تساؤلات حول القارئ: طاغية الأدب الحديث
روزا ياسين
بعد أن توفيت بالسرطان سنة 1977 في لوس انجلوس ارتفعت مبيعات كتب “أناييس نن” في أميركا وبريطانيا بشكل مذهل وخلال شهور. وعلى الرغم من أنها كانت كاتبة متواضعة الشهرة والوزن في الثقافة الأميركية عموماً إلا أنها خلّفت حوالي عشر مجلدات من اليوميات كانت هي الأهم في نتاجها الإبداعي، وقد ترجمت هذه اليوميات إلى لغات عالمية عديدة. وربما كانت أهميتها تكمن في كونها بانوراما غنية لأحداث القرن العشرين الثقافية والسياسية، خصوصاً وأن الكاتبة ولدت مع مطلع القرن في العام 1903.
في مذكراتها المكتوبة بين العام 1940 و1941• تعترف “أناييس نن”، وهي ذات جذور إسبانية وثقافة فرنسية، بأن صديقها المقرب الروائي “هنري ميللر” هو الذي عرفها على جامع الكتب، أو مقتني الكتب، حيث كان ميللر يكتب له النصوص الإيروتيكية، أو كما أسمتها: قصصاً مثيرة للشهوة الجنسية، بمقابل مائة دولار شهرياً. وعلى الرغم من قناعتها، كما قناعة ميللر أيضاً، بأن الكتابة بحسب الطلب هي وظيفة مخصية، لأن الكتابة وثمة من يختلس عليك النظر من ثقب الباب كفيل بأن يجرد مغامراتك الخيالية من كل عفويتها ومتعتها، فإن ازدياد طلب جامع الكتب لمثل هذه النصوص والفقر المدقع الذي عانت منه أناييس وأصدقاؤها المبدعون من أمثال: “كاريسا كروسبي”، “جورج باركر”، “هارفي بريت”، و”روبرت دنكان” وغيرهم جعلهم، هم المحتاجون إلى الدولارات المدفوعة لقاء الكتابة، يكتبون ويكتبون تلك النصوص الإيروتيكية بمقابل دولار واحد على الصفحة الحارة.
على الرغم من اعترافها الصريح والواضح بفبركة هذه الأعمال فقد باعت كتب “أناييس نن” بغزارة وخصوصاً في العالم الثالث، كما بيعت كتب “هنري ميللر” الإيروتيكية قبلها. ولا أعتقد أن مجرد تفسيرنا للأمر بأنه نوع من الذوق الفاسد الذي زحف على الآلاف من البشر، أو أنها لوثة القراءة السريعة بحثاً عن المغامرات، أو عدم الرغبة بالاطلاع على الفنون والمعارف العميقة التي سوف يجنيها القراء لو قرؤوا كما تجب القراءة، وما إلى ذلك من التفسيرات ستفي بالغرض، لأن أمر نجاح الكتب، خصوصاً في الغرب، لم يعد مقتصراً على هذا النوع من الكتب (الحارة) بل أضحى الأمر بحاجة إلى إعمال أكبر للتفكير في السبب أو الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه النجاحات المتوالية والمنقطعة النظير لبعض الكتب!!
فإذا كان القارئ قد أصبح، ضمن موجات النقد الجديدة وعلى حد تعبير ياوس (الناقد الألماني المعروف وأحد أبرز منظري التلقي)، الحكم الفاصل في التاريخ الحديث للأدب، على هذا ينبغي أن نبحث في دواخل القارئ، أو القراء المتباينين والمختلفين، الذي جعل مبيعات سلسلة كسلسلة هاري بوتر، مثلاً، تبلغ ملايين النسخ، ومجموعة صغيرة كالمجموعة الأولى للفرنسية الشابة “أنا غفالدا” تبيع بمئات الآلاف في سنة واحدة وعلى الأراضي الفرنسية وحدها!! كما ينبغي أن نتساءل ما الذي حرك القارئ العربي وجعلته يطلق حكمه الإيجابي الفاصل في كتب كرواية بنات الرياض لرجاء الصانع مثلاً أو رواية عمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني، دون أن نتغافل عن تواضع تلك النصوص إبداعياً وعن خسارتها (الفنية) إذا ما قورنت بأعمال عالية الأدبية، من حيث التقنيات والأفكار والطروحات والجدة وما إلى ذلك، صدرت معها في الرقعة العربية ذاتها وفي زمن متقارب. هل يكمن الأمر في مداعبة العقدة الشرقية أو الجانب الجنسي المثير لدى القارئ العربي؟! مع التنويه بأني لست ضد ذلك، أم أن الأمر أبعد غوراً من كل هذا؟. وإذا كان التفسير مقتصراً في قدرة الكاتب على كتابة ما يحبه القارئ، وليس إلا ما يحبه، فتلك، والحق يقال، ملكة يعتد بها ولا شك، أن تكون الكتابة دمية قماشية مربوطة بأصابع خفية لقارئ مفترض وخفي أيضاً!!. ويبقى الأمر بالنسبة لي، وحتى اليوم، في باب التساؤل فحسب.
بالعودة إلى يوميات “أناييس نن” فقد كتبت بأن جامع الكتب كان يطلب منهم أن يركزوا على الانغماس في الشهوات الحسية في النصوص ويبتعدوا عن الشعر، كما أسمى التعبيرات اللغوية الرومانسية، فالذي أراده من كتاب (الصفحة بدولار) أن يستثنوا الميزة الخاصة المثيرة للشهوة الجنسية الحقيقة وهي الشعر، حتى أنه جعلهم يوماً بعد يوم في كتابة الإيروتيكا المبتذلة يتحولون إلى العفة، حسب اعتراف نن.
وفي كانون الأول من العام 1941 بعثت إليه أناييس رسالة طريفة تقول فيها: (عزيزي جامع الكتب: نحن نبغضك. الجنس يفقد كل قوته وسحره حين يصبح صريحاً، ميكانيكياً، مبالغاً به. حين يصبح هاجساً ميكانيكياً. يغدو مصدر إزعاج. علمتنا أكثر من أي شخص آخر عرفته كم هو شيء خاطئ أن لا نمزجه بالعاطفة، الجوع، الرغبة، الشبق، الأهواء، النزوات، الصلات الشخصية، مع علاقات أعمق تغير لونه، نكهته، إيقاعاته، قوته). ثم تقول في آخر تلك الرسالة: (وحدها النبضة المتحدة للجنس والقلب معاً التي تستطيع أن تخلق النشوة).
هل يمكنني استعارة هذا للحديث عن الكتابة: وحدها النبضة المتحدة للروح والفكر معاً تستطيع أن تخلق نشوة الكتابة؟! وهل دخلنا عصراً جديداً صرنا فيه أمام طاغية من نوع مختلف؟!، طاغية يدعى القارئ علينا خلق آليات لمحاربة طغيانه، أو أننا سنخضع لمزاجه وآرائه وشهواته لنصل إلى كتابة نصوص مخصية، على حد قول أناييس نن.
موقع الآوان