غوايةُ اليوْميَات
محمد بنيـس
تأسرني قراءة اليوْميات. فن قديم وحديث في آن. يتقاسمه كتاب وفنانون وسياسيون وشخصيات من حقول العلم والمال والصناعة والسلطة. فن يكثر ممارسوه، دون أن يحتاجوا لانتماء إلى مجال الكتابة والثقافة. وهو، رغم ذلك، يختط لنفسه حدوداً لا يكاد فن آخر يعتدي عليها.
ما يحثني على قراءة اليوميات هو قوة الملاحظة. في صفحة أو صفحتين على الأكثر نقرأ عن شيء ما تم في ظرف زمني وجيز يعلن عنه الكاتب. لا يحتاج المؤلف لاستعمال تقنيات التفاصيل، ولا لاستمالة القارئ بالإكثار من المعلومات والأوصاف. فن اليوميات يعطي لذة قراءة (وكتابة) سطر واحد في بعض الأحيان. ولا تطلب من صاحب اليوميات شيئاً آخر. وفي حالات أخرى يتناول المؤلف شيئاً يبدو لنا تافهاً، ولا نفطن لأهميته إلا بعد مرور فترة طويلة على قراءته.
هي كتابة تسجل وقائع يومية. تاريخ اليوم. المكان. الساعة. الطقس إن اقتضى الأمر ذلك. ولا شك أن يوميات السياسيين والعسكريين، أو يوميات نجوم السنيما والغناء، تخلق، في بعض الحالات، اهتماماً أوسع لدى القراء، حتى ولو كانت اليوميات أقل انتشاراً من المذكرات. ذكر أسماء. أمكنة. حالات نفسية. أوضاع إنسانية. أسرار. وكنت، منذ سنوات، ألاحظ بفضول عدداً كبيراً من الشبان الغربيين خلال العطل والأسفار يحملون أقلاماً ويكتبون في دفاتر صغيرة. يمكن لك أن تشاهد عدداً من هؤلاء الشبان في يوم واحد، في محطة قطار، في حديقة، في مدخل متحف، في مقهى. الأماكن كلها مفتوحة لممارسة كتابة يوميات عن السفر. هؤلاء يكتبون في سفرهم مثلما يكتبون يومياتهم في البيت بشكل عادي جداً. عمّ يكتبون؟ أقول في نفسي. وأي يوميات من بين هذه ستتحول إلى كتاب ينتشر بين القراء؟
أنظر إليهم وهم يركزون في كتابتهم. تحس أنهم هادئون، متفرغون، منتبهون لما يكتبون. لا أعرف هل هي يوميات يحتفظ بها كاتبوها أم مجرد وثيقة ينتهي مفعولها مع الأيام. لكنها بالتأكيد قطعة من نفوس أصحابها. فهي تبدأ بالبوح وتختتم بالبوح. البوح من الذات إلى الذات أولاً. فما جاءت اليوميات إلا لتسجل ما يثير الانتباه أو ما يستحق ألا ينسى.
وكثيراً ما فكرت في جيلي، الذي لم يكن يعلم شيئاً عن ممارسة كتابة اليوميات في حياته الشخصية أو الثقافية أو العملية. لأن فن اليوميات يعود لمجتمعات الكتابة والتدوين. وأتأسف لذلك، لأن اليوميات تسجل لنا ما لا يستطيع المؤرخ أو عالم الاجتماع أو المحلل النفسي الوصول إليه. أتخيل شاباً عربياً مراهقا يكتب يوميات عن تحولات جسده. أو طبيبة مولدة، في بلد عربي، تدون ملاحظاتها وأحاسيسها وانطباعاتها عن أهم ردود فعل الأزواج بعد أن تلد نساؤهم، عن فرحهم، عن غضبهم، عن تعنيفهم لزوجاتهم، عن مغادرة المستشفى من غير تكليمهن. لكني أتخيل أيضاً فدائياً فلسطينياً يعتني هو الآخر بتدوين نظرته الشخصية إلى الاستشهاد. نماذج تتسع ولا يحدها عد أو شرط.
أتخيل هؤلاء (وغيرهم) لأننا سنغتني بمعرفة واقعنا بطريقة أفضل عندما اليوميات تنتشر في حياتنا. وإذا كان اليوميات توحي بأنها فن الكتابة العفوية، فذاك لا يتحقق إلا في مجتمع الحرية الفردية، وحرية التعبير الفردي. إن البوح من الذات إلى الذات يظل بوحاً محاصراً في مجتمع لا يحترم الفرد في نوازعه وآرائه، التي تتعارض مع المجتمعي أو مع السائد من القيم. لا يعني ذلك أن كل يوميات هي بالضرورة كتابة عن الممنوع في المجتمع. لا. أبدا.
ثم إن الكتابة، من ناحية أخرى، لا تأتي إلا من القراءة. وهذا أصعب ما يمكن أن نطالب به مجتمعنا العربي، اليوم. فكيف يمكن لأفراد أن يقبلوا على كتابة اليوميات وهم لا يعتنون بالقراءة. لا روايات، لا شعر، ولا كتب فلسفة أو تاريخ. بل حتى الصحف لا تعنيهم. وهم مع ذلك يظنون أن حياتهم من صلب حياة زمنهم، ما داموا حصلوا على هاتف نقال، وفي البيت يتوفرون على تلفزة. سحر العالم بين أيديهم. حرية الاتصال، في كل لحظة، والتعبير بحرية. مشاهدة البرامج الترفيهية أو الأشرطة السينمائية على شاشة التلفزة، التي تعفيه من البحث عمن يبوح لنفسه أو لغيره بما عاشه في أيامه. وما ذا تريد أكثر؟ وما هذا الذي تتكلم عنه، في النهاية؟
منطق كهذا منتصر، حقاً. مع ذلك فإن قراءة اليوميات تأسرني. الكاتب مثل غيره. يتوفر على هاتف نقال وعلى تلفزة في البيت. لكن هناك ما هو أهم. هذا الاقتراب من الآخر في شيء ينفرد به. من خلال حياة يومية، تسمح لي بأن أتقاسم وإياه ما لم يكن لي أن أعيشه على هذا النحو بالذات. يوميات سفر. أليست فكرة جميلة؟ أن تكتب عن كل ما تشاهده أو تسمعه أول مرة، مثلا. أو ما تستحسنه (أو تستهجنه) لدى الآخر الذي تزوره. ما المانع من ذلك؟
أحياناً أحس بمتعة خالصة وأنا أقرأ عن يوميات سفر فنان رسّام، كما هي الحال مع يوميات سفر الرسام دو لا كروا إلى المغرب. في هذه اليوميات أتعرف على ما لم ترصده لي كتب التاريخ. كيف ينظر رسام أجنبي إلى معمار بلدي؟ أو كيف يتفاعل مع ضوء الشمس أو الألوان في الطبيعة والألبسة؟ لكن أتمنى أن أقرأ أيضاً يوميات رسام عربي يزور بلداً أجنبياً، وليكن اليابان. بلد لا يزال العالم العربي يجهله. فنحن متشبثون بالصورة التي انتقلت إلينا من مرحلة الاستعمار عن أنفسنا وعن العالم. عندما سنقرأ يوميات رسام عربي عن اليابان يمكن أن نرى إلى أي حد نستطيع أن نلمس عن قرب تبدل النظرة من رواية أو دراسة إلى ملاحظات يتتبع فيها الفنان ما يراه وما يسمعه، أو إلى آراء في السياسة والدين والثقافة. أليس هذا فرحاً ببوْح لم نكتشفه بعد؟
القدس العربي