صفحات ثقافية

‘لنخرج ونسرق الخيول’ للنرويجي بير بيترسون: عن الذاكرة والحرب .. البراءة والذنب واستعادة واقعة غيرت مسار الحياة

null
ابراهيم درويش
لا اعرف لماذا طافت بخيالي وانا اقرأ الرواية النرويجية المترجمة للعربية ‘ لنخرج ونسرق الخيول’ صور عن ‘نهر الدون الهادئ’ لساخاروف، الرواية الجميلة التي في النسيان حيث اختفى الاهتمام بالادب القادم من الاتحاد السوفييتي.
لا ادب يترجم على حد معرفتي من روسيا الجديدة بعد انهيار العالم القديم. ولكن الطيف الاخر الذي استعدته هو صورة معاكسة او نسخة نرويجية لرواية ‘عار’ لجي ام كويتزي ووجه الاستعادة هو ان الاولى تذكر بالحياة الريفية وبراءتها والانهار والطبيعة اما الثانية فهي عن الذنب والتطهر والخسارة وهي الراوية التي فاز عليها كاتبها بجائزة نوبل. لا علاقة لرواية بير بيترسون بين العملين ولكن في اطيافها وظروفها تعيد احياء زمن ما وقديم بطله يريد استعادته وقد بلغ من العمر 67 عاما وتقاعد عن العمل في المال والاعمال واختار قرية صغيرة في اقصى شرق النرويج تعيش على نهر ليس بنهر يصب في بحيرة. تتوالد فيه اسماك السلمون في الصيف والتي يصيدها وتعمر مائدته. في قلب الحكاية القديمة توتر وذنوب، فالتطهر في الريف وفي هدوئه تقف خلفه اسرار وقصص لم تحل عقدتها بعد رغم مضي اعوام طويلة على وقوعها. في بيته الصغير الخالي من كل ما يذكره في العالم الحديث الا راديو يفتحه احيانا ليسمع اخبار العالم تعيش معه كلبة اسمها ليرا. في هذه البلدة الصغيرة يكتشف بطلنا تروند جارا يذكره برحلة له في فتوته، جرت احداثها في عام 1948، للريف مع والده من اجل تجارة الخشب الذي ينقل عبر الانهار لمناشره في المدن الكبيرة ‘السويد’. حياة بطلنا تروند ساندر عادية بين الاهتمام باحتياجات البيت القليلة واهتماماته بالتمشي مع كلبته في الصباحات والامسيات ايا كان الجو بردا او صحوا ام صيفا وشتاء. يبدو انه في القرية كما نعرف لانه لم يعد قادرا على ممارسة حياته في الشركة لكبر عمره ولعدم انسجامه مع حياة المدينة وفي حياة شبه متقشفة وليست فقيرة يعيش روتينه اليومي بين الاكل والنوم والتمشي ومراقبة البحيرة الصغيرة قرب بيته التي يطلق عليها بحيرة البجع. شيء ما يغير مسار واعتيادية ايامه، عندما يطرق باب بيته غريب يسأله والليل ماطر وزمهرير ان شاهد كلبا. ويتعارفان كل باسم، الجار هو ‘لارس هوغ’. الاسم يطرق في ذاكرته الكثير من الصور والاشباح، اشباح الماضي يعيد اليه ذاكرة الرحلة التي غيرت مسار حياته وحياة والده والعائلة جميعها. اول ما يتذكره او يعيده الى ايام عاشها قبل خمسين عاما قصة يذكرها الجار له وهي عندما قتل كلبا كان يطارد ظباء في مزرعة والدته وزوجها حيث كان يعيش معهما بعد ان غاب الاخ في اعالي البحار يبحر على السفن فيها. تذكر لارس الجار القصة عندما وجد كلبه بوكر وحدث بها تروند. في الليل البهيم يعود كل منهما الى بيته الصغير لكن تروند وان تمدد على فراشه الا انه يعود الى صديقه جون الذي غاب عن حياته وكان يحضر للشاليه التي كان يسكن فيها مع والده لاتمام مشروع الاخشاب مع صديقه فرانز في تلك الرحلة التي صحب فيها والده للريف عام 1948. جون كان يخفف على تروند ساعات الوحدة ويهرب معه الى الحقول لاصطياد الارانب مع ان تروند يتساءل كيف يمكن لعائلة ان تأكل كل يوم لحم ارانب بدون ان تمل منه. في يوم من الايام جاء اليه وطلب منه الخروج معه لسرقة الخيول قائلا له ‘لنخرج ونسرق الخيول’ نعرف ان الامر لم يكن سرقة ولكن سرقة الخيول لوقت قليل للركوب والمضي في الحقول على صهوتها. عبارة ‘لنخرج ونسرق الخيول’ لها اصداء ودلالات اخرى معروفة لدى العائلة ويبدو انها جزء من تاريخ المنطقة، اذ تتكشف الرواية عن معانٍ اخرى لها ترتبط بالمقاومة للالمان التي كان الاب وام جون جزءا منها. كان جون يفضل تروند لانهما في نفس السن مع ان جون لديه شقيقان توأمان هما رسن واود. الخيول المعنية هي التي يتركها صاحب المزرعة الجار باركلد في المرج ترعى قرب الغابة التي يعمل فيها والده مع شريكه على قطع الاشجار ورميها في النهر. لكن ما يثير في ذكرى ذلك اليوم هو تعرض تروند لحادث عندما رماه الحصان على السياج وترك فيه رضوضا وخدوشا هي ما عرفه من والده لاحقا وما كان يدور في الدكان عن عائلة جون. والقصة كما يكشف السرد عنها هي ان جون عاد مرة من صيد الارانب بخرطوشه الى البيت الخالي من الام التي كانت في زيارة عائلية في قرية اخرى والاب كان في الغابة والتوأمان اللذان كانا في عهدته لم يكونا في البيت او على مرمى نظره. وفي عجلة من امره علق الارنبان على الحائط وجرى للنهر بحثا عن شقيقيه تاركا زناد الخرطوش بدون تأمين وكان معمرا بالرصاص. لم يكن التوأمان في الخارج كانا في القبو يلعبان بما يحويه من ملابس قديمة وعندما تعبا صعدا للاعلى ووجدا البندقية مرمية على الارض وهنا وفي محاولة لتقليد شقيقه اخذ لارس الخرطوش وصوبه نحو لا هدف لتنطلق الرصاصة منه الى قلب شقيقه. هنا وقعت الكارثة عندما تذكر جون متأخرا الخرطوش واخذ يعدو نحو البيت كي يرى والده الاخر السمين يعدو من جهة الغابة، لقد حدثت الكارثة. هدوء المكان قطعه موت الولد، وجنازة يحضرها الاب مع الابن في اول ايامه في الغابة ويسمع فيها والده وهو يقول لعائلة الطفل المقتول/ المغدور ‘تعازينا’ ساعتها يكتشف فراغ الكلمات. تذكره الجنازة بجنازة خاله الذي قتله الالمان عام 1943. المهم هنا ان السارد وهو تروند يكشف في كل ذكرى عن معانٍ من التوتر، التوتر القابل للانفتاح مثل كرة الثلج التي تتكشف عن معاني ما سيجري وتكبر القصة اكثر واكثر. في الموقف لم يكن والد تروند ولا والد جون بقادرين على النظر في عيني بعضهما بعضاً وبدت الكلمات بلا معنى اي التعازي. لماذا؟ لأن النص في انفتاحه على المكان والطبيعة واستعراضه لما تقدمه لنا الارض والنهر من مشاهد وصور، يظل المكان مسرحا للدراما التي تخفي وراء هدوئها عالما متأججا بالعواطف والشهوات المكبوحة. جون يختفي من السياق للابد ولا يحضر الا عبر تذكر شقيقه الذي حضر مرة لمائدة تروند العجوز حيث يقول انه سافر مثل رامبو في اعالي البحار وخليج عدن والسويس وعاد مثل رامبو منهكا وقرر العودة للمزرعة وبعدها لا نعرف ما صار اليه والمآلات التي حدثت له. لكن في رحلة الابن والاب وتقاربهما معا نقرأ ان الابن لا يكشف لنا الا القليل عن مآلات الاب وما حدث لمشروعه الفاشل، ذلك ان الاب كان متعجلا في مراكمة الخشب ورميه في النهر حيث يعوم ويصل منشرة في السويد. لكن شريكه فرانز يرى في الامر مجازفة فبدون ان تجف اعواد الاشجار لا يمكن قطعها. والاب يجازف هكذا قال للابن واوضح ان الجذوع مليئة بالنسغ ولا يمكن قطعها ونقلها عبر الانهار لمناشر السويد. سنكتشف لاحقا صحة ما قدمه فرانز للابن. لا يخلو ساردنا من تساؤلات ملحة تفتح البال عن السبب الذي دعا للاب اخذ ابنه وترك الزوجة والابنة ـ الاخت في المدينة. حجة الاب انه لا يستطيع التفكير منطقيا في حضرة النساء اما الاخت فترى ان اصطحاب الابن هو نوع من التفريق لان عملها الاساسي هو الخدمة والتنظيف. اما هما ـ الاب والابن ـ فلهما الحق بالاستمتاع بالطبيعة والنهر وسمكه. يتحرك سرد تروند بين حاله الان كغريب في قرية الفه الناس بعد ان عرفوا عنه كل شيء وكان صريحا معهم فقد جاء الى هنا بعد وفاة زوجته الثانية في حادث نجا منه بأعجوبة وان له بنتين من زاوج اول له وهو ايضا جد. القصة هنا هي ليست هروبا من ماض سابق لاستحضاره ولكنها حاضر يحاول ساردنا نسيانه. لا يقول تروند كيف ماتت زوجته وهل هناك عقدة ذنب مثل ما حدث مع جون ولارس جاره الجديد.
بالعودة الى الرحلة الاولى وتجربة / مغامرة الخشب يحتوي النص على توتر وشهوة تلوح في الافق. هنا ام جون تصبح حاضرة في ايام العمل تحضر الطعام للعمال خاصة ان زوجها يعمل مع الفريق. في ساعات الراحة لا تستلقي ام جون معهم. لكن السارد الابن وان كانت لديه شهوات الشباب التي اخذت تتفتح على العالم واستكشافه، لم يكن الا ليلاحظ نظرات الاب لأم جون ذات المعنى ولكنه لم يكن قادرا على تفتيق معاني النظرات، ماذا تحمل وراءها؟ لكن التوتر يصل مداه في مواجهة بين الاب وابو جون اللذين كانا في مواجهة ما في ظاهرها عن الخشب والعمل ولكن باطنها محمل بكل التفاسير والمعاني. هنا يتذكر ساردنا الحكاية كيف ان ام جون التي كانت تحضر بقارب معها سلة الطعام ربما حدست بما سيحدث بين الرجلين، الزوج والاب. وقفت وفي وقفتها احس الابن ـ السارد هنا نوعا من القرب لها واحاطها بذراعيه الامر الذي لم تعترض عليه وفي سكون اللحظة التي تخلط الامومة بالشهوة يحدث ما لا يحمد عقباه. في مواجهة بين الرجلين على قمة تلة الخشب ينزلق ابو جون ويصاب بكسور. تنتبه الزوجة على الواقع وترى الزوج الجريح وتعدو نحوه. ينقل ابو جون الى مستشفى بعيد ولا يعود ولا يقف من اصابته. تكشف القصة في حذرها وانفتاحها عن توتر آخر وقديم بين الرجلين. فوالد تروند كان اثناء الاحتلال الالماني يستخدم بيت فرانز لتهريب وثائق وافلام لها علاقة بالمقاومة وكانت عملياته لها وجه اخر وهو تهريب رجالها من خلف نقاط التفتيش الالمانية. كان والد جون يعرف عن النشاطات وعن مشاركة زوجته، لم يعارض ولكنه كان يريد ان يظل بعيدا عنها. في لحظة يكتشف الالمان عملية تهريب احدهم عبر النهر للسويد ويقتل الشخص، فيما يهرب الاب وام جون عبر النهر للسويد. يعرف تروند عن القصة من فرانز وعندما يسأله عن السبب تكون الاجابة انه ينفذ ما طلب منه. ربما هذا ما يكشف سر التوتر بين الاب وابو جون. هل كان الاب عاشقا وغيابه لا يتعلق في النهاية بفشل تجارة الاخشاب؟ تظل ام تروند بعيدة عن المشهد وسرده الروائي، وفي الجزء الثالث والاخير تحضر بصورتها ولكي تكتشف ان الاب لن يعود من السويد ابدا بعد ان فشلت تجارته او ربحت وانه ترك لهم حسابا في البنك في مدينة كارلستاد السويدية. تذهب الام التي يعتريها الخبال والبطء بعد اختفاء الاب الى البنك لكي تكتشف ان المبلغ لا يزيد عن 150 كرونراً. كيف حدث هذا والابن يعرف ان الخشب تم انقاذه من النهر في رحلته مع والده قبل ان يترك الريف على ظهر الخيل للجانب الاخر من الحدود؟ لماذا كان والده في الرسالة رسميا ولم يذكر الابن بخير او شر؟ هذا ما يثير اهتمام وقلق تروند، لماذا وهو الذي كان يذهب يوما على الدراجة التي قدمها له والده الى محطة قطارات الفرم منتظرا عودة الاب الغائب لكن لا خيال يظهر لوالده. المهم تذهب الام للمدينة مع ابنها في اول رحلة لها للسويد وبعد بحث كاد ان ينتهي بكارثة لولا ستر الله يجدان البنك. تدخل الام وتخرج حاملة المبلغ الصغير كي تصرفه وتشتري لابنها بدلة تؤكد رجولته وتعيد لها الاعتزاز بالنفس وهي المرة الوحيدة التي نرى فيها والدة تروند في هذا المظهر او يراها الابن لاننا لا نكتشف حضورها الا في وقت متأخر وبحسب الابن فالأم بعد الرحلة هذه ستعود الى عالم غيابها وحتى رحيلها. تقنيات السرد في الرواية تراوح بين الماضي والحاضر ويتداخل الحاضر بالماضي على شكل حلم احيانا. وفي كل ما يدور نعرف ان القرية هي محل التطهر والاثم او الذنب. فكل الابطال اما يعيشون حاضرهم ويتناسون ماضيهم لكن بطلنا تروند المثقل بالماضي لا يبدو قادرا على التخلص من ذكرى عام 1948 نكبته او تحولاته الانسانية. زمنيا تدور الراوية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية مع ان بعض احداثها تمت فيها. وفي عالم كبر فيه تروند ويقف على اهبة الالفية. والماضي يشكل مرجعية للحاضر في الحكم على الحروب، فالسارد يعي عبثية الحرب ودمارها عندما يعلق على الرصاص الذي يسقط على غروزني عاصمة الشيشان ‘ ها هم يعاودن الكرة ، لكنهم لن ينتصروا ابدا’ اي الروس. ويضيف ‘تولستوي عرف هذا في رواية الحاج مراد ، وتلك الرواية كتبت قبل مئة سنة، انه من غير المفهوم حقا ان لا تستوعب القوى الكبرى الدرس، والا تفطن الى انها في النهاية هي التي ستنهار. انما، يمكن بالطبع تدمير الشيشان بمنتهى البساطة، وهذا اكثر سهولة من الحاضر مما كان عليه قبل مئة سنة’. يبدو تروند في هروبه من ماضيه مصرا على تكرار الدرس مثل والده فهو لم يخبر احدا عندما صفى اموره وحضر القرية. ايلين ابنته التي درست في انكلترا فترة هي التي تقلب الارض بحثا عنه وتفاجئه بسياراتها الصفراء وسجائرها واقفة امام الباب وعندما يعانقها نكتشف غياب الحرارة. تطلب منه ايلين اول ما تطلب ان يركب تلفونا في البيت ويعدها بالتفكير. تقضي معه فترة من الوقت ثم تختفي من حياته كما ظهرت فجأة ولكن ما تظهره المواجهة او اللقاء هو اننا لا ندير حياتنا او قد لا نكون بالضرورة من يدير حياتنا لكنه لم يكن قادرا على تصور ان يحدث هذا لنا. ما نعرفه ان والدها ـ الراوي هنا هو من عشاق تشارلس ديكنز ومن اعماله المغرم بها هي قصة ‘ديفيد كوبرفيلد’ التي تدعوه الى اعادة قراءتها ربما لتذكره ان ما فعله بها هو نفس الامر الذي فعله والده بها عندما اختفى، ففي مقدمة الرواية التي نشرها ديكنز عام 1850 كتب قائلا ‘ مثل كل الاباء المحبين فان في اعماق اعماق قلبي لدي ولد مفضل ، واسمه ديفيد كوبرفيلد’. يكمن سحر الرواية في الماحها للحب، الشهوة، الامومة والابوة والاثم والذنب والبراءة، هنا الحزن تغلفه الطبيعة والبراءة تظهر من بين التلال وتغير الفصول. ومن هنا الاهتمام بالتفاصيل والاشجار وكل ما يتعلق بالحياة الريفية. لكن هل الريف يظل القناع الذي يعطي العزاء بالكبر؟ لا اعتقد هذا.

ـ المؤلف: بير بيترسون في اوسلو عام 1952 اشتغل عاملا عدة اعوام وعمل في حقل المكتبات ومكتبيا وبائع كتب. بدأ اولا مترجما وناقدا ادبيا ثم نشر مجموعته الاولى عام 1987. وفازت روايته الحالية بجائزة امباك الدولية الايرلندية عام 2007. صدرت الطبعة العربية عن دار المنى في استكهولم بترجمة سكينة ابراهيم.
كاتب من اسرة القدس العربي
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى