البيان الخطأ والنيّات الحسنة!
الياس خوري
بدايةً، أريد أن أعترف بأنني معجب بقائد الاوركسترا دانيال بارنباوم. التقيته للمرة الأولى منذ سبعة أعوام في منزل ادوارد سعيد في نيويورك. والتقيته للمرة الثانية في المنزل نفسه، ولكن بعيد وفاة سعيد بأشهر قليلة، ثم تسنّى لي أن ألتقيه في سياق تمارين “أوركسترا الديوان الشرقي – الغربي”، في النمسا واسبانيا.
في المرة الأولى، تعرفت الى شخص لامع، يبحث ويسأل ويكتشف الألم الفلسطيني. وفي المرة الثانية، دعت مريم، زوجة ادوارد، عدداً من أصدقاء الراحل الكبير الى البيت، وكان لقاء صامتا حزينا، لم يجد لغته الا عندما جلس دانيال امام البيانو، وبدأ يعزف دموعنا الصامتة.
أسّس سعيد وبارنباوم “أوركسترا الديوان الشرقي – الغربي”. التجربة مثيرة حقا، لا لأنها جمعت موسيقيين فلسطينيين وعربا وإسرائيليين واسباناً، بل أيضا لأن هذا الاجتماع كان يتم في ظلّ جهد فكري، يقوم به صاحب كتاب “الاستشراق”، من أجل مزج التجربة الفنية ببعديها الفكري والسياسي النقديين. قائد الاوركسترا الارجنتيني والاسرائيلي، ينال الجنسية الفلسطينية، والمفكر الفلسطيني الكبير، يمزج شغفه بالموسيقى بوعيه الفكري والسياسي.
تسنّى لي في العامين الماضيين أن أتابع تجربة عمل الاوركسترا عن قرب، من خلال مشاركتي مع عدد من المثقفين في الجلسات الحوارية التي كانت تجري في أمسيات التمارين المرهقة والرائعة. فبعد رحيل سعيد، تقررت الاستعانة ببعض الكتاب والمؤرخين من أجل إدارة هذه الندوات.
لم تكن صداقتي لإدوارد سعيد وزوجته مريم السبب الوحيد لهذه المشاركة، بل كان هناك ذلك السحر الذي يضفيه دانيال بارنباوم على قيادة التمارين. أمام هذا الفنان الكبير تكتشف أن الموسيقى هي لغة الروح. إنها شعر بلا كلمات، شعر يسبق الكلمات، وحكاية تتعالى على الحكايات. هذا الساحر الذي يتنفس الموسيقى، جعل من الأوركسترا مدرسة فنية وأخلاقية لا مثيل لها.
إعجابي ببارنباوم وحبّي له، وإخلاصي لفكرة الأوركسترا التي أطلقها مع إدوارد سعيد، يجب أن لا تكون حاجزاً أمام قول الحقيقة. فالفن والأدب ليسا الا محاولة لاكتشاف الحقيقة والدفاع عنها. وحين يأتي الخطأ من شخص كبارنباوم، يصير السكوت عنه خطأ مضاعفاً يدمّر الصدقية من جهة، ويسمح بالنيل من فكرة وممارسة نبيلتين من جهة ثانية.
الحكاية أن بياناً نُشر في “نيويورك ريفيو أوف بوكس”، وقّعه عشرات المثقفين الغربيين والعرب، وفيه دعوة الى “ايجاد حل للصراع الفلسطيني – الاسرائيلي من اجل تحقيق المساواة للشعبين في الحقوق والكرامة، وتأكيد حق كل شخص في التعالي على الماضي والتطلع الى المستقبل”.
الصيغة التي نُشر فيها البيان، تشير في شكل واضح الى ان واضعه هو قائد الأوركسترا، أما التواقيع التي شملت عدداً من كبار الكتاب العالميين: غونتر غراس، لوكليزيو، كويتزي، باموق… وعددا من الفنانين: غودار، ريتشارد غير، ميريل ستريب… فتشير الى السلطة المعنوية التي يتمتع بها بارنباوم على المستوى العالمي. هناك بالطبع تواقيع عربية تمتد من أدونيس الى ميشال خليفي وايليا سليمان، مرورا بأمين معلوف والطاهر بن جلّون وحنان الشيخ ورشيد الخالدي وعبده وازن وعيسى مخلوف… وهي تواقيع تثير الحيرة، لأنها للأسف توقفت عند النيات الحسنة، ولم تتدخل في تصويب أخطاء البيان الثلاثة الشديدة الوضوح.
الخطأ الأول هو حكاية الاعوام الاربعين، اذ يبدأ البيان بالكلام عن ان الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي “الذي يدور منذ اربعين عاما لا يمكن حله بالقوة”. هنا يقع الخطأ. هل الاشارة الى ان الصراع بدأ في حرب الخامس من حزيران عام 1967، تعني شطب تاريخ نكبة 1948 من الذاكرة؟ هل نحن أمام دعوة مقصودة الى نسيان الكارثة التي حلّت بالشعب الفلسطيني، وتناسي حق الضحية في الاعتراف بها كضحية؟ ام ان المسألة ليست سوى خطأ ارتكب على عجل، من اجل اختصار الحكاية في بضعة اسطر؟ لا اعتقد ان بارنباوم وموقّعي البيان، ومن بينهم المؤرخ والأكاديمي الفلسطيني رشيد الخالدي، يجهلون هذه الحقيقة.
الخطأ الثاني، هو اعتبار الصراع اسرائيليا – فلسطينيا. هل يمكن الحديث عما يجري في فلسطين من فظائع واستيطان وحصار في وصفه صراعا بين طرفين متساويين؟ غالب الظن ان استخدام كلمة صراع جاءت كتسوية من اجل عدم استخدام الكلمة الملائمة: الاحتلال. لا وجود لصراع فلسطيني – اسرائيلي. هناك احتلال اسرائيلي ومقاومة فلسطينية. الهرب من تسمية الشيء باسمه يقود الى الغموض الذي يحجب الحقيقة. يفترض الصراع وجود طرفين متساويين، لذا يمكن الحديث، نظريا على الأقل، عن صراع عربي – اسرائيلي. اما في الواقع الفلسطيني، فهناك شعب خاضع للاحتلال، وهناك قوة عسكرية لا تكتفي باحتلال ارضه، بل تسعى الى تغيير معالم هذه الأرض من أجل ضمّها الى اسرائيل. عدم استخدام كلمة احتلال، يميّع المسألة، بحيث يمكن المساواة بين جرائم الجيش الاسرائيلي في غزة، وبين اعمال المقاومة. بالطبع يحق للمثقفين انتقاد بعض أساليب المقاومة، لكنهم لا يملكون الحق في نزع اسمها، ونسيان الواقع الذي أنتجها. هل سبق لأحد ان استخدم تعبير الصراع الفيتنامي – الاميركي في وصف الحرب الفيتنامية، او عبارة الصراع الفرنسي – الجزائري في وصف الحرب الجزائرية؟
لا أعتقد ان هذه الجرأة على الاسم كانت ممكنة في زمن التمييز العنصري في جنوب افريقيا. هناك كانت المسألة واضحة، لأنها غير مرتبطة بالقضية التي تثقل الضمير الاوروبي: المحرقة النازية. كما ان اساليب مقاومة الجنوب افريقيين التي زاوجت بين المقاومة الشعبية والمقاومة المسلحة، لم تثر اي ردود فعل شبيهة بما يجري في فلسطين. وهنا يقع دور المثقفين، ودور بارنباوم على وجه الخصوص، يجب الفصل بين المأساة اليهودية والعسكرية الاسرائيلية، لأن الدمج بينهما يسيء الى ضحايا الهولوكست، اكثر مما يسيء الى الضحية الفلسطينية.
الخطأ الثالث، هو الكلام عن توفير الأمن للاسرائيليين والفلسطينيين. يأتي هذا الكلام في سياق الدعوة الى الاعتراف بالظلم الذي حصل. الاعتراف بالظلم نقطة ايجابية، ومن الواضح انها تشير الى الظلم الذي يعانيه الفلسطينيون. تجهيل الفاعل، قد يكون مقصودا هنا، من اجل حشد اكبر عدد من التواقيع، اما تجهيل الضحية، فأمر يثير الحيرة، ويطرح اكثر من علامة استفهام، وخصوصا بعد الجريمة الاسرائيلية في غزة.
واخيرا تأتي مسألة توفير الأمن للاسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، كأن الجلاد والضحية متساويان في الجريمة، وهذه مسألة خطرة، لأنها تهدد بإلغاء معنى البيان برمته.
نتمنى مع موقّعي البيان ان يكون العنف قد اثبت لا جدواه، على الرغم من اننا نرى في الاحتلال والاستيطان عنفا لا يتوقف. كما نتمنى ان نصل الى المساواة والكرامة، لكن ما يجب الا يغيب عن بالنا لحظة، هو ان الاحتلال يجثم على فلسطين، وان مقاومته حق، كما ان دعم نضال الشعب الفلسطيني من اجل الحرية وتقرير المصير واجب اخلاقي.
النهار