مكتبة أليف شفق
بكر صدقي
تحدّثنا الروائية التركية المتألقة أليف شفق، في مقالة نشرتها حديثاً في يومية “الزمان” التركية، عن علاقتها بالكتب فتقول إنها لم تملك يوماً مكتبة شخصية بالمعنى المألوف للكلمة، أي كتباً مصفوفة على رفوف داخل غرفة خاصة في البيت تدعى “المكتبة”. فلطالما قبعت كتبها داخل طرود بريدية أو صناديق من الورق المقوّى، مستعدة في كل لحظة للرحيل، وتوزعت بين مدن مختلفة في تركيا وفرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة. فقد تنقلت أليف شفق دائماً بين تلك المدن وأمضت الكثير من وقتها في الترحال وحقيبة سفرها على ظهرها. تقول شفق: “حين يعيش المرء في ترحال دائم، يعتاد على ألا يتعلق بقوة بالأثاث والأشياء وحتى الكتب التي يعشقها، ويتعلم ألا يدّعي تملّكها، وينظر إليها بوصفها رفاق سفر أكثر من كونها ممتلكات”، وتضيف: “أعرف الكثير من الكتّاب والأكاديميين ممن لا يستطيعون الكتابة والتركيز خارج النظام المألوف الذي اعتادوه في بيوتهم، في حين أن النظام الصارم طالما أقلق راحتي، فمزاجي يميل أكثر إلى الحركة والفوضى، الأمر الذي انعكس على كتبي ومكتباتي أيضاً”.
في مطلع روايتها الأخيرة “اللبن الأسود”، التي نشرت في خريف 2007، مشهد يجمع الكاتبة الشابة مع زميلة لها من الجيل الأقدم هي الروائية المعروفة عدالت آغا أوغلو في زيارة للأولى إلى بيت هذه الأخيرة، أبرزت فيه التعارض بين مزاجي الكاتبتين. فقد شعرت شفق في قاعة الاستقبال بعدم الارتياح الذي عبّرت عنه كما يأتي: كانت القاعة مرتبة بطريقة تبلغ الكمال، شعرت أن كل شيء فيها يستقر في مكانه الصحيح منذ سنوات وعقود، فلم أجد مكاناً لي داخل هذا النظام الدقيق الصارم. بدوتُ، داخل القاعة الكبيرة، كضربة فرشاة وقعت سهواً على سطح لوحة فنية كاملة، فشوّشت انسجام عناصرها. الجملة الأولى التي تفوهت بها شفق مخاطبةً مضيفتها: “يا لهذا الهدوء داخل بيتك!”، فابتسمت آغا أوغلو وردّت: “لا أستطيع الكتابة بوجود أي صوت”. وتعلق شفق فتخبر قراء روايتها أنها لا تستطيع الكتابة إلا في الضجيج، فإذا لم تسمع ضجيج الشارع من النافذة، شغّلت جهاز الموسيقى واستمعت إلى أغنيات صاخبة وهي تكتب.
تردّ شفق مزاجها هذا إلى نمط الحياة التي عاشتها. فقد نشأت وحيدة لأبويها في رعاية أمها التي تعمل في السلك الديبلوماسي، بعيداً عن أبيها بعدما انفصل الزوجان وهي صغيرة، وتنقلت بين مدن أوروبية عدة بحكم عمل أمها، وكانت منطوية على نفسها فأحبّت الكتب وصحبتها أكثر من صحبة البشر. “في كل مدينة عشت فيها وكل فندق نزلت فيه، تركت أشياء تخصّني، كتباً ودفاتر ملاحظات وقصاصات أوراق”، تقول في الرواية المذكورة أعلاه التي تشكل شطراً من سيرة ذاتية، عكست تجربتها الخاصة بكآبة ما بعد الولادة، لكنها تحولت بين أصابعها البارعة إلى رواية ذات مستوى فني رفيع موضوعها علاقة المرأة بالكتابة.
لم يقتصر تأثير الترحال والتنقل الدائم على حياة الكاتبة، بل تعدّاها إلى تجربتها الأدبية، فقد ارتأت كتابة روايتين من رواياتها باللغة الإنكليزية نشرتهما في نيويورك، ترجمتا لاحقاً إلى اللغة التركية. وتبرر شفق خيارها هذا بالقول إن لكل لغة روحها الخاصة، وقد رأت أن اللغة الإنكليزية تناسب موضوعي روايتيها “البرزخ” و”الأب واللقيط” أكثر من أي لغة أخرى، إذ تتحدث الأولى عن حياة عدد من المهاجرين إلى الولايات المتحدة من بلدان وثقافات متعددة، في حين تناولت الثانية المشكلة الأرمنية في تركيا من خلال العلاقة بين عائلتين تركية وأرمنية في المهجر الأميركي. تصدرت رواية “الأب واللقيط” (2006) قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في تركيا، وحوكمت الكاتبة بسببها وفقاً للمادة 301 من قانون العقوبات التركي بدعوى “إساءتها الى الهوية القومية التركية”، وتمّت تبرئتها من التهم الموجهة إليها.
تطبع روايات أليف شفق بعشرات الآلاف من النسخ (“اللبن الأسود” 110 آلاف نسخة) وترجمت إلى عدد من اللغات الأجنبية (15 لغة). أتمت دراستها الثانوية في اسطنبول وتخرجت من قسم العلاقات الدولية في جامعة الشرق الأوسط للعلوم التقنية في اسطنبول، ونالت درجة الماجستير في موضوع الدراسات النسوية، والدكتوراه في علم السياسة. بدأت النشر عام 1994 بمجموعة قصصية حملت عنوان “الأناضول في عيون تصيب بالنظر”، ونالت روايتها الأولى “بنهان” (1998) جائزة مولانا جلال الدين الرومي الأدبية. إضافة إلى الكتابة الروائية، تكتب شفق المقالة الصحافية بصورة منتظمة في جريدة “الزمان” اليومية ومجلة “تمبو” الشهرية ¶