسبب محاولاته التسلق في ذاك السجن الدائري من دون جدوى، ثم ما ان بانت النجوم في السماء حتى تمدد على الأرض ونجح في الاستسلام للنوم.
في الصباح الباكر، استيقظ على صوت احدهم يناديه من فوق. نظر بريك في الفضاء من فوقه ورأى وجه رجل يتعدى طرف الحفرة، وبما ان هذا الوجه كان كل ما يراه، ظن ان الرجل نائم على بطنه من فوق ليناديه: “كابورال” قال الرجل. “كابورال بريك حان الوقت كي تتحرك”.
وقف بريك وشعر ان الرجل صار بعيداً عنه بحوالي المتر تقريباً ونظر الى وجهه واستنتج انه اسمر اللون وملتح وكأنه ترك ذقنه من دون حلاقة منذ بضعة ايام فقط. وكان يضع على رأسه قبعة شبيهة بقبعته. ولكن قبل ان يتمكن بريك من اعطائه جواباً ليقول له انه عاجز عن الصعود من الحفرة، كان الرجل قد اختفى..
لكنه عاد وسمعه يقول: لا بأس، سنخرجك من هنا في وقت قصير جداً.
بعد لحظات قليلة، سمع بريك صوت مطرقة وكأنه يضرب سطحاً حديدياً ولأن الصوت صار في تزايد، تساءل بريك اذا كان الرجل يحاول خرق هذا المكان بوتد معين. واذا كان ثمة وتد يعلقه بالحائط فربما هو يسعى الى ربط حبل ليمده ويساعد بريك على الصعود. توقف الصوت، مرت حوالي ثلاثين ثانية وتماماً كما توقع رأى حبلا يقع ويصل على مقربة من رجليه.
كان بريك ساحراً ولم يكن رياضياً محترفاً، وحتى انه لم يكن صعباً لرجل في الثلاثين ان يتسلق متراً أو مترين، مع هذا وجد صعوبة في انجاز الأمر وأخيراً وجد نفسه على حافة الحفرة. (..)
بعد ان وقف بصعوبة، تأمل بريك في لحظة لباس منقذه ووجد انهما يرتديان البذة العسكرية عينها مع فارق ان الرجل كان يحمل ثلاثة نجوم على ذراعه بفارق نجمة عن بذته هو.
كان الطقس ضبابياً بقوة ولم يتمكن بريك من استنتاج المكان الذي هو فيه. لكنه بالتأكيد مكان معزول في منطقة جبلية ولاعلاقة بالمدينة او بالقرية التي سمع فيها اطلاق نار بالأمس. وكل ما تمكن من رؤيته كان آلة الحفر مع الحبل الذي انقذه وآلية عسكرية للنقل موحلة بشكل كبير عند منطقة الدواليب متوقفة على بعد ثلاثة امتار من الحفرة (…)
ترجمة: ك.م
المستقبل