صفحات الناس

التعذيب: قصص من الحاضر، وكثير من الماضي

null


د. سعيد الشهابي

منذ مطلع الشهر بدأ مجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة مراجعة سجل عدد من الدول في مجال حقوق الانسان، وتم اختيار ثلاث دول لذلك الغرض وهي البحرين وتونس وغواتيمالا. والهدف من تلك المراجعة تقييم مدي التزام الدول الاعضاء باحترام حقوق الانسان، ولا تمارس الاعتقال التعسفي مثلا او التعذيب او القتل خارج القانون. ولم تظهر بعد نتائج تلك التحريات. فما قصة التعذيب في تاريخ المسلمين وواقعهم؟ وهل ثمة أمل بتجريمه كممارسة واجراء روتيني في اغلب بلدانهم؟

حطيطنة الزيات كان عابدا زاهدا، يصدع بالحق في زمن الحجاج الاموي، ولكن لم تكن هويته وانتماؤه الديني معروفين لأحد، الامر الذي أغضب الحجاج، وقد دفع ثمن تمسكه بحرية رأيه وتفكيره، تعرض لاشد انواع التعذيب. وقرر الحجاج تصفيته. ولكن كيف قضي هذا العابد؟ كان للنظام السياسي آنذاك معذبون محترفون، غلاظ شداد، يطلق علي رئيسهم صاحب العذاب . وذات يوم قال صاحب العذاب واسمه مسعد للحجاج: ادفعه الي فو الله لأسمعنك صياحه . فبدأ وجبة من التعذيب في بداية الليل، وكان حطيطنة ساكتا لم يتنازل عن مواقفه، فكسر ساقه وبقي متألما طوال الليل. وفي الصباح دخل الحجاج علي مسعد فأخبره بما فعل. فقال الحجاج: علي به. وبدأ معه وجبة أخري من العذاب، فكان يغرز المسامير في جسده، حتي مات.

التعذيب من أبشع الممارسات البشرية، فهو جرم مع سبق الاصرار والعمد، ومهما قيل لتبريره، فانه يعبر عن تلاشي الشعور الانساني لدي من يمارسه. وبرغم التشريعات الدولية التي تحرمه، فما يزال يمارس علي نطاق واسع، حتي من قبل الدول التي وقعت معاهدة منع التعذيب. هذه المعاهدة أقرتها الجمعية العامة للامم المتحدة في 9 كانون الاول/ ديسمبر 1975، بهدف حماية جميع الاشخاص من التعريض للتعذيب والمعاملة الاخري القاسية وغير الانسانية والحاطة (بالقيمة الانسانية) . وقد وقع أغلب الدول هذه المعاهدة خلال العقول الثلاثة اللاحقة. ولكن التوقيع وحده لا يكفي، بل ان الجهات المعنية بحقوق الانسان التابعة للامم المتحدة تصر علي تصديق هذه المعاهدة، وغيرها من المعاهدات الدولية. والتصديق يعني تضمينها في القوانين والتشريعات المحلية، بحيث لا يكون هناك مجال لعدم الالتزام بها. هذا هو الامر المفترض، ولكن ما واقع الحال في الدول العربية اليوم؟

في الاسبوع الماضي قال مشرعون فلسطينيون يحققون في وفاة امام مسجد من حركة المقاومة الاسلامية (حماس) اثناء اعتقاله انه تعرض للتعذيب حتي الموت بيد قوات الامن الموالية للرئيس الفلسطيني محمود عباس. وقرر فريق تحقيق، ان أمجد البرغوثي قضي نحبه نتيجة التعذيب. وقال انه يتعين محاسبة رئيس جهاز المخابرات الذي تديره حركة فتح، توفيق الطيراوي.

وقال المشرع المستقل حسن خربشة العضو بلجنة التحقيق انه لاحظ اثار تعذيب علي ساقي وظهر وذراعي البرغوثي (45 عاما) وهو أب لتسعة ابناء احتجز لمدة اسبوع قبل وفاته. وقال ان شهودا ابلغوا اللجنة بأن البرغوثي تعرض للتعذيب بطريقة مجنونة. هذه الحادثة تعكس مدي ما يمكن ان يصل اليه الوضع داخل المعتقلات العربية من اعتداء علي كرامة الانسان، واستخفاف بروحه وحقوقه. والسؤال هنا: ما مدي ما يمكن ان يصل الانسان اليه حتي يصبح مستعدا لازهاق روح انسان آخر من اجل اهداف سياسية؟ فالتعذيب يفوق في بشاعته جريمة القتل التي قد تحدث بطلقة نارية تقتل الانسان في غضون ثوان معدودة. اما التعذيب فهو معاناة متواصلة قد تستمر اياما، وينجم عنها ألم متواصل وصراخ لا يتوقف، ومشاهد تدمي قلوب ذوي الضمائر. اما من يمارس التعذيب، فالواضح ان قلبه يموت، ومعه كل مشاعره الانسانية او احساسه بالذنب، او الخشية من طائلة القانون او العقاب الالهي. والاغرب من ذلك عندما يمارس التعذيب من ينتمي لدين الاسلام الذي يحرم علي الحاج الذي يرتدي الإحرام اثناء تأدية المناسك، قتل البعوضة او الذبابة، فضلا عن ايذاء النفس البشرية. وبالتالي فالذين يعملون ضمن أجهزة الامن العربية يتعرضون ليس لغسيل دماغ فحسب، بل لمسخ روحي وانساني كامل يسمح لهم بممارسة التعذيب علي نطاق واسع. ويبلغ الحس الاجرامي ذروته عندما يشعر المعذبون باللذة وهم يوقعون الأذي بالضحية السجين الذي لا يملك حولا ولا قوة.

التلذذ بممارسة التعذيب والقتل يحظي احيانا بتبرير ديني، يوفره المعذبون لانفسهم، خصوصا اذا كانوا في موقع يوفر لهم تلك القدرة. ويمكن اعتبار ذلك اجراما ليس بحق الضحية فحسب، بل بحق الاسلام ايضا، الذي يحرم ايذاء الآخرين او الحاق الضرر بهم، ما لم تثبت ادانتهم وفق قوانين وضوابط صعبة جدا. ففي الرياض بدأت هذا الاسبوع محاكمة اثنين من اعضاء الشرطة الدينية السعودية في ضوء مقتل عدد من الاشخاص. بدأت المحاكمة يوم الاثنين الماضي، ومثل فيها اثنان من اعضاء هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بشأن موت سلمان الحريصي (28 عاما) العام الماضي بينما كان معتقلا لدي الشرطة الدينية، وفق ما أفاد به شقيقه، علي. وتقول عائلته انه ضرب حتي الموت . واعتبر الضرب إحدي اكثر وسائل التعذيب شيوعا. وأمرت محكمة نقض باعادة المحاكمة بعدما برأت محكمة أدني درجة عضوي الهيئة. وبرأت محكمة أيضا العام الماضي الهيئة من المسؤولية عن موت رجل في بلدة تبوك الشمالية. وجاء رد الفعل ازاء الحوادث الأخيرة غاضبا من ليبراليين في وسائل الإعلام السعودية يريدون حل الهيئة او تقليص سلطاتها. وكتب المدون أحمد العمران بموقع سعودي جينز.اورغ اعتقد ان من أهم الامور التي تظهرها هذه القصص الاستخفاف الصارخ بالحياة الإنسانية والكرامة. واضاف لم يشهد اي من تلك الحوادث اعتراف الهيئة بارتكاب اي خطأ أو الاعتذار لعائلات من لقوا حتفهم. ان الاستخفاف بحياة الناس يتناقض مع تعليمات الاسلام وقيمه التي تحترم الانسان وتكرمه ولقد كرمنا بني آدم ، والتي تعتبر ان الانسان بريء حتي تثبت ادانته. فهذه الممارسات انما تكرس ظاهرة التنميط التي تهدف للنيل من الاسلام وقيمه، وتشجع ظاهرة الاسلاموفوبيا وغيرها من الاساءات والاعتداءات التي لا تتوقف. ان العقلية التي تبرر استغلال الموقع والمنصب لالحاق الاذي بالآخرين، تجعل صاحبها متجبرا ، وتلحق أكبر الضرر بالدين وسمعته، وتشوه قيم السماء السمحة، ورسالته الانسانية التي تعامل الانسان بالرأفة والرحمة.

التعذيب شر مطلق، لا يقتصر علي ما يتضمنه من اذي جسدي يوجه للضحية، بل يمكن اعتبار الاعتقال التعسفي، بدون مبرر منطقي او أمر قضائي عادل، أحد أشكال التعذيب. فهو سلب لحرية الانسان التي منحه الله اياها وجعلها حقا من حقوقه. والاعتقال اذا أسيء استخدامه واستعمل لاهداف سياسية يكون ظلما مجحفا لا تقل بشاعته عن بشاعة التعذيب. فالاعتقال انما يكون لجرم واضح، ولفترة محددة، وفق القانون. فمثلا الاعتقالات التي تحدث في مصر منذ شهور، ماذا تعني؟ وما هو الجرم الذي ارتكبه المعتقلون؟ وطبقا لأي قانون تتم هذه الاعتقالات الجماعية؟ جاءت الاعتقالات الاخيرة بهدف منع جماعة الاخوان المسلمين التي تأسست منذ ثمانين عاما، من الترشح لانتخابات المجالس المحلية (البلدية). فالذنب الذي يعتقل هؤلاء به انهم يريدون ممارسة حقهم الطبيعي وفق القانون، برغم عدم انسجام هذا القانون مع المعايير الدولية. وقد بلغ عدد الذين اعتقلوا من الاخوان في الشهور الاخيرة اكثر من 850 شخصا، وأمرت النيابة العامة بحبس 190 منهم لمدة 15 يوما قابلة للتجديد، بينما تتواصل الاعتقالات بدون توقف. وقد خرجت الاسبوع الماضي مسيرات كبيرة في عدد من المناطق مطالبة بالسماح للاخوان المسلمين بالمشاركة الانتخابية، ولكن الحكم الذي يتربع علي عرشه الرئيس حسني مبارك منذ اكثر من ربع قرن، يرفض فتح المجال لهم، وهو امر مناقض لأبسط قيم المجتمع المدني. ويلاحظ مدي الحماس الغربي للتغيير في زيمبابوي، للتخلص من الرئيس موغابي. فبرغم سلبياته وجنوحه نحو الاستبداد والحكم الفردي، فقد سمح لمعارضيه بالترشح والفوز في العملية الانتخابية. اما في مصر فيعتقل الاخوان، ليس لسبب امني او جنائي، ولا لسبب يتعلق برغبتهم في منافسة الرئيس في منصبه، بل لرغبتهم في خوض انتخابات المجالس المحلية التي ليس لها قيمة سياسية كبيرة. هذه المفارقة في المواقف الغربية تكرس الانطباع بازدواجية المواقف ازاء العالمين العربي والاسلامي، والاصرار الغربي علي دعم النخب التي تساير الغرب علي حساب مصالح شعوبها وحريتها وحقوقها وسيادتها.

التعذيب له اهداف عديدة، لعل اهمها الرغبة في كسر ارادة السجين. والارادة هنا مرتبطة بالقيمة الانسانية، فالانسان هو الذي يمتلك الارادة، فيقرر لنفسه ما يشاء بناء علي ممارسة عقلية وحساب منطقي. اما الحيوان فلا يمتلك الارادة التي تأمره او تمنعه. وبهذا فهدف المعذب تحويل السجين الي حيوان بلا حول او قوة، وعندها يستطيع الحصول علي ما يريده من معلومات، ان وجدت لدي المعتقل، او اجباره علي الاعتراف بما ليس لديه، وتوقيع افادة بذلك. هذه الممارسة جديدة ـ قديمة، مارسها المحققون الامريكيون حتي اللحظة في سجن غوانتنامو، كما مارسوها في سجن أبي غريب، وتمارسها الحكومات الأقل شأنا. فقد أفادت، مثلا زوجة المواطن البحراني، حسن عبد النبي، أحد سجناء الرأي في البحرين مؤخرا، بانها رأت آثار الصعقات الكهربائية علي ساقي زوجها عندما زارته الشهر الماضي في السجن، واضافت ان السجناء السياسيين يحرمون من النوم، ويفرض عليهم خلع ملابسهم جميعها، والتجمع معا في قاعة واحدة وهم عراة. ما الهدف من ذلك؟ كسر ارادة المعتقل؟ اهانته؟ سلخه من انسانيته؟ اجباره علي الاعتراف؟ بماذا؟ بانه يطالب بحقوقه؟ ام بانسانيته؟ وما يجري في البحرين لا يختلف كثيرا عما يحدث في زنزانات التعذيب بالمخافر والسجون العربية الاخري. فما جدوي توقيع المعاهدات الدولية اذن، خصوصا معاهدة منع التعذيب؟ الواضح عدم وجود آليات فاعلة لمراقبة مدي التزام الموقعين علي تلك الاتفاقات والمعاهدات من الناحية العملية، ورهان الانظمة الموقعة علي تحويلها الي دعاية اعلامية لاسكات المنظمات الدولية المهتمة بهذه الشؤون. يضاف الي ذلك ان السنوات الا خيرة، خصوصا بعد تصاعد المدخولات النفطية، شهدت توجه العديد من الدول العربية ذات السجلات الحقوقية السوداء لشراء مواقف المنظمات الحقوقية الدولية، بتقديم دعم مالي لها، او لبعض موظفيها (بصورة سرية)، لحملها، ليس علي مدح الانظمة، بل التقليل من التعرض لها بالشجب واظهار النقائص خصوصا في مجال حقوق الانسان. كما عمدت لاسكات الوسائل الاعلامية المستقلة بشراء مواقف بعض كتابها ومحرريها، اذا رفض مالكوها التعاون معهم.

العالم العربي يقف علي اعتاب ثورة شعبية طال انتظارها. فما هي معالم هذه الثورة؟ وما معوقاتها؟ وما خطوات الانظمة لاتقاء شرها؟ ان من المؤكد ان النار تعتمل تحت الرماد، وتختفي تحت السطح. فهناك من مقومات التمرد وتحدي الانظمة ما يكفي لذلك. ولكن، مرة اخري، تبدو الارادة غائبة او ومغيبة، وتبرز الجوانب المادية كعوامل فاعلة في توازن الساحتين الاعلامية والسياسية. بينما تبقي الشعوب مرتهنة لدي هذه الانظمة ذات الوفرة المالية الواسعة، ويتسابق لاعقو القصاع، لنيل الحظوة لدي السلطان، غير آبهين بأنات المعتقلين وآهات الذين يقضون ليلهم ونهارهم تحت التعذيب المتواصل. قيل منذ فترة ان العالم بدخوله الالفية الميلادية الثالثة سوف يصبح أكثر تحضرا، وأكثر ميلا نحو احترام حقوق الانسان، وأقل انتهاكا لها. الامر لا يبدو كذلك في هذه اللحظة. فطالما بقيت مصالح الدول الكبري مرتبطة بشكل وثيق ببقاء الانظمة الاستبدادية القمعية في العالمين العربي والاسلامي، فلن يطرأ تغير جوهري علي عقليات الحاكمين، وسيظل الوضع جامدا بانتظار هزة ضميرية واخلاقية واسعة، تنبعث من داخل الامة، وليس من خارجها. ان التعذيب ممارسة وحشية لا تنسجم مع القيم الانسانية التي تم الترويج لها في العقود الاخيرة، ولا ترتبط بانتماء الانسان لهذه السحنة المخلوقة من البشر. فمتي ينتهي التعذيب؟ ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشد التلازم بين واقع اية أمة وتاريخها. وقد جاء في كتب السير وصف دقيق لممارسة التعذيب في عالم المسلمين، اذ يحلو للجلادين والمعذبين الامعان في الحاق الاذي بضحاياهم بهدف الحصول علي معلومات غير دقيقة. فكان من بين تلك الاساليب: دق المسامير في اليدين بعد ايقاف السجين علي كرسي، ثم يترك، بعد سحب الكرسي، معلقا كما فعل بيحيي بن عبد الله بن الحسن المثني. حدث ذلك في سجن المطبق الواقع تحت الارض. وبرغم الظروف السيئة التي كان يعاني منها المؤمنون فقد كانوا حريصين علي اداء صلواتهم في اوقاتها وكانت ساعتهم في التوقيت قراءة القران حيث يوزعون الاوقات علي الاجزاء. اننا نتحدث عن تاريخ طويل حافل بالاخفاقات الاخلاقية برغم الانتساب الشكلي للاسلام. وربما آن الأوان ان يقوم النشطاء بعمل نوعي لاعادة جذب الاضواء لما يجري في السجون، علي امل ان يؤدي ذلك الي انفتاح اوسع، وقمع أقل، فذلك هو الطريق الي الحوار بعيدا عن الاعلام الغوغائي وشراء الاقلام التي تقر الظلم وترفض وصف أنات المظلومين في زنزانات التعذيب. ان احترام الانسان هو الخطوة الاولي نحو التنمية والتقدم، ولا يمكن ان تتقدم امة العرب والمسلمين الا باحترام ابنائها وحمايتهم من شرور الاعتقال التعسفي والتعذيب والقتل خارج القانون.

09/04/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى