صبحي حديديصفحات ثقافية

صيّاد سورية

null
صبحي حديدي
تبدأ سلسلة أفلام ‘إنديانا جونز…’ من ركيزة أولى صريحة هي تسلية المشاهد الغربي عن طريق إمتاعه بما لذّ وطاب من مغامرات وغزوات واستكشافات في بلدان الشرق، أو الآخر الآسيوي ـ الأفريقي ـ اللاتيني بصفة عامة؛ ولا تنتهي عند ركيزة ختامية، خافية هذه المرّة، هي التلذّذ الساديّ بإهانة ذلك الآخر في ثقافته، وفي تراثه الأركيولوجي والأنثروبولوجي والأسطوري. ورغم المهارات العالية للمخرج المخضرم ستيفن سبيلبرغ، ثمة مقدار كبير فاضح من العنصرية الجلية المباشرة، التي يزيدها أذى وتجريحاً ذلك الخبث ـ أو التخابث، كما يتوجب القول ربما ـ في اللعب على صيغة ‘سينما الواقع’، والمزج البارع بين تمويه الحقيقة وتسخير المخيّلة.
.. فكيف إذا توفّرت نسخة مقلّدة، على النحو الأشدّ رداءة وسخفاً، لمغامرات المستكشف إياه، إنديانا جونز، وقد اتخذ لنفسه اسم جاك هنتر (جاك الصيّاد)، وقارع الخصوم المحليين من أهل البلد، والخصوم المنافسين من… المافيا الروسية؟ وكيف إذا كان صيده الثمين ليس جمجمة الكريستال أو معبد القدر أو تابوت العهد الضائع، بل لوح أوغاريت الأشهر دون سواه، الذي يحتوي على الأبجدية المدوّنة الأقدم في التاريخ، فضلاً عن أوّل سلّم موسيقي في عمر الإنسانية؟ وللعلم، عُثر على اللوح سنة 1928 في حفريات مدينة أوغاريت الكنعانية (رأس شمرا الحالية، شمال مدينة اللاذقية، في سورية)، التي سادت وازدهرت في الفترة بين 1500 و1300 ق. م.، واحتلت مكانة بارزة وسط مراكز العمران الكتابي الأخرى، مثل مصر وبلاد الرافدين والأناضول.
وإلى جانب أهميته القصوى في إعادة كتابة تاريخ المنطقة، وإتاحة المزيد للتحرّر من سطوة المسلّمات المقدّسة التي خلّفتها سرديات التوراة، صار هذا الاكتشاف أبرز البراهين المادّية على الأثر الكبير الذي تركته الثقافة السورية في حضارات العالم، حيث انشقت عنها جملة اللغات المكتوبة، مثل الآرامية والأكادية والبابلية والنبطية والتدمرية والفينيقية والعبرية، وسواها. والفارق الحاسم أنه، في أوغاريت تحديداً، جرى الانتقال من مرحلة الكتابة المقطعية إلى التدوين الأبجدي، وتلك كانت خطوة نوعية هائلة، حفظت للإنسانية نصوصاً ثمينة تروي حكايات عشتار وبعل وعنات…
الصياد، في فيلم ‘جاك هنتر وكنز أوغاريت الضائع’، للمخرج الأمريكي تيري كننغهام (إنتاج 2008)، يبدأ بسرقة اللوح من متحف باريسي ذي حراسة مشدّدة، ويعود به إلى أمريكا ليسلّمه إلى أستاذه، الذي ينوي السفر إلى سورية على رأس بعثة أركيولوجية، وكان يحتاج إلى اللوح للعثور على كنز ضائع في جبال ‘البشري’، في قلب البادية السورية، بين تدمر ودير الزور. المافيا الروسية كانت تشتغل على المخطط ذاته، فيُقتل الأستاذ في مكتبه، ويُسرق اللوح، ويقرّر جاك الصياد الذهاب بنفسه إلى سورية، تحقيقاً لحلم أستاذه، وثأراً من قاتليه.
الحبكة الاستشراقية التالية، إذْ أنّ هذه الأولى لا تثير إلا التشويق البوليسي، تذهب إلى تلك المباهج الأخرى التي تخصّ صورة الشرق كما يهوى ابن الغرب استعادتها: الشرق الثقافي والتاريخي والديني والمذهبي، فضلاً عن الجنس وفحولة الغربيّ بالطبع. وهكذا، يتضح أنّ فرقة ‘الحشاشين’، وهي التسمية الأوروبية (يُظنّ أنّ ماركو بولو هو الذي أطلقها) لطائفة إسماعيلية نزارية نشطت بين القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر، هي التي تخفي كنز أوغاريت، فنفهم أنّ أهل أوغاريت الأصليين كانوا من الحشاشين. وهؤلاء يحتكرون الكنز لأنه، كما سيكتشف جاك الصياد، يحتوي على سلاح دمار شامل فتاك يُدعى ‘نجمة أوغاريت’، على شكل صولجان أشبه بمدفع نووي، يحفظونه لمعركة الثأر الفاصلة ضدّ الفراعنة، الذين غزوا أوغاريت ودمّروا حضارتها.
وإذْ يُبقي الفيلم السؤال معلقاً حول مصير اللوح والكنز والسلاح، بعد تدمير كهوف الحشاشين في جبال ‘البشري’ وظهور جاك الصياد والمافيا الروسية في مصر، وقبلها تركيا، فإنّ مقدار السخف في تمثيل الآخر والتجاسر على تحقير حقائق التاريخ، لا تُبقي لسائل أن يسأل أو يتساءل! لوح أوغاريت الأصلي هو رقيم فخاري صغير لا يتجاوز طوله إصبع اليد (5,1 سم، وعرض 1,3)، لكنه في الفيلم نصف متر على الأقلّ. والحياة في أوغاريت توقفت، قرابة العام 1185 ق. م.، بعد تدمير المدينة على يد ‘شعوب البحر’ التي هاجمت الساحل السوري الكنعاني بأسره، ولا علاقة للفراعنة بالأمر. وأمّا زجّ ‘الحشاشين’ في الحبكة، فإنه التوابل الضرورية لكي تقترن الحركات الإسلامية بما هبّ ودبّ في تسليات أهل الغرب.
وتبقى، بالطبع، تلك المشاهد التي تضطرّ المرء إلى أن يفرك عينيه ألف مرّة، قبل أن يسلّم بأنّ هذه هي سورية المعاصرة؛ ولا بدّ أنّ كبار ضباط أمن النظام، من أمثال آصف شوكت وعلي مملوك وديب زيتون وحافظ مخلوف، سيقعون في حيص بيص وهم يشاهدون المافيات تتحارب بالمسدسات والرشاشات والديناميت، في وضح النهار، في قلب سوق الحميدية، وأسفل قلعة الحصن، وعلى طريق حمص ـ تدمر. أين القبضة الفولاذية، للأمن المستتب؟ أين الدوريات والحواجز، الثابتة منها والراجلة والطيّارة؟ وأين العناصر، والعسس، وكتّاب التقارير؟ بل كيف يمكن للمواطنة السورية ناديا رمضان، الموظفة في وزارة السياحة والآثار، أن تقع في غرام جاك الصياد، وتتعاون معه، دون علم السلطات المختصة؟ وكيف أمكن للمواطن السوري علي، الموظف الكبير في متحف دمشق، أن يكون الزعيم السرّي لفرقة الحشاشين، والقيّم على كهوفهم وكنوزهم وسلاحهم الفتاك، دون أن يفتضح أمره لدى الأجهزة الأمنية اليقظة؟
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى