“سـمك، لبـن، تمـر هنـدي”
يوسف عبد لكي
أحب في البداية، بصدق، أن أشكر الأستاذ علي العائد على رده («السفير» 11/2/2009) على مقالي حول الحروفية والفنان خالد الساعي («السفير» 6/2/2009): ولا يقلل البتة من هذا الشكر الكم الكبير ملاحظاتي على رده، التي سأوردها هنا بالطبع، ذلك أن فتح حوار حول أي مسألة فنية أو تجربة أي فنان مهما تواضعت هو بنظري أهم من المئات من قصاصات المديح، والآلاف من أطنان الصمت المجبول أحياناً بالتعالي وأغلب الأحيان بالازدراء.
ـ2ـ
لا أبالغ إذا قلت إن هناك عشرات النقاط التي تحتاج للتدقيق أو النقض في الرد، ذلك أن المرء يجد، دون مبالغة، في كل جملة نقطةً من تلك النقاط. فالرد برمته ينطوي على مقدرة كبيرة على إيراد المغالطات، والغوص في سوء الفهم وقصوره. وعلى الرغم من ترحيبي الوارد آنفاً فأنا أسأل: أما كان بإمكان الأستاذ علي أن يدقق قليلاً في مفاهيمه ولغته قبل كتابة الرد ما دام الموضوع لا يدخل في اختصاصه؟ وأرجو أن أكون مخطئاً إذا قلت إن الرد لا يحمل أية معارف يُعتدُّ بها، وجُلُّ ما فيه شخصي منافحةً أو مناكفةً، غير أنه يمنحني الفرصة مجدداً لتوضيح بعض المفاهيم، ومن هنا أهميته الوحيدة بالنسبة لي.
ـ3ـ
أولى المغالطات هي، كما هو واضح من العنوان، دفاعه عن التعددية الثقافية، واتهامه لي برغبة العودة إلى اللون الواحد! لا أعرف في الحقيقة إن كان الأستاذ علي يردّ على مقالي أم على مقال آخر! فلا يوجد على الإطلاق ـ وأؤكد على الإطلاق ـ أي شيء يشي بصحة اتهام كهذا. بل على العكس، فنصي ضد سيادة لون وتهميش بقية الأطياف، ومع فتح الباب لكل الاتجاهات والتيارات التشكيلية، والابتعاد عن الثياب الموحدة في الثقافة بوجهيها البعثي والوهابي وغيرهما. النص في أحد وجوهه احتجاج على اللون الحروفي الواحد الذي ساد في السبعينيات وسنوات الثمانينيات، والذي
شكّل «إرهاباً فكرياً وسماجةً إعلاميةً»، وجاء في المقال أنه بعد الثمانينيات «عاد شيء من التوازن إلى الحياة التشكيلية العربية، وأصبحت حظوظ كل التيارات في الوجود والحوار والاختبار أكثر توازناً»، فهل هذه دعوة للون الواحد، أم احتفاء بالتعددية؟
ـ4ـ
يذكر الأستاذ العائد أن من بين كل الأسماء التي ذكرتها في مقالي لم يطّلع إلا على أعمال اسمين هما الفنانين ضياء العزاوي، ونجا المهداوي. أي إنه لا يعرف الفنان السوري محمود حمّاد، ولا السوداني أحمد شبرين، ولا العراقي شاكر حسن آل سعيد، ولا المصري حامد عبد الله! كما لا يعرف أسماء العراقي حسن المسعودي، ولا الجزائري رشيد القريشي!! والأخيرين من المعروفين في التيار الحروفي، والأربعة الأوائل من رواد الفن في بلادهم وفي البلاد العربية ومن أعلام الحروفيّة. كيف يمكن فهم هذا! كاتب يرد على مقال في موضوع محدد، وهو لا يعرف أعلامه وإنتاجهم! كأنك تريد أن تحاجج بالفقه وأنت لم تقرأ ولم تسمع بالإمام أنس بن مالك، ولا الشافعي، ولا بابن حنبل، ولا ابن تيمية، ولا الشاطبي، ولا الإمام الغزالي!!! في ماذا تريدنا إذاً أن نتحاور؟! ثم دعني أسألك: إن لم تكن تعرف كل هؤلاء الفنانين وعلى الرغم من ذلك يحلو لك أن تدلي بدلوك، أما كان بالإمكان أن تبذل قليلاً من الجهد وتبحث عنهم وعن نتاجهم في الكتب ومواقع الإنترنت؟ إن الاعتراف بالجهل فضيلة يا أستاذ علي. ولكن الجهل نفسه ليس فضيلة أبداً.
يأتي في الرد وفي الفقرة نفسها: «ولا يعني أن فناناً ما يضع حرفاً في مكونات لوحته أنه حروفي، فمثل هذه الحروفية تقف على هامش التشكيل» فهمٌ يؤكد ما ذهبت إليه من ضعف معارف صاحب الرد، فالصحيح هو العكس، إذ إن كل فنان يدخل حرفاً في بناء لوحته هو فنان حروفي، لأن الحرف من بنية مختلفة عن العناصر التشخيصية أو العناصر التجريدية وهو بدخوله عليها يعطيها شيئاً من خصوصيته كنسق بصري مفارق، واللوحة الحروفية هي لوحة حروفية سواءً احتشدت فيها آلاف الأحرف مثلما يفعل أحمد مصطفى وغنوم المهداوي، أو إن اقتصرت على عدة أحرف كما يفعل العزاوي أو عبد الله.
أما مسألة كون تلك «الحروف تقف على هامش التشكيل»، فمن المعروف أن كل لوحة (أو مجسم) ترسم أو تلوّن أو تكوّن شكلاً على مسطح أو في الفراغ هي فن تشكيلي، واللوحة الحروفية هي بالضرورة فن تشكيلي، فالحروفية أحد تيارات التشكيل، مثل الانطباعية والدادائية والبوب آرت، وليست فصيلة مختلفة! ومثلما العزف المنفرد أو المقطوعات الرباعية هي بالضرورة موسيقى ولا يمكن أن تكون على «هامش» الموسيقى، كذلك الحروفية فن تشكيلي،
ولا يمكن أن تكون على «هامش» التشكيل. التشكيل نوع وليس تياراً أو مدرسة. الأمر كله يدعوني لدعوة الأستاذ علي للعودة إلى مقاعد الدرس؛ أرجوك افعلها إن لم يكن لفائدة القراء فلنفسك يا رجل. فهذه أبجديات.
تقول أيضاً وفي فقرة أخرى «لا أعرف ما الذي تعنيه بالتدفق العاطفي أو التقشف الصوفي»؟ هنا ما الذي يمكنني أن أقدمه لك.. بالله عليك؟ درساً باللغة العربية وشرحاً للمفردات؟ أم أن أهديك قاموس لسان العرب أو محيط المحيط؟
ـ5ـ
يتهم الرد مقالي بأنه يطبِّق على الفنان الساعي مقاييس بصِّرية «واقعية» بينما الساعي هو أقرب إلى التجريد! من البداهة مناقشة كل عمل فني من منطقه نفسه، وخلاف ذلك تعسف لا لزوم له، ولا يحتاج لتنويه. ومناقشتي لأعمال الساعي هي بالضبط مناقشة لسويتها الإبداعية والغرافيكية من خلال منطقها نفسه، ووفق مرجعيات الحروفية نفسها وتاريخها، وليس بالرجوع إلى أية مقاييس واقعية. وعندما أقدر في نصي تقديراً عالياً أعمال حروفيين كبار أمثال شبرين وحماد وآل سعيد وعبد الله والعزاوي، فذلك ليس لأنهم «واقعيون»
أو لأني أطبق عليهم مقاييس «واقعية». بل أقدرهم لأن عملهم الفني يختزن الكثير من الخصوصية وروح الابتكار والخيال والشطح، وربما بالضبط هذا ما ينقص عمل الساعي؛ أي النأي بعمله عن الاستعراض والمهارة المحفوظة، والدخول في الخيال والشطح ومسألة النفس.
ـ6ـ
يدفعني للاعتقاد أن الأستاذ علي لم يقرأ نصي؛ امتداحه لتجربة الساعي أنها تلقى التكريم من المؤسسات الأميركية والأوروبية قبل الخليجية، فهذا ما أخذته بالضبط ليس على الحروفيين بل على الكثير من المؤسسات الغربية في أوروبا وأميركا لاهتمامها بالحروفية من منطق استشراقي، حيث إن الكثير من تلك المؤسسات لا تعتبر في العمق أن في البلاد العربية فناً معاصراً يقف إلى جانب الفنون الغربية «المتقدمة». وإنما تضعه في مرتبة أوطأ، وتعبّر عن ذلك بإهمال الفنون التشكيلية العربية الحديثة والمعاصرة عامةً وفنون العالم الثالث، ومن هذا الباب الاستعلائي يأتي الالتفات للتيار الحروفي وبعض رموزه، وهذا توجه كبير في الغرب وليس مقتصراً على الفن التشكيلي، بل يطال جوانب أخرى ثقافية وفكرية وفنية. والحقيقة لا شيء يجب أن يسعد الفنان العربي الجاد المعاصر اليوم عندما يضعه أوروبي في قفص الفلكلور والغرابة، ويتفرج على طرافات إنتاجه كما يتفرج على قرد يأكل موزاً. فلا يفرحنّك كثيراً يا أستاذ علي أن ينال الساعي اهتماماً، ويمُنح جوائز في الغرب «بمعدل جائزة كل عام».
ستقول لي هل كل الغرب هو كذلك؟ بالطبع لا، فهناك تنوع على خلاف بلادنا التي يسودها الاستبداد السياسي والثقافي. هناك في الغرب نظر مختلف إلى كل شيء سياسةً وأحزاباً ونقابات ومفكرين ومبدعين، ومن ذلك تقييم وتذوق النتاج الفني العربي والعالم ثالثي، غير أن ذلك لا يخلخل صحة القول بأن النغمة السائدة هناك هي نغمة الاعتزاز بالمركز الأوروبي وما يبطنه من حنين كولونيالي وإهمال ما بقي باستشراقية معاصرة لا تخفى على عين.
ـ7ـ
يرد في الرد إنني غرافيكي ورسام كاريكاتير، وهذا هو «مجالي» فما الذي دفعني للكتابة؟
البشر ليسوا كائنات بسيطة وحيدات الخلية، وإلا لما مارس كل إنسان عشرات الفعاليات والاستجابات في حياته، والفنانون جزء من هذا الكيان المعقد البديع التنوع، ومعروفٌ أن نحاتاً عملاقاً مثل مايكل أنج كان معمارياً ومصوّراً وشاعراً وله ديوان مطبوع. وأن بيكاسو كان مصوّراً ورسّاماً ونحّاتاً وحفّاراً وخزّافاً ومصمم ملصقات وأغلفة وشاعراً وله ثلاث مسرحيات قصيرة مطبوعة، وأن محمود درويش كان شاعراً وصحافياً وناثراً ورئيس تحرير مجلة فصلية وعضواً في المجلس الوطني الفلسطيني، فلماذا تستغرب يا أستاذ علي كتابتي! ولماذا تعتقد أن للفنانين «اتيكيتات» ملصوقة على جباههم والويل لهم إن خالفوها وخرجوا من «مجالهم«! هل عليّ إذا كتبت أو صممت غلافاً أو لونت قطعة خزف أن آخذ إذناً من نقابة الفنون الجميلة أو من مجلس الأمن الدولي أو منك؟ وأظنك لا تعرف أني أكتب منذ نهاية الستينيات في الصحف السورية واللبنانية ولو أتاح لك سنك أن تقرأ بعض مقالاتي عن الفنانين السوريين في السبعينيات لزال استغرابك أولاً، ولوجدت ثانياً كم كنت حنوناً ودوداً وشفوقاً رحيماً بعمل الفنان الساعي في مقالتي عنه. وإذا كنت مقلاً في سنوات غيابي الطويل عن بلدي، فأنا اليوم ـ وقد عدت ـ لن أتأخر عن الكتابة عندما تستدعي الضرورة ويمكَّني الوقت، فليس في الأمر لا بالأمس ولا اليوم عزلة ولا صمت ولا استهداف لشخص بعينه إنما هو ممارسة قديمة مستمرة ومتقطعة لا يحكمها إلا قراري.
ـ8ـ
ينقل الأستاذ علي الحوار من مناقشة الحروفية وعمل الفنان الساعي إلى منطقة أخرى مؤسفة لا علاقة لها بالموضوع البتة، ففي رده على نقدي للوحات الفنان الساعي، يذهب إلى الانتقاص من قيمة لوحاتي! يذكّرني ذلك بنكتة أيام الحرب الباردة سمعتها من أحد الأصدقاء مؤخراً تقول: تنافس أميركي وروسي على أي من بلديهما هو الأفضل في المواصلات وعمل القطارات، فقال الأميركي للروسي: القطارات عندكم لا تعمل بانتظام ولا تحترم المواعيد، فيجيبه الروسي محتّداً: وأنتم عندكم تمييز عنصري.
ما علاقة نقدي للحروفية ولوحات الساعي بعملي! تعرف دون شك أن كل نقاد الرواية ليسوا روائيين، وربما لم يكتبوا سطراً روائياً واحداً في كل حياتهم، وعلى الرغم من ذلك فحقهم في البحث والمناقشة والنقد الروائي حق لا يمكن لأي كان أن ينتقصه. وأفترض أن لوحاتي هي أسوأ لوحات تُرسم في العالم، فهل هذا يشفع للوحات الساعي البسيطة والاستعراضية؟ العقل يا أستاذ.. العقل..
رغم ذلك دعني أناقش ما قلته، تقول «لا أعتقد أن الذهاب في الغرافيك واسكتشات الفحم لأسماك وأحذية هي ما يستحق المديح». أولاً: ما أرسمه ليس اسكتشات.. واسمح لي ألا أعود للأبجديات مجدداً وأترك لك بذل قليل من الجهد لمعرفة الفرق بين اللوحة والاسكتش.
ثانياً: نعم الأحذية والأسماك والأبقار والضفادع والعظام والجماجم والعلب الفارغة هي ما يستحق المديح.. إذا كانت فناً، أما إذا لم تكن كذلك فلا تستحق لا مديحاً ولا شكوراً مهما كانت موضوعاتها «سامية». فالفن يأخذ قيمته ليس من موضوعه بل من رقي لغته وخصوصيتها وجدتها وشحنتها، وإلا لماذا تتهافت متاحف العالم على لوحات موراندي وبيكون والأول لا يرسم إلا زجاجات فارغة والآخر رسم في كثير من لوحاته أشخاصاً في بيوت الخلاء. وقبلهما تخاطفت المتاحف مبولة وعلاقة زجاجات لمارسيل دوشامب أو زوجاً من الأحذية لفان كوغ. وهل تعتقد أن الموناليزا لوحة هامة لأن موضوعها
هو وجه امرأة! هناك ملايين البورتريهات لنساء ورجال في تاريخ الفن «فاشمعنى» هذه! هل الموضوع هو الفيصل؟ إنه لغة اللوحة. كل فن هو خارج هذه التقييمات الأخلاقية… الأصولية.
أما حديثك عن أن «الترف اللوني يثير الغيرة» فهو أمر مؤسف حقاً، ليس لأنه هبوط بسويّة الحوار إلى درك شخصي لم أكن أحبه لك، بل لأنك لا تعرف أني أرسم وألوّن منذ عشرات السنين وقبل أن يعرض الفنان الساعي أية لوحة في حياته، ولعله السن مجدداً الذي لم يتح لك أن تزور معرضي في دمشق في صالة آرام عام 1993 ولا كذلك معرضي في دمشق أيضاً في صالة أتاسي عام 1995، والمعرضان ضمّا أعمالي الملونة بتقنية مختلطة قوامها ألوان الباستيل والكواش! وهي لعلمك تعتمد على تناقضات مشتقات الألوان المتعاكسة، وهو ما يستدرج مغامرات ومخاطرات في اللون أشد تعقيداً وصعوبة من تدرجات الألوان البسيطة التي تستسهل اتهامي بالغيرة منها. ثم يا رجل إن كان مثلي يغار فسيغار من كبار الملونين في تاريخ الفن أمثال رافائيل ومونيه وسيسلي وديغا وديران وماتيس وبيسيير وليفين، أو من كبار الملونين العرب أمثال يوسف كامل وأحمد صبري وفائق حسن وصليبا الدويهي؛ أما أن أغار من تجارب متواضعة وهي ما هي عليه من بساطة المفاهيم وبدائية التقنية، فذلك يحتاج إلى مِعدٍ فولاذية لهضمه. إن كنت تقول ذلك من باب المناكفة وإن كانت ثقيلة دم فذلك مقبول منك، بل أحبّ على نفسي من العسل، أما إن كنت تقوله من باب القناعة الحقيقية فليس لي إلا الصمت والترحم على روح العقل والتبصّر ذلك أن ربك «لا يكلف نفساً إلا وسعها».
(دمشق)
خاص – صفحات سورية –