صفحات الناس

روزيت وأكرم في عيد حبهما الثلاثين

null


رستم محمود

(إلى بيسان البني…زهرة)

عينان خضراوان، وشعر أشقر لا يهاب الشيب، يدان مغبرتان من تجهيزات عيد الفصح، هدوء بالغ الى حد الطمأنينة. أشياء كثيرة مثل هذه تعطيك حساً قوياً في عشق الحياة، حينما تلاقي روزيت البني وهي تمارس يومها الاعتيادي. تلك القوة التي لا تكتشفها بها إلا حينما تروي لك روزيت حكاية حبها لأكرم البني منذ ثلاثين عاما:

سنة 1978 سُجنا للمرة الأولى، أنا وأكرم. كنا وقتها في فترة الخطوبة، والصدفة السعيدة كانت أننا سجنا في المكان نفسه. كان السجن الأول ذاك، في منطقة الحلبوني وسط دمشق. لقد كان على شكل بيت دمشقي قديم، مؤلف من طابقين وقبو. كنا نحن الصبايا محبوسات في الطابق الثاني، والشباب، ومنهم أكرم، في القبو. لم نكن نرى بعضنا البعض إلا حينما يخرجونهم للاستراحة، وقت الظهيرة. كانوا يخرجونهم لساحة السجن “أرض الديار في ذلك المنزل الدمشقي القديم”. وقتها كنت أرى أكرم من ثقب صغير كان في جدار الغرفة التي كنت مسجونة فيه. لكني لم أكن أستطيع التكلم معه. بعد حين، اكتشفت أن الثقب قابل للحك والتوسيع، وقد مددناه إلى أن أصبح يسع اليد الواحد. من ذلك الثقب كنت أخرج يدي وألوح بها له… ثم بدأنا طريقة جديدة بالكلام عن طريق الإشارات بالأيدي… فمثلا الرقم واحد كان يعني الحرف ألف، والرقم اثنان كان يعني الحرف باء والرقم ثلاثة كان الحرف تاء… وهكذا كنا نمضي ساعات من الأحاديث التي كانت تطاول كل جوانب الحياة العامة والشخصية…. وقد بقينا كذلك طوال مدة تلك المسجونية، التي استمرت لما يقارب السنتين

بعد السجن حصل القران، لكن الحياة الزوجية لم تدم أكثر من أربعة أشهر. حيث أضطر أكرم، القيادي وقتئذ في حزب رابطة العمل الشيوعي، الى التواري عن الأنظار، واستمر على تلك الحالة سبع سنوات. أكرم متوار وروزيت تلاقيه سرا، وتربي زهرة حبهما، الطفلة بيسان. بعد سبع سنوات من الاختباء، يدخل أكرم السجن من جديد. وتدوم مسجونيته هذه المرة ما يزيد عن العقد والنصف من الزمن. في تلك الفترة كانت روزيت تلاقيه كل أسبوع، من وراء الشباك الحديدي، وكانت الطفلة بيسان تتحول يوما بعد آخر إلى يافعة ومن ثم شابة تقارب أبويها طولاً وعشقاً للحياة. لكن دون أن تحيى معهما للحظة، في ظل سقف واحد.

حينما كان ربيع دمشق، كان لم الشمل الأول للعائلة، والذي لم يستمر طويلا على اي حال، حيث أعيد أكرم إلى السجن الذي لم يغادره منذ فترة طويلة. لكن الصورة هذه المرة كانت أقسى. ففي المرات السابقة، كان أكرم الغائب، فقط أكرم الحبيب، لكن هذه المرة كان الغائب هو الحبيب والأب.

تعيد ترتيب جلستك، وأخذ كمية زائدة من الأوكسجين، كي تساعد ذهنك على استيعاب حكاية بكل تلك القسوة، وطبعا أيضا كي تحمي جهازك العصبي من الانفجار. لكن روزيت تساعدك وتبسط لك المعادلة، بعد أن تكون قد أخذت نفسا شرها من سيكارتها: “الحياة جميلة للغاية، وتستحق أن تعاش بطريقة جميلة. لقد حدثني الآخرون عن أكرم حينما كان في السجن. ففي الوقت الذي كانت عيناه معصوبتين، ويداه مكبلتين، وهو في وضعية التعذيب، في ذلك الوقت كان أكرم قادراً على إلقاء النكات على مسامع معذبيه والضباط المحققين، الذين كانوا يصابون بهستيريا من ضحك. وهذا ما أكده لي الكثيرون ممن عاشروه أيام السجن… لذا تحوي الحياة دوما وجها مشرقا، يؤهلها لأن تكون جديرة بأن تعاش. هذا ما تعلمته من أكرم“.

تخرج من منزل أكرم البني في صباح عيد الفصح ذاك، لا تجد الأشياء نفسها التي كنت قد رأيتها قبل تلك الزيارة. فالشوارع التي مررت بها قبل ساعة من الآن، تبدو أرحب مما كانت. والأناس الذين لاقيتهم قبل وقت قصير، تحولت وجوههم الصفراء إلى نضارة وعزيمة بالغة. سائق التاكسي، النهر الذي جف، الحديقة التي كستها الأكياس من الإهمال، أزمة السير… وقبل كل هؤلاء، أنت نفسك. حيث وجدتها بعد الزيارة أصغر مما كنت تتصورها، لكن دون شك….. أكثر عزما.

المستقبل – الاحد 13 نيسان 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى