شاعر أمريكي يصوّب مسدّسه نحو الجمهور في إنشاد الشعر وأدائه، لماذا وكيف؟
منصف الوهايبي
يتهيّأ لي أنّ الشعر فنّ لا وجود له. إنّما هناك قصائد فحسب، فتاريخ الشعر قد لا يكون أكثر من تاريخ القصيدة؛على أنّه تاريخ مفتوح أبدا، أشبه ببناء لم يكتمل ولا يمكن أن يكتمل. وفيه تتّخذ كلّ قصيدة موقعها، وربّما احتفظت به زمنا قد يطول، وقد يقصر. وربّما فقدت موقعها أو أخلته لقصيدة أخرى. فالقصائد كائنات حيّة حقّا مثلنا نحن تماما، فنحن نولد ثمّ نموت؛ ولكن لا أحد منّا يصرّح بشهادة ميلاده ولا بشهادة وفاته. وكذلك القصيدة، فثمّة دائما شخص آخر هو رفيق غامض يتقدّم فيعلن عن ميلاد قصيدة، ثمّ يعقبه آخر فيضخّ فيها دما جديدا؛ هذا إن لم يحوّلها إلى أشلاء أو هيكل عظميّ، على نحو ما نرى في بعض البحوث الجامعيّة حيث القصيدة مبتورة أبدا، أو هي أشبه بسيّارة قديمة لم تعد تصلح إلاّ للطّرح؛إلاّ إذا أسعفك الحظّ ووجدت لها في سوق الخردة القطع التي تلائمها.
أعرف زميل دراسة، هجر المدرسة باكرا ليشتغل في بيع قطع الغيار المستعملة. وكنت أمازحه أحيانا وأقول له: ‘كلانا خردجي (أي بائع خردة، والخردة كلمة فارسيّة الأصل تدلّ على الأمتعة الصّغيرة المتفرّقة) فأنا مثلك؛وكلّ ما في الأمر أنّي أدرّس قصائد. أفكّكها، وعندما أحاول ترميمها ثانية، تحرن، فألهب ظهرها بسوط قدامة بن جعفر أو الجاحظ أو الآمدي. . . أو أتحيّل عليها بقطع ‘نقديّة’ أقتنيها من حانوت عبد القاهر الجرجاني، وهو حانوت بوجهين: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة. فإذا أصرّت على حرانها ولم تـنـقـد، حملت إليها ما لـذّ وطاب من قطع غيار مستوردة؛ إمّا من نقاط البيع الأصليّة، فإن تعذّر فمن وكلائها في الجامعات العربيّة. وما أكثر وكلاء ‘بارت’و’جاكوبسون’و’ريفاتير’و’دريدا’و’ريكور’. . . وعندها تنهض القصيدة وتمشي. ويكون ذلك شهادة على Bruit de ferraille لكن في قيد ينازعها؛وهي تحدث قعقعة مصمّة موت القصيدة. على أنّها شهادة لها شأن وأيّ شأن، فلا أحد يجادل أو يماري في أنّ أصدق الأخبار في صحفنا هي أخبار الوفيات.
الغريب في مشهد الشعر الحديث في أوروبا، أنّ هناك ‘شعرا’ وما هو بالشّعر. وأصحابه. أنفسهم يسمّونه أداء شعريّا ‘ Performance po’tique’
بل هم لا يعتبرون أنفسهم في عداد الشّعراء. وقد تعرّفت إلى بعضهم في فرنسا واسبانيا والبرتغال وإيطاليا، وكان انطباعي الأوّل أنّه ‘لعب’لغويّ لا يجري على أيّة قاعدة، بل هو أقرب ما يكون إلى الأداء المسرحي. فأصحابه يؤدّونه أداء مسرحيّا خالصا، ومنهم من يعدّ له ديكورا كالدّيكور المسرحي. غير أنّ هناك فرقا لا يخفى، فهذه ‘القصائد’ إذا جاز أن نسمّيها كذلك، ينشأ أكثرها خارج اللغة، ويفعل بالشّعر فعلا ضدّ الشّعر نفسه، ويدفع به إلى زمن ما قبل الكتابة. وربّما ذكّرتنا نماذج منها بظاهرة الإنشاد عند العرب. فقد كانت للإنشاد طقوس وقواعد حفظت لنا كتب التّراث شذرات منها. من ذلك ما يروى عن الأعشى’صنّاجة العرب’ الذي جمع الشّعر إلى الغناء والموسيقى، أو الخنساء التي كانت تنشد الشّعر في حضرة النّبي وهي تهزّ أعطافها، وتكاد ترقص.
هذه الظّاهرة لم تنقطع في تقاليدنا الحديثة، ولنا في نزار قبّاني وأدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي ومظفّر النوّاب ومحمود درويش ونزيه أبو عفش ومريد البرغوثي. . . خير مثال لها. فهؤلاء ـ على اختلاف نصوصهم ـ يجيدون أداء قصائدهم. ولكنّهم لا يدفعون بها إلى تخوم ‘الأداء الشعري’ حيث يغادر الشعر جسم اللغة إلى لغة الجسد وتعابيره. وكأنّ الشّاعر رحّالة في غير طريق المعنى.
تعود جذور هذه الظّاهرة في أوروبا، إلى عام1916 في مقهى فولتيرفي باريس. ويبدو أنّها نشأت تأثّرا بـ’هوجو بال’و’كادينسكي’ في بحوثه المخصوصة بإيقاع اللون والمسرح التّشكيلي والموسيقى النّغميّة. وقد تجلّت في شعر صوتي وشعر بصري وآخر شفوي، لا هدف له سوى احتواء الجسد في صراخه وصياحه وحركاته الحرّة المتحرّرة. وفي يوميّات هوجو بال الموسومة بـ’الهروب خارج الزّمن’أكثر من إشارة إلى هذا المنحى. فقد تحدّث بشيء من الإسهاب عن أمسيات ‘دادا’ في زوريخ، ودعوته إلى التّمرّد على ما استتبّ من نواميس الفنّ وقوانينه. وهي الثّورة التي عمّقها’أرتو’ فيما بعد في دعوته إلى ‘المسرح المتوحّش’. وقد أفاد منها المسرح العربي كثيرا، وبخاصّة في تونس والمغرب. أمّا شعرنا الحديث فلا يزال بمنأى عنها. ولا إخال أحدا من الشّعراء الذين ذكرت يتـجرّأ على أداء شعره مثل الفرنسي’سارج باي’أو الأمريكي’بوبي هولمان’ وقد ضمّنا لقاء في مسرح ريفولي ببورتو في البرتغال. وكنت أتوقّع أن يفتح كتابا ويقرأ، وإذا به يباغتنا بديكور يشبه تلك الحانات التي نراها في أفلام الكاوبوي. ثمّ يأخذ بالغناء والرّقص، وهو يصرخ ويكسّر زجاجات النّبيذ الفارغة؛ثمّ يسحب فجأة مسدّسا، ويصوّبه نحو الحاضرين، لتنطلق منه أزهار بلاستيكيّة ملوّنة. ومثله أيضا الياباني’تايجون تاندو’ ـ وقد أهداني بعض رسومه ونصوصه في ترجمتها الفرنسيّة ـ وعالمه الشّعري غريب عنّا حقّا، وطريقته في الأداء أغرب. فإنشاده أشبه بصراخ في البرّية أو بأصداء تتردّد في جنبات واد أو بين قـمم جبال. قال لي ـ عندما سألته عن سرّ هذا الأداء ـ إنّه يتردّد على جبل قريب من طوكيو، حيث يتعلّم كيف يصطدم الصّوت بالحجارة الصمّاء، ثمّ يرتدّ إليه ولا يضيع.
إنّ فنّ الأداء الشعري على النّحو الذي اختزلته، ينتشر في سائر أقطار أوروبا وأمريكا وكندا؛ وكأنه شهادة أخرى على موت القصيدة. وربّما هو كذلك، غير أنّي أجـده ـ مثل كثيرين ـ على صلة بالمسرح والفنون التّشكيليّة خاصّة. فيه تتقوّض نظريّة الأجناس، ولا يبقى من الشّعر سوى جسم صوتي تذكيه تقاليد شفويّة قديمة وحديثة. وكأنّ الشّعر يعود ثانية إلى ينابيعه الأولى، ولكن من طريق أخرى. فثمّة ثقافة شفويّة جديدة تغزو العالم الغربي ـ على ما يبدوـ وتعيد الاعتبار إلى الكلمة وإلى القيمة الصّوتيّة، بعد أن ذهب في ظنّ الكثيرين أنّ العصر هو عصر الكتابة. ولا ندري ما إذا كان الانسان بدأ ينتقل من ‘الكتاب المقروء’ إلى’الكتاب المسموع’أم أنّ الأمر لا يعدو ‘قعقعة مصمّة’ Bruit de ferraille ستتلاشى هي الأخرى، ولا يبقى إلاّ الصّمت فهو بداية كلّ شيء وخاتمته.
الإنشاد حدث وطرائقه شتّى، إذ هو يرجع إلى المنشد وطريقة أدائه. على حين أن القصيدة ينبغي أن تكون ـ بدءا من اللّحظة التي نتّفق فيها على أنّ لها وجودا خاصّا- ‘شيئا يدوم’ un objet qui dure. ويكاد لا يساورنا شكّ في أنّ الموقف من الشّعر عامّة ومن الصّورة خاصّة، لا يبرأ من أثر إنشاد الشّعر وسماعه. فقد تكون الصّورة غفلا من المعنى خلوا من الدّلالة أو ‘هذرا’ و’تخليطا’، وهي مع ذلك تحتفظ بمسحة جمال أو هي تمتع إلى حين. وربّما تواصل هذا الأثر أثناء القراءة، وربّما اضمحلّ؛ وإن كنّا إلى القول بتواصله أميل لما نعرفه من أنّ الشّعر عند العرب شأنه شأن القرآن لا يزال مقروءا مسموعا أبدا. والنّّص يمكن أن يحوي نصّا مضمرا أو ‘نصّا تحتيّا Sous- texte يندسّ وينزلق بين الكلمات المرئيّة المقروءة، ويزوّد الخطاب بـ ‘موسيقيّة’ ما. ونحن نستعمل ها هنا ‘ما’ الإبهاميّة، لأنّنا نكاد نجهل كلّ شيء عن هذه ‘الموسيقيّة’ الرّاجعة إلى الإنشاد. ولكنّنا نذكّر بأنّ الإنشاد مثل السّماع، أداء فرديّ. وربّما أمكن أن نلمّ ببعض خصائص الإنشاد. أمّا السّماع فأشدّ دقّة وأكثر خفاء، إذ مردّه إلى ‘التخيّل’. وهو على علاقة بسريرة المستمع ومشاغله ومواقيت سماعه. وهذه قد تكون محكومة بدوافع نفسيّة أو حوافز وجدانيّة لا علاقة لها بالشّعر الذي يسمعه إلاّ من بعيد. فمن هو الذي يسمع؟ وماذا يسمع؟ أهو يسمع الأثر المنشد؟ أهو يصغي للقصيدة أم لأصدائها في نفسه؟
لكن إذا شاطرنا المعاصرين رأيهم في أنّ البيت هو قبل أيّ شيء صورة صوتيّة متعاودة دون أن يعني ذلك اختزال المواثيق الشّعرية مثل الوزن والمجانسة الصّوتيّة والقافية في المستوى الصّوتيّ، لأنّ من شأن هذا أن يزجّ بنا في مماحكات نظريّة ليس لها أيّ سند من ملاحظة أو اختبار، فهل نشاطرهم الرّأي في أنّ الصّورة الخاصّة بالقصيدة، مستقلّة في مستوى البيت، عن طرائق الأداء والإنشاد المختلفة المتنوّعة؟
على إقرارنا بأنّ الإنشاد يرجع إلى المنشد وطريقة أدائه، وأنّه قد يتأدّى في هيئة أسلوب مقطّع أو منبور، وقد ينحو باتّجاه ‘موسيقيّة’ أو’نغميّة’ قريبة من النثر أو هو يترجّح بين هذين، وقد يكون موزونا تصحبه وقفة في الصّدر وأخرى في العجز، أو هو ينزع إلى النّثر، فلا يفصل بين الشّطرين؛ نتحفّظ ـ ونحن في شعر عربيّ ـ من الرّأي القائل إنّ أيّا من طرائق الإنشاد لا يمكن أن يحجب على التّفاوت القصديّ بين القسمين النّحوي والعروضيّ. ذلك أنّ القصيدة، مهما تكن طريقة الإنشاد تظلّ محكومة لا بنغمة الصّوت ونبرته ورنّته فحسب، بل بتقطيع نغميّ contour intonationnel مميّز. والإنشاد شأنه شأن الوزن أبعد من أن يكون رسما نظريّا مجرّدا. ولعلّه من الوزن بمنزلة الكلام من اللّغة. فإذا كان الوزن هو قالب البيت مجرّدا أي قبل أن يتجسّم لغة، أو هو نموذج يحتذى بحيث يمتثل الشّاعر لقوانينه التي تحدد العناصر الثابتة في أبيات القصيدة، وترسم حدود تغييراتها (الزّحافات والعلل)؛ فإنّ الإنشاد في تقديرنا أشبه بـ ‘تغيّر اللّحن’ variation في الموسيقى أي استعمال اللّحن الرّئيسي مع بعض التّغيير في الفواصل الموسيقيّة. ولهذا التّّغيير شأن أو بعض شأن في الشّعريّة العربيّة القديمة. فهو نوع من التّقطيع السّمعيّ ‘الحرّ’ ينبثق من طريقة الأداء ولحن داخل اللّحن الأساسي الرّاجع إلى ‘ثابتيّة’ الوزن Invariance وما يضعه من الأصوات على توقيع أو نغم معلوم أو وقفة أي لحظة صمت في مستهلّ العجز يمكن أن تخفف من نبوّ الصّورة أو المعنى. وهذا إنّما ينهض به الإنشاد وما يتخلّلّه من صمت قد يكون قائما في الخطاب نفسه. وهو صمت قد يحوّل ‘غير المقول’ إلى ‘مقول’، ويبلّغ القارئ ما لا تبلّغه اللّغة.
الإنشاد / الاتّصال:
لا نظنّ أنّ حاجة الشّاعر إلى الاتّصال والإبلاغ أو الإبانة والإيضاح، تختلف عن حاجة أيّ من النّاس. بيد أنّ تعبير الشاعر من حيث هو فرد يستخدم اللّغة استخداما خاصّا، أو غير مألوف، لا يحقّق ضرورة الاتّصال الذي ينشده. والاتّصال سواء كان بين شخصين أو أكثر، إنّما يقتضي جملة شروط . ويمكن أن يتعطّل ما لم يستوفها المتكلّم أو المتلفّظ ، كلّها أو بعضها. على أنّ لهذه الشّروط ، في الشعر أو في إنشاده شأنا مختـلفا عن قرينه في الكلام العادي أو في اللّسان المتداول. ومن المفيد في هذا السّياق الذي نحن به، أن نشير إلى أنّ بين هذين المصطلحين: التعبير والاتصال، فروقا لا ينبغي إغفالها. ولنا أن نتميّزها من خلال أمثلة بسيطة، عسى أن نتبيّن حيث يتلاقى كلّ من الكلام العادي والكلام غير العادي(الشّعري) وحيث هما يتفارقان. من هذه الأمثلة التي ساقها مؤلّفو ‘دليل التّعبير الشّفوي’ أن يقول المتكلّم لجليسه: ‘أنا بردان؟ألا تغلق الباب؟’ فهو إنّما يشعره بأنّه بردان وأنّ جسده لا يتحمّل البرد. ومقصده الظّاهر أن يخبره بأنّ درجة الحرارة منخفضة، وأنّه سريع التّأثّر بالبرد. أمّا إذا تعثّر في كلامه، ولم يفصح، وارتعش، فإنّ جسده ـ في هذه الحال ـ هو الذي يعبّر ويؤدّي بطريقته ما يؤدّيه الكلام. ويمكن أن يكتفي بالتّطلّع إلى دثار أو لباس، فهذه علامة أخرى أو دليل أو مرشد، بما أنّه يخبر عمّا يروم المرسل التّعبير عنه، ويفيده دونما حاجة إلى الكلام. وفي هذه الحال أو تلك فإنّ الجليس يدرك مقصد صاحبه، ويقوم بما هو متوقّع منه، كأن يغلق الباب، أو يأتي بدثار أو لباس. وعليه ينعقد الاتّصال بين الطّرفين.
أمّا إذا انتقلنا إلى أشكال أخرى من التّعبير مثل الشّعر والكتابة والرّسم والموسيقى وما إليها، فإنّنا ننتقل إلى حوامل وسيطة، إذ ثمّة تعبير عن إحساس أو انفعال أو معرفة. . . يستشعره القارئ أو السّامع أو المتفرّج، أو هو يفهمه أو يدركه، إمّا في الحال أو بعد ذلك بزمن. وقد يتناسب مع المبدع طردا، وقد يتناسب عكسا. ومهما يكن فإنّ على الآخر، لكي يستوعب دليلا ما، أن يكون يقظا مهيّأ، أي أن يكون شاهدا أو حاضرا، ذلك أنّ حضور المنشد أو المؤدّي لا يتحقّق في غياب الآخر، أو لنقل إنّ القصيدة لا يمكن أن تكون ماثلة، من غير أن تكون ممثّلة أو مؤدّاة، وأنّ الاتّصال بين الطّرفين، لا ينعـقد إلاّ إذا أدرك الثّاني ما ينشد الشّاعر أن يدركه من كلامه وإنشاده أو أدائه، أو ممّا أشار إليه غير عامد أو غير قاصد.
إنّ الإنشاد من حيث هو شكل من أشكال الاتّصال، لا يقتضي من السّامع قدرة على الفهم فحسب، وإنّما لا بدّ من’ تفاهم ‘أو تعاقد ضمنيّ بينه وبين المنشد. ووسيلته إلى التّدليل على ذلك، صمته أو صوته أو جسده، وما إلى ذلك من عبارات مأثورة مثل: ‘أحسنت’ أو ‘لا فضّ فوك’. . . بيد أنّه إذا كان المتلقّي يستخدم نفس التّعبير أو الأداة التي يستخدمها المنشد، لكي يعيد صياغة الرّسالة، فهذا لا يسوق حتما إلى القول إنّه استوعبها أو فهمها. فقد لا يعدو الأمر مجرّد تذكّر أو استذكار.
ينقل المنشد معـنى أو صورة أو موقفا بواسطة الكلام والحركة، ويعبّر برسالة هي محصّلة علامات منظـّمة تنظيما مخصوصا. ويفترض في السّامع المتلقّي أن يفكّ الرّسالة، ويحتازها وكأنها خاصّته. وعلى أساس من هذه الخاصّة أو التّخصيص أو التّملّك أو التّخييل، يكون تفاعله أو استجابته، بل هو يعبّر بتعبير آخر خاصّ به هو ما يصطلح عليه بـ’المفعول الارتجاعي’ ، والارتجاع يظهر مدى فهم السّامع أو مدى وقع الكلام عليه. وقد يدرك الشّاعر المنشد أنّ السّامع لم يفهم الرّسالة كما ينبغي. ومن هنا يمكن أن يـتّخذ الإنشاد مسارا مختلفا، كأن يعدّل الشّاعر من طريقته أو من نبرة صوته أو من حركته. فالإنشاد شكل خاصّ من أشكال الاتّصال إذ ينهض من بين الوظائف التي ميّزها ياكوبسون بـ:
ـ الوظيفة المرجعيّة
ـ الوظيفة الانفعاليّة
ـ الوظيفة الحافّة
ـ الوظيفة التّنبيهيّة
والحقّ أنّ هذا التـّمييز بين الوظائف، في حال الإنشاد أو الاتّصال عامّة، نظريّ أكثر منه واقعا، فمن الصّعوبة بمكان أن نفصل بعضها عن بعض، أو أن نتفحّصها بعيدا عن المتن. ذلك أنّ السّامع لا يتلقّى الكلمات وهي تتأدّى وتنشد خلوا من المعـنى. والمعـنى في حال الإنشاد يتحدّد حسب مظهرين: أحدهما إدراكيّ أساسه معرفة موضوعيّة، والآخر وجدانيّ انفعاليّ أساسه التّجربة والمشاعر الخاصّة. وهذا لا يسوق إلى القول إنّ السّامعين يتفاعلون مع أداء الشّاعر أو إنشاده كما لو أنّهم سامع واحد، فالمشترك بينهم لا يتعدّى’الطّابع الاجتماعي’ الذي ينهض به الإنشاد على نحو ما ينهض به الإيقاع من حيث هو طقس جماعيّ حميم. وفي ما عدا هذا الطّابع فإنّ للإنشاد ـ على ما نرجّح ـ دلالات مختلفة: فقد تمثل دلالته من حيث هي انعكاس ‘موسيقيّ’ أو’تـنغيميّ’ للموضوع أو لفعل الأداء نفسه، أو للعلاقة المعقودة بين هذين. وقد تمثل من حيث هي تراسل بين العلامة مسموعة والأشياء منظورة تخيّلا حيث يرى السّامع دون أن يرى، ويسمع دون أن يستمع. وقد تمثل من حيث هي تجسيم لعلاقات اجتماعيّة بين جمهور المتلقّين، الأمر الذي يجعل الدّلالة تنحصر في الاتّصال والفهم. على أنّ أيّا من هذه الدّلالات ليس غاية أو منتهى في ذاته، بما أنّ أي دلالة يمكن أن تـنـتج دلالة أخرى. فإذا كان الشّاعر ينشد لجمهور ما، فمن نافل القول أنّ لهذا صورا تتنوّع وتختلف بتنوّع الجمهور واختلافه.
القدس العربي